أطب مطعمك
إنّ الكسب الحلال والمطعم الطيب له ثمراتٌ عظيمة ينبغي لكل مسلمٍ أن يبذل جهده للحصول عليها، فهناك أسبابٌ ووسائل تعين على الوصول إليها.
فأوصيكم أيُّها النَّاسُ ونفسي بتقوى الله عزَّ وجلَّ، فاتقوا اللهَ رحمكم اللهُ، واغتنموا الأوقات واللحظات، وجِدُّوا في الطاعات، وسارعوا في الخيرات، واحذروا الغفلاتِ فإنَّها دركاتٌ.. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِين * قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُون} [يونس:57]..
معاشر المؤمنين الكرام: نعيشُ في زمنٍ تسارعت فيه الأهواءِ والرغبات، وتكاثرت فيه الشبهات والشهوات، ولا نجاة للمسلم إلا أن يتمسك بقِيمه الإسلامية النبيلة، ويتشبثَ بتعاليم دينهِ القويمة، ومن أهم هذه القيم: تحري الحلال وطِيبِ المطعم، فلئن كان المالُ هو عصبُ الحياة، فإن تحري الحلالَ هو أسلوبُ حياةٍ يترتبُ عليه الفوز والسعادة في الدنيا والآخرة، أو الخسارة والهلاك فيهما معاً..
ولقد تساهل كثيرٌ من المسلمين في هذا الأمر الخطير، ففي الحديث الصحيح، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل جسمٍ نبت مِنَ سُحْتٍ، فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ).. وفي حديثٍ آخر: «لا يدخلُ الجنَّةَ جسدٌ غُذِيَ بحرامٍ».. وإنَّ من العجبِ يا عباد الله: أن يحتمي بعض الناس من الحلال مخافةَ المرض، ولا يحتمون من الحرام مخافةَ النار.. كيف وطلبُ الحلالِ وتحرِّيهِ من أوجبِ الواجبات، ومن أهم المهمات: فلن تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يُسأل عن ماله: من أين اكتسبه، وفيما أنفقه.. وفي الحديث الصحيح: ( «إن الله طيِّبٌ لا يقبل إلا طيبًا» )..
ألا وإنَّ من عظيم رحمةِ الله وفضله على عباده أنه سبحانه تكفّلَ لكل حيٍّ بالرزق الحلال الطيب، فقال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هود6]، وقال جل وعلا: {وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِيَ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُون} [المائدة:88].. وفي الحديث الصحيح: «إنَّ رُوحَ القُدُسِ نفثَ في رُوعِي، أنَّ نفسًا لَن تموتَ حتَّى تستكمِلَ أجلَها، وتستوعِبَ رزقَها، فاتَّقوا اللهَ، وأجمِلُوا في الطَّلَبِ».. وعندما يستريب المؤمن أو يشك في مكسبٍ ما، أهو من الحلال البين أم من الحرام البين، فإنّ السلامة لا يعدلها شي، ففي الحديث الصحيح: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك».. ولا شك أنَّ تحري المكسب الحلال والمطعم الطيب له ثمراتٌ عظيمةٌ، وفوائدٌ جمة..
وأول هذه الثمرات: أنَّ تحرِّي المكسبَ الحلال، إنَّ كان طاعةً لله تعالى، فهو عبادةٌ جليلةٌ يؤجرُ المسلم عليها، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة:172].. وفي صحيح البخاري ومسلم، «إنَّ المُسْلِمَ إذا أنْفَقَ علَى أهْلِهِ نَفَقَةً، وهو يَحْتَسِبُها، كانَتْ له صَدَقَةً»..
وثاني الثمرات: أنَّ تحري الحلالَ وطِيبَ المطعمِ من أسباب صلاحِ القلوب: ففي الصحيحين عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما، قال: سَمِعْتُ رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ: «إنَّ الحَلالَ بَيِّنٌ، وإنَّ الحَرامَ بَيِّنٌ، وبيْنَهُما مُشْتَبِهاتٌ لا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ، وعِرْضِهِ، ومَن وقَعَ في الشُّبُهاتِ وقَعَ في الحَرامِ، كالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الحِمَى، يُوشِكُ أنْ يَرْتَعَ فِيهِ، ألا وإنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، ألا وإنَّ حِمَى اللهِ مَحارِمُهُ، ألا وإنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً، إذا صَلَحَتْ، صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وإذا فَسَدَتْ، فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، ألا وهي القَلْبُ».. فالحديث يربطُ بين أكلِ الحلالِ وصلاحِ القلب.. ولذا حين سُئلَ الإمامُ أحمد رحمه الله: بمَ تلينُ القلوب؟ قال: بأكل الحلال..
أما ثالث الثمرات: فهي أنّ تحري الحلال وطِيبَ المطعمِ من أسباب حصول السعادة والحياةِ الطيبة المطمئنة، في الحديث الصحيح أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: أربعٌ إذا كنَّ فيكَ فلا عَليكَ ما فاتَكَ منَ الدُّنيا: حفظُ أمانةٍ، وَصِدْقُ حديثٍ، وحُسنُ خَليقةٍ، وعفَّةٌ في طعمةٍ..
الثمرة الرابعة: أنّ تحري الحلال وطِيبَ المطعم من أسباب صلاح الأبناء: قال إسماعيل بن إبراهيم البخاري، والد صاحب صحيح البخاري: «لا أعلم في جميع مالي درهمًا من شُبهة» ، تأمل ففي هذه البيئة الطاهرة والبيت الصالح نشأ الإمام البخاري رحمه الله، وغالب الظنّ أنَّ طِيب المكسبَ كان له أثرٌ في صلاحه ونبوغه..
الثمرة الخامسة: أنّ تحري الحلال وطِيبَ المطعمِ من أسباب إجابةِ الدعاء: ففي صحيح مسلم: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أشْعَثَ أغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إلى السَّماءِ، يا رَبِّ، يا رَبِّ، ومَطْعَمُهُ حَرامٌ، ومَشْرَبُهُ حَرامٌ، ومَلْبَسُهُ حَرامٌ، وغُذِيَ بالحَرامِ، فأنَّى يُسْتَجابُ لذلكَ؟!)..
الثمرة السادسة: أنّ تحري الحلالَ وطِيبَ المطعم، من أسباب دخول الجنة، والنجاة من النار.. ففي الحديث الصحيح، قال صلى الله عليه وسلم: «إنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لا يَقْبَلُ إلَّا طَيِّبًا» ، وفي صحيح البخاري أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن رجالًا يتخوَّضون في مال الله بغير حق، فلهم النار يوم القيامة» ، وفي الحديث الصحيح، «يا كعبُ بنَ عُجرَةَ إنه لا يدخل الجنَّةَ لحمٌ نبَت من سُحتٍ».. وقال وهيب بن الورد رحمه الله: لو قمت مقام هذه السارية لم ينفعك شيءٌ حتى تنظر ما يدخل بطنك أحلالٌ أم حرام، وقال بعض الصالحين: من أكل الحرامَ عصت جوارحهُ شاءَ أم أبى، ومن كانت طُعمتهُ حلالًا أستقامت جوارحه، ووفق للخيرات..
فاحذَروا أيها المسلمون من كل كسبٍ خبيث، ولا تَغرنَّكم الدنيا فإنها متاعٌ قليل، ولذةٌ عابرة، واعلموا أنكم إن اتَّقيتم الله وتحريتم فيها الحلال، رزقكم الله من حيث لا تحتسبوا، وبارك لكم فيما أعطاك، ومن تركَ شيئًا للهِ عوَّضهُ اللهُ خيرًا منه..
معاشر المؤمنين الكرام: كما أنّ الكسب الحلال والمطعم الطيب له ثمراتٌ عظيمة ينبغي لكل مسلمٍ أن يبذل جهده للحصول عليها، فهناك أسبابٌ ووسائل تعين على الوصول إليها.. أولها:
التوبة والاستغفار: فلنتأمل ما يقوله الحق جل وعلا: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [نوح: 10، 12]..
ومما يُعين على كسب الحلال، تقوى الله تعالى والبُعدَ عن المعاصي: قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف:96]، وقال تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2، 3].. وفي الحديث الحسن: إن العبدَ ليُحرَمُ الرزقَ بالذنبِ يصيبُه..
ومما يُعين على كسب الحلال، حُسن التوكل على الله تعالى، قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق:3]، وفي الحديث الصحيح، قال عليه الصلاة والسلام: «لو أنَّكُم تتوَكَّلونَ على اللَّهِ حقَّ توَكُّلِه لرزقَكم كما يرزقُ الطَّيرَ تغدو خِماصًا وتروحُ بطانًا»..
ومما يعينُ على كسب الحلال، حُسنُ التعبد لله جلّ وعلا: قال تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:132].. وفي الحديث القدسي الصحيح، قال الله تعالى: «يا ابْنَ آدَمَ تَفَرَّغْ لِعبادتِي، أملأْ قلْبَكَ غِنًى، وأملأْ يدَيْكَ رِزقًا، يا ابنَ آدمَ لا تُباعِدْ مِنِّي، أملأْ قلبَكَ فَقْرًا، وأملأْ يدَيْكَ شُغْلًا»..
ومما يعين على كسب الحلال، الإكثارُ من الصدقة ومساعدة المحتاجين، قال الله تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ:39]، وفي الصحيحين أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قال اللَّهُ تعالى: أنْفِقْ يا ابْنَ آدَمَ أُنْفِقْ عَلَيْكَ».. وفي الحديث الصحيح قال عليه الصلاة والسلام: «ابغوني في ضُعفائِكم؛ فإنَّما تُرزَقونَ وتُنْصَرُونَ بضُعفائِكم»..
ومن الأسباب المعينةِ على كسب الحلال، صلة الرحم، ففي الصحيحين قال عليه الصلاة والسلام: «مَن أحَبَّ أنْ يُبْسَطَ له في رِزْقِهِ، ويُنْسَأَ له في أثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ».. وفي الحديث الصحيح: «صلةَ الرَّحمِ محبَّةٌ في الأهلِ، مَثراةٌ في المالِ، مَنسَأةٌ في الأثَرِ»..
ومن الأسباب المعينة على كسب الحلال، الزواج: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: عجبي ممن لا يطلبُ الغنى في النكاح وقد قال الله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [النور:32]..
ومما يعين على كسب الحلال، المتابعةٌ بين الحجِّ والعمرة: ففي الحديث الصحيح، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تابِعوا بينَ الحجِّ والعمرةِ، فإنَّهُما ينفيانِ الفقرَ والذُّنوبَ، كما ينفِي الكيرُ خبثَ الحديدِ»..
ومن الأسباب كذلك، الإلحاح في الدعاء: قال تعالى: {وَاسْأَلُواْ اللّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [النساء:32]، وعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّه قال لرجل: أَلا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ عَلَّمَنِيهِنَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَوْ كَانَ عَلَيْكَ مِثْلُ جَبَلِ صِيرٍ دَيْنًا أَدَّاهُ اللَّهُ عَنْكَ، قَالَ: قُلْ: «اللَّهُمَّ اكْفِنِي بِحَلالِكَ عَنْ حَرَامِكَ وَأَغْنِنِي بِفَضْلِكَ عَمَّنْ سِوَاكَ»..
ألا فلنتق الله ولنتذكر أنه لا سعادة في الدنيا، ولا بركة في الحياة، ولا فوز ولا نجاة في الآخرة إلا بتحري الحلال وإطابة المطعم والمشرب، والبعد البعد عن الحرام.. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُون} [168]..
ويا ابن آدم عش ما شئت ما شئت فإنك ميت، واحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، البر لا يبلى، والذنب لا ينسى، والديان لا يموت، وكما تدين تدان..
اللهم صل على محمد...
______________________________________________________
الكاتب: الشيخ عبدالله محمد الطوالة
- التصنيف:
عنان عوني العنزي
منذ