تحقيق التوحيد في باب الخوف
والخوف عمل من الأعمال القلبية، فهو من أصول الإيمان الواجبة على كل مكلف، وهو -أيضاً- من توحيد الألوهية
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد:
مادّة (خ وف) في أصل اللغة تدل على الذّعر والفزع وهذا أكثر معانيه من جهة الوضع والاستعمال والحمل وعند الاطلاق، فيقال: خاف يخاف خوفًا وخيفة ومخافة، ومنه التخويف والإخافة، والنعت منها خائف، وفي القرآن الكريم يأتي الخوف على عدة معان، أهمها (الحرب والقتال والعدو)، و(القتل والهزيمة)، و(العلم والدراية)، و(الظن والنقص)، وأما في الاصطلاح فهو اضطراب في القلب وعدم الأمن نتيجة حدوث مكروه في الحال، أو توقع حدوثه في الاستقبال أو فوات محبوب، عن أمارة مظنونة، أو معلومة.
والخوف عمل من الأعمال القلبية، فهو من أصول الإيمان الواجبة على كل مكلف، وهو -أيضاً- من توحيد الألوهية لأنه عبادة قلبية ومن أقسامه ما يكون شركا أكبرا ينافي التوحيد ومنه ما يكون دون ذلك ينافي كمال التوحيد، والخوف من أجل مقامات الدين وأعظم منازل الطريق وأنفعها للقلب بل إنه سوط الله تعالى يسوق به عباده إلى المواظبة على العلم والعمل جميعا، لينالوا بهما رتبة القرب من الله تعالى، ولا يبلغ أحد مأمنه من الله إلا بالخوف، والخوف مع المحبة والرجاء من أركان العبودية والتعبد، فبالمحبة يكون امتثال الاوامر وبالخوف يكون اجتناب النواهي، ولذلك في التوحيد يعقبون المحبة بالخوف، فلا يتم توحيد العبد ولا تصح عبادته وإيمانه إلا بتعلق الخوف بالله ومحبته وحده لا شريك له.
وقد وردت كلمة خوف في القرآن الكريم بتصريفاتها المختلفة مئة وثلاثة وعشرين مرة، تارة بالماضي وتارة بالمضارع وأخرى بالأمر، وتارة بالمصدر وغيره من المشتقات وفي ذلك إشارة لأهميته وكثرة حدوثه وتجدده وكثرة الخائفين في كل زمان ومكان، فلا وجود لطاعة ولا لمعصية إلا والخوف محفز لهما، آمر لهما أو ناه، فبالخوف يحصل المطلوب والمرغوب وبه يجتنب المرهوبٍ، ولذلك لما علم الشيطان أن الانسان أجوف لا يتمالك جزوع يخاف العيلة هلوع منوع ضعيف، قعد له بأطرقه، قعد له بطريق الاسلام والهجرة والجهاد، وخوفه الموت والرزق والفقر كما قال تعالى { (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ)} فهو عدو الله لا يأمر حتى يخوف ويزين كما قال الله تعالى { (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين) } وعادة القرآن إذا نهى عن شيء فهو في الغالب يأمر بما يُقابل ذلك، فالنهي وحده لا يكفي والنفوس خلقت لتعمل، لا لتترك، وإنما الترك مقصود لغيره، فنهى الله عن خوف وتخويف الشيطان وأولياءه ووساوسه وخطواته، وأمر بصرف عبادة الخوف له وحده لا شريك له، فالله أحق بالخوف، وخوفه يوجب فعل ما أمر به.
ولتحقيق التوحيد في باب الخوف ينبغي الوقوف على أقسامه، وأقسامه تختلف بحسب متعلقاته، ، وأما أقسامه باعتبار وصفه فهناك خوف محمود وخوف مذموم، فالخوف المحمود هو الذي يبعث على العمل، ويزعج القلب عن الركون إلى الدنيا ويحمل صاحبه على مطالعة جوانب قصور نفسه بقصد تكميلها وعلى التوبة الى الله عز وجل ومجانبة الذنوب والمعاصي، فهو خوف لا يجنى منه إلا المصالح الخالصة أو الراجحة، وأما الخوف المذموم فهو كل خوف لم تنعقد أسبابه ومنه الجبن الذي استعاذ منه النبي صلى الله عليه وسلم، أو كل خوف ليس معه عمل، أو كل خوف يمنع العمل ، أو كل خوف زاد عن حده وتجاوز درجات الاعتدال حتى يخرج إلى اليأس والقنوط، أو هو كل خوف انعدم توازنه مع الرجاء، أو هو كل خوف فيما لا يقدر عليه إلا الله إذا صرف لغيره ، أو هو ما كانت مفاسده خالصة أو راجحة . فأما أقسام الخوف باعتبار المخوف منه فهو نوعان: خوف من الخالق وخوف من المخلوق، أما الخوف من الخالق ويسمى (خوف العبادة والتأله) وهو الخوف المقترِن بالمحبة والتعظيم والتذلل والخضوع والرجاء، وهو الذي يحمل العبدَ على الطاعة والبعد عن المعصية، وأما الخوف من المخلوق أو من غير الله فهو على ثلاثة أنحاء: أولها خوف جبلي طبيعي وهو خوف مباح إذا انعقدت أسبابه أو ضعفت، ولا يُلام عليه العبد، بشرط ألا يؤدي إلى ترك واجب أو فعل محرَّم، وألا يستقر في القلب بحيث يزيد عن الحد وهذا يُذهبه العبد ويَدفعه عن قلبه بالتوكل على الله واللجوء إليه سبحانه، وثانيها خوف محرم يحمل العبد على ترك واجب أو فعل محرم خوفا من فوات مرغوب أو خوفا من حصول مرهوب، وثالثها هو خوف السر: هو خوف غيرِ الله فيما لا يقدر عليه إلا الله؛ كمَن يخاف مِن ولي أو إنس أو جن، أن يصيبه بمرض أو مكروه أو أذى مما لا يقدر عليه إلا اللهُ كما هو الشأن في الخلق والرزق والشفاء والإحياء والإماتة ونحوها، والخوف الجبلي إذا وجدت أسبابه هو قوة فطرية لازمة للمحافظة على بقاء النوع الإنساني وحفظ ضرورياته الخمس والخوف التعبدي هو قوة إيمانية لازمة للمحافظة على بقاء الإسلام والخير في المسلمين والناس.
وتحقيق التوحيد في باب الخوف نوعان: واجب ومستحب، فالتحقيق الواجب تخليص التوحيد وتصفيته عن شوائب الشرك والبدع والاصرار على المعاصي ولذلك قال ابرهيم عليه السلام (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ) منطوقه أنه نبي وخليل الله وخاف على نفسه الشرك الذي يهدم الإسلام ومفهومه أن يجنبه كذلك وسائل ومقدمات الشرك وهي المعاصي والبدع التي تضعف الإسلام، والتحقيق المستحب يزيد على ذلك بتخليصه وتصفيته مما يشوب كماله المستحب من الخوف على الرزق ونحوه، وأهل العلم لما ذكروا التوحيد وفضله وتحقيقه ناسب أن يذكروا الخوف من ضده وهو الشرك والبدع والاصرار على المعاصي، ليحذَره المؤمن ويخافه على نفسه، وكل ذلك من تحقيق التوحيد .
واعلم أن الخوف إنما يكون عبادةً إذا كان خوفاً من مقام الله سبحانه وتعالى، وخوفاً من الوعيد الذي توعّد به من خالفوا أوامره واقترفوا نواهيه، وهذان هما متعلّقا الخوف، وقد جمع الله بينهما في قوله تعالى: {{ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد}} والخوف من مقامه تعالى على عباده بالاطلاع والقدرة والمحاسبة أو هو خوف المقام بين يديه يوم القيامة، يقتضي الخوف من وعيده الذي توعد به المخالفين لشرعه الخارجين عن طاعته، ويقتضي الخوف من فوات وعده الذي وعد به الطائعين لأمره، فالخوفُ من الله يبعث على العمل الصالح والإخلاص فيه .
وإن أخوف الناس أعرفهم بنفسه وبربه، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: « "أنا أعرفكم بالله، وأشدكم له خشية"» وقال تعالى: {{إنما يخشى الله من عباده العلماء} } وإذا كملت المعرفة، أثرت الخوف، ففاض أثره على القلب، ثم ظهر على الجوارح والصفات. فإذا كان خوفك يقمع شهواتك، ويكدر لذاتك، فتصير المعاصي المحبوبة عندك مكروهة والطاعات الثقيلة عندك خفيفة مرغوبة، وتأدبت جوارحك، وذل قلبك واستكان، وفارقه الكبر والحقد والحسد وأمراضه، وصرت مستوعب الهم لخوفك، والنظر في خطر عاقبتك، فإنك لن تتفرغ لغيره، ولا يكون لك شغل إلا المراقبة والمحاسبة، والمجاهدة، والضنة بالأنفاس واللحظات، ومؤاخذة النفس في الخطرات والخطوات والكلمات، فقوة المراقبة والمحاسبة بحسب قوة الخوف، وقوة الخوف بحسب قوة المعرفة بجلال الله تعالى، وصفاته، وبعيوب النفس، وما بين يديها من الأخطار والأهوال، وأقل درجات الخوف مما يظهر أثره في الأعمال، أن يمنع المحظورات ويحملك على فعل الواجبات، فإن منع ما يتطرق إليه إمكان التحريم، سمي ورعاً، وإن انضم إليه التجرد والاشتغال بذلك عن فضول العيش، فهو الصدق.
فالخلاصة أن الخوف المأمور به هو الخوف من الله، الذي اقترن بالمحبة والرجاء فهو يبعث على العلم النافع والعمل الصالح وعلى الاخلاص فيهما، وأما الخوف مع الله فهو من التنديد والشرك، وعبادة الخوف مقصودة لغيرها بخلاف المحبة التي تقصد لذاتها، ولذلك في الجنة تثبت المحبة وتزداد ويتلاشى الخوف وينعدم (( «يقول الله عز وجل: وعزَّتي، لا أجمع على عبدي خوفينِ، ولا أجمع له أمنينِ؛ إذا أمِنَني في الدنيا أخفتُه يوم القيامة، وإذا خافني في الدنيا أمَّنتُه يوم القيامة» )) .
فاعلم أرشدك الله لخوفه أنه لا يعد خائفا من لم يكن للذنوب تاركا، الزيادة بالزيادة والنقص بالنقص، فالله سبحانه يأمر بأشد الخوف منه وهو الخشية، والخشية هي الخوف الذي يشوبه تعظيم ومحبة ورجاء وأكثر ما يكون ذلك عن علم به سبحانه وبأمره، ولا يستقيم خوف العبد إلا باقتران الخوف الذي هو فرار إلى الله ذعرا وفزعا بالطمع فيما عنده تعالى، فخيرة خلق الله وصفوتهم كانوا يعبدون الله خوفا وطمعا، رغبا ورهبا، وتصديقه هو العمل بما يرضيه جل وعلا وفي الحديث «(من خاف أدلجَ ومَن أدلج بلغ المنزلَ ألا إن سلعةَ اللهِ غاليةٌ ألا إن سلعةَ اللهِ الجنةُ) » حتى قال بعض أهل العلم «(واعلم أنه ما عُبِدَ الله بمثل الخوف من الله)» وإن خشية الله والوجل منه والخوف من عقابه هو وصف الملائكة الأبرار، والأنبياء الكرام، والعباد والصالحين الأخيار، وأهل الجنة الأطهار، كلهم تحقق فيهم قوله تعالى {{يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون}} جمعوا احسانا وخشية وغيرهم جمع إساءة وأمنًا، والأصل استواء الخوف والرجاء في قلب المؤمن إلا إذا اقتضت المصلحة تغليب أحدهما، لأنه إنْ غلَّب جانب الرجاء، أَمِنَ مكرَ الله، وإنْ غلَّب جانب الخوف، يئس من رحمة الله، فدلت الادلة الشرعية على تغليب جانب الرجاء عند الموت والتوبة، وعلى تغليب جانب الخوف عند وفور الصحة والمال وقرب المعصية، والمرء طبيب نفسه مع استعانته بالله وتوكله عليه والله يتولى الخائفين والراجين .
كتبه محمد بن عبد الله يسير
- التصنيف: