أطب مطعمك

منذ 2024-12-28

إنّ الكسب الحلال والمطعم الطيب له ثمراتٌ عظيمة ينبغي لكل مسلمٍ أن يبذل جهده للحصول عليها، فهناك أسبابٌ ووسائل تعين على الوصول إليها.

فأوصيكم أيُّها النَّاسُ ونفسي بتقوى الله عزَّ وجلَّ، فاتقوا اللهَ رحمكم اللهُ، واغتنموا الأوقات واللحظات، وجِدُّوا في الطاعات، وسارعوا في الخيرات، واحذروا الغفلاتِ فإنَّها دركاتٌ.. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِين * قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُون} [يونس:57]..

 

معاشر المؤمنين الكرام: نعيشُ في زمنٍ تسارعت فيه الأهواءِ والرغبات، وتكاثرت فيه الشبهات والشهوات، ولا نجاة للمسلم إلا أن يتمسك بقِيمه الإسلامية النبيلة، ويتشبثَ بتعاليم دينهِ القويمة، ومن أهم هذه القيم: تحري الحلال وطِيبِ المطعم، فلئن كان المالُ هو عصبُ الحياة، فإن تحري الحلالَ هو أسلوبُ حياةٍ يترتبُ عليه الفوز والسعادة في الدنيا والآخرة، أو الخسارة والهلاك فيهما معاً..

 

ولقد تساهل كثيرٌ من المسلمين في هذا الأمر الخطير، ففي الحديث الصحيح، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل جسمٍ نبت مِنَ سُحْتٍ، فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ).. وفي حديثٍ آخر: «لا يدخلُ الجنَّةَ جسدٌ غُذِيَ بحرامٍ».. وإنَّ من العجبِ يا عباد الله: أن يحتمي بعض الناس من الحلال مخافةَ المرض، ولا يحتمون من الحرام مخافةَ النار.. كيف وطلبُ الحلالِ وتحرِّيهِ من أوجبِ الواجبات، ومن أهم المهمات: فلن تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يُسأل عن ماله: من أين اكتسبه، وفيما أنفقه.. وفي الحديث الصحيح: ( «إن الله طيِّبٌ لا يقبل إلا طيبًا» )..

 

ألا وإنَّ من عظيم رحمةِ الله وفضله على عباده أنه سبحانه تكفّلَ لكل حيٍّ بالرزق الحلال الطيب، فقال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هود6]، وقال جل وعلا: {وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِيَ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُون} [المائدة:88].. وفي الحديث الصحيح: «إنَّ رُوحَ القُدُسِ نفثَ في رُوعِي، أنَّ نفسًا لَن تموتَ حتَّى تستكمِلَ أجلَها، وتستوعِبَ رزقَها، فاتَّقوا اللهَ، وأجمِلُوا في الطَّلَبِ».. وعندما يستريب المؤمن أو يشك في مكسبٍ ما، أهو من الحلال البين أم من الحرام البين، فإنّ السلامة لا يعدلها شي، ففي الحديث الصحيح: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك».. ولا شك أنَّ تحري المكسب الحلال والمطعم الطيب له ثمراتٌ عظيمةٌ، وفوائدٌ جمة..

 

وأول هذه الثمرات: أنَّ تحرِّي المكسبَ الحلال، إنَّ كان طاعةً لله تعالى، فهو عبادةٌ جليلةٌ يؤجرُ المسلم عليها، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة:172].. وفي صحيح البخاري ومسلم، «إنَّ المُسْلِمَ إذا أنْفَقَ علَى أهْلِهِ نَفَقَةً، وهو يَحْتَسِبُها، كانَتْ له صَدَقَةً»..

 

وثاني الثمرات: أنَّ تحري الحلالَ وطِيبَ المطعمِ من أسباب صلاحِ القلوب: ففي الصحيحين عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما، قال: سَمِعْتُ رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ: «إنَّ الحَلالَ بَيِّنٌ، وإنَّ الحَرامَ بَيِّنٌ، وبيْنَهُما مُشْتَبِهاتٌ لا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ، وعِرْضِهِ، ومَن وقَعَ في الشُّبُهاتِ وقَعَ في الحَرامِ، كالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الحِمَى، يُوشِكُ أنْ يَرْتَعَ فِيهِ، ألا وإنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، ألا وإنَّ حِمَى اللهِ مَحارِمُهُ، ألا وإنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً، إذا صَلَحَتْ، صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وإذا فَسَدَتْ، فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، ألا وهي القَلْبُ».. فالحديث يربطُ بين أكلِ الحلالِ وصلاحِ القلب.. ولذا حين سُئلَ الإمامُ أحمد رحمه الله: بمَ تلينُ القلوب؟ قال: بأكل الحلال..

 

أما ثالث الثمرات: فهي أنّ تحري الحلال وطِيبَ المطعمِ من أسباب حصول السعادة والحياةِ الطيبة المطمئنة، في الحديث الصحيح أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: أربعٌ إذا كنَّ فيكَ فلا عَليكَ ما فاتَكَ منَ الدُّنيا: حفظُ أمانةٍ، وَصِدْقُ حديثٍ، وحُسنُ خَليقةٍ، وعفَّةٌ في طعمةٍ..

 

الثمرة الرابعة: أنّ تحري الحلال وطِيبَ المطعم من أسباب صلاح الأبناء: قال إسماعيل بن إبراهيم البخاري، والد صاحب صحيح البخاري: «لا ‌أعلم ‌في ‌جميع ‌مالي درهمًا من شُبهة» ، تأمل ففي هذه البيئة الطاهرة والبيت الصالح نشأ الإمام البخاري رحمه الله، وغالب الظنّ أنَّ طِيب المكسبَ كان له أثرٌ في صلاحه ونبوغه..

 

الثمرة الخامسة: أنّ تحري الحلال وطِيبَ المطعمِ من أسباب إجابةِ الدعاء: ففي صحيح مسلم: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أشْعَثَ أغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إلى السَّماءِ، يا رَبِّ، يا رَبِّ، ومَطْعَمُهُ حَرامٌ، ومَشْرَبُهُ حَرامٌ، ومَلْبَسُهُ حَرامٌ، وغُذِيَ بالحَرامِ، فأنَّى يُسْتَجابُ لذلكَ؟!)..

 

الثمرة السادسة: أنّ تحري الحلالَ وطِيبَ المطعم، من أسباب دخول الجنة، والنجاة من النار.. ففي الحديث الصحيح، قال صلى الله عليه وسلم: «إنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لا يَقْبَلُ إلَّا طَيِّبًا» ، وفي صحيح البخاري أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن رجالًا يتخوَّضون في مال الله بغير حق، فلهم النار يوم القيامة» ، وفي الحديث الصحيح، «يا كعبُ بنَ عُجرَةَ إنه لا يدخل الجنَّةَ لحمٌ نبَت من سُحتٍ».. وقال وهيب بن الورد رحمه الله: لو قمت مقام هذه السارية لم ينفعك شيءٌ حتى تنظر ما يدخل بطنك أحلالٌ أم حرام، ‏وقال بعض الصالحين: من أكل الحرامَ عصت جوارحهُ شاءَ أم أبى، ومن كانت طُعمتهُ حلالًا أستقامت جوارحه، ووفق للخيرات..

 

فاحذَروا أيها المسلمون من كل كسبٍ خبيث، ولا تَغرنَّكم الدنيا فإنها متاعٌ قليل، ولذةٌ عابرة، واعلموا أنكم إن اتَّقيتم الله وتحريتم فيها الحلال، رزقكم الله من حيث لا تحتسبوا، وبارك لكم فيما أعطاك، ومن تركَ شيئًا للهِ عوَّضهُ اللهُ خيرًا منه..

معاشر المؤمنين الكرام: كما أنّ الكسب الحلال والمطعم الطيب له ثمراتٌ عظيمة ينبغي لكل مسلمٍ أن يبذل جهده للحصول عليها، فهناك أسبابٌ ووسائل تعين على الوصول إليها.. أولها:

التوبة والاستغفار: فلنتأمل ما يقوله الحق جل وعلا: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [نوح: 10، 12]..

 

ومما يُعين على كسب الحلال، تقوى الله تعالى والبُعدَ عن المعاصي: قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف:96]، وقال تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2، 3].. وفي الحديث الحسن: إن العبدَ ليُحرَمُ الرزقَ بالذنبِ يصيبُه..

 

ومما يُعين على كسب الحلال، حُسن التوكل على الله تعالى، قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق:3]، وفي الحديث الصحيح، قال عليه الصلاة والسلام: «لو أنَّكُم تتوَكَّلونَ على اللَّهِ حقَّ توَكُّلِه لرزقَكم كما يرزقُ الطَّيرَ تغدو خِماصًا وتروحُ بطانًا»..

 

ومما يعينُ على كسب الحلال، حُسنُ التعبد لله جلّ وعلا: قال تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:132].. وفي الحديث القدسي الصحيح، قال الله تعالى: «يا ابْنَ آدَمَ تَفَرَّغْ لِعبادتِي، أملأْ قلْبَكَ غِنًى، وأملأْ يدَيْكَ رِزقًا، يا ابنَ آدمَ لا تُباعِدْ مِنِّي، أملأْ قلبَكَ فَقْرًا، وأملأْ يدَيْكَ شُغْلًا»..

 

ومما يعين على كسب الحلال، الإكثارُ من الصدقة ومساعدة المحتاجين، قال الله تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ:39]، وفي الصحيحين أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قال اللَّهُ تعالى: أنْفِقْ يا ابْنَ آدَمَ أُنْفِقْ عَلَيْكَ».. وفي الحديث الصحيح قال عليه الصلاة والسلام: «ابغوني في ضُعفائِكم؛ فإنَّما تُرزَقونَ وتُنْصَرُونَ بضُعفائِكم»..

 

ومن الأسباب المعينةِ على كسب الحلال، صلة الرحم، ففي الصحيحين قال عليه الصلاة والسلام: «مَن أحَبَّ أنْ يُبْسَطَ له في رِزْقِهِ، ويُنْسَأَ له في أثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ».. وفي الحديث الصحيح: «صلةَ الرَّحمِ محبَّةٌ في الأهلِ، مَثراةٌ في المالِ، مَنسَأةٌ في الأثَرِ»..

 

ومن الأسباب المعينة على كسب الحلال، الزواج: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: عجبي ممن لا يطلبُ الغنى في النكاح وقد قال الله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [النور:32]..

 

ومما يعين على كسب الحلال، المتابعةٌ بين الحجِّ والعمرة: ففي الحديث الصحيح، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تابِعوا بينَ الحجِّ والعمرةِ، فإنَّهُما ينفيانِ الفقرَ والذُّنوبَ، كما ينفِي الكيرُ خبثَ الحديدِ»..

 

ومن الأسباب كذلك، الإلحاح في الدعاء: قال تعالى: {وَاسْأَلُواْ اللّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [النساء:32]، وعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّه قال لرجل: أَلا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ عَلَّمَنِيهِنَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَوْ كَانَ عَلَيْكَ مِثْلُ جَبَلِ صِيرٍ دَيْنًا أَدَّاهُ اللَّهُ عَنْكَ، قَالَ: قُلْ: «اللَّهُمَّ اكْفِنِي بِحَلالِكَ عَنْ حَرَامِكَ وَأَغْنِنِي بِفَضْلِكَ عَمَّنْ سِوَاكَ»..

 

ألا فلنتق الله ولنتذكر أنه لا سعادة في الدنيا، ولا بركة في الحياة، ولا فوز ولا نجاة في الآخرة إلا بتحري الحلال وإطابة المطعم والمشرب، والبعد البعد عن الحرام.. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُون} [168]..

 

ويا ابن آدم عش ما شئت ما شئت فإنك ميت، واحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، البر لا يبلى، والذنب لا ينسى، والديان لا يموت، وكما تدين تدان..

 

اللهم صل على محمد...

______________________________________________________
الكاتب: الشيخ عبدالله محمد الطوالة

  • 0
  • 0
  • 212
  • عنان عوني العنزي

      منذ
    بين الحانوكاه والكريسماس! • مع نهاية كل عام ميلادي يتجدّد الجدل حول حكم تهنئة النصارى في أعيادهم الشركية التي تزعم أن "عيسى هو الله!" وأنه "ابن الله" تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا. لكننا لا نجد هذا الجدل يُثار حول حكم تهنئة اليهود في أعيادهم، مع أن نفس المسوّغات التي يفترضونها في النصارى، موجودة في اليهود، ومواقفهم من المسلمين متداخلة متماثلة! فلماذا يثار الجدل حول أحدهما دون الآخر؟! وتخيل كيف ستكون ردة فعل الناس على شخص يهنيء اليهود بعيد "الحانوكاه" الذي يقارب زمان "الكريسماس". إنه الاضطراب العقدي، فنحن نرى من يقيم الدنيا ويُقعدها لتورط حكومة أو فرد بعلاقات سرّية مع اليهود، بينما لا غضاضة ولا نكير على من يوثّق تحالفاته ويرسم مع النصارى شعوبا وحكومات، فضلا عن أن يهنئهم في أعيادهم، مع أن الآيات لم تفرق بين الفعلين في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَ}، ومع أن الفريقين كفروا بالله تعالى بأبشع وأشنع صورة: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ}، ومع أن الله شرع لنا في كل صلاة الاستعاذة من سبيل الفريقين {الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} و{الضَّالِّينَ}، وبيّن لنا أن اقتضاء صراطه المستقيم في البراءة التامة من الطرفين، فلماذا يشنّعون على التقارب من اليهود، بينما يتقبلون ويتساهلون في التقارب من النصارى، بل يتهافتون على تهنئتهم والتودد ١إليهم بحجج وذرائع واهية لا يسيغونها في اليهود؟! ولقد كنا نرى هذا الفصام المنهجي في ردود أفعالهم على استهداف النصارى واليهود في أعيادهم، فيباركون طعن يهودي في "العُرُش" أو "الحانوكاه" ويطعنون فيمن يقتل عشرات النصارى في "الكريسماس" ويعدون الأول "بطلا" والثاني "خارجيا!". ولذلك من الغبن تصنيف الجدل المثار حول هذه المسألة جدلا فقهيا مجردا، بل هي مسألة عقدية تنم عن مدى عظمة التوحيد في قلوب العباد، ومدى تسليمهم بكفر النصارى ووجوب بغضهم ومعاداتهم تماما كاليهود، وقد بيّن ابن القيم ذلك في فتواه الشهيرة حول المسألة، ووضع يده على الجرح كعادته وشيخه في سبر أغوار النفس البشرية فقال: "وكثير ممن لا قدر للدين عنده، يقع في ذلك" وهذه والله لم تزل هي المشكلة وعين العلة، فإنّ تهافُت الناس على تهنئة النصارى ليس بسبب جهلهم بالحكم الشرعي، ولا حرصا منهم على دعوة النصارى ليلة الكريسماس!، بل بسبب اهتزاز قدر الدين في النفوس، فإنه والله لو عظم قدر الإسلام في نفوسهم، وأيقنوا أنه الدين الحق الأوحد، وأن الله لن يقبل سواه من أحد؛ لأنِفوا أن يتقدموا إلى النصارى بتهنئة في عيد كفري كهذا، ولكنهم استنكفوا أن يكونوا عبادا لله حق العبودية. ويثير هؤلاء شبها متهاوية حول المسألة، فيدرجون تهنئة النصارى بأعيادهم الدينية تحت بند البر والقسط في قوله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ... أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ}، علما أن تهنئة النصارى بأعيادهم الكفرية مسألة مستقلة تماما عن سياق الآية لأنها محرمة شرعا، وأن الآية محمولة على الكافر غير المحارب، ومع ذلك نقول: هل حقق نصاری زماننا الشروط التي ذكرتها الآية السابقة لينالوا برنا وقسطنا؟! يدفعنا ذلك للتطرق إلى أحكام أهل الذمة الذين لا يُمنحون "عقد الذمة" من الإمام إلا ببذل الجزية والتزام أحكام الملة، التي جلّتها العهدة العمرية الشهيرة، فهل حقق نصارى زماننا شروطها لينالوا عهدها، أم قد نقضوها من أولها لآخرها؟! بل ولو حققوا شروطها كاملة، لم يجز لنا تهنئتهم في أعيادهم لأنها من شعائر دينهم الباطل، وهو ما لم تفعله القرون المفضلة، فلم يفعله النبي ﷺ ولا الصحابة ولا التابعون. وعليه فالبر والقسط مع الكافر غير المحارب ممن لم يتورط في أي سلسلة من سلاسل العون على حرب المسلمين، بفعل، أو قول أو مشورة، أو بمجرد التأييد فالمؤيد كالفاعل، وبالحملة فأهل الكتاب اليوم واقعون تحت قوله تعالى:{قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}، قال ابن كثير: "لا يجوز إعزاز أهل الذمة ولا رفعهم على المسلمين، بل هم أذلاء صغرة أشقياء"، هذا في حق الذمي، فكيف بالمحارب؟!. ولو تتبع المهتم مشارب فقهاء التثليث ومنطلقاتهم، سيجد أغلبهم ممن يرفضون تقسيم العالم إلى" دار إسلام ودار كفر" ويرفضون تقسيم الكافرين إلى "ذميين ومعاهدين ومستأمنين"، وينظرون إليها أنها "موروثات تاريخية" فرضتها حوادث بعينها لم تعد موجودة في زماننا ولا يصح إسقاطها على واقعنا! ومما يلقنه الشياطين في روع هؤلاء أن بفعلهم هذا يكسبون قلوب النصارى إلى الإسلام، ومع أن هذا الافتراض تبريري ليس أكثر، إلا أنه على العكس تماما، فإن تهنئة النصارى في عيدهم "توجب سرور قلوبهم بما هم عليه من الباطل"، ولذلك كيف سيهتدي إلى الإسلام وأنت تحببه بما هو عليه من الكفر وتهنئه عليه؟! بل على هذا النحو فإن النصراني هو الذي يقرّبك إلى دينه! ويدعوك إليه! فأنت هنا مفعول به لا فاعل! وإن التهنئة اليوم بأعيادهم، لا تخرج عن إطار الود أو الإعجاب أو التقليد أو المداهنة أو المعايشة ونحوها، بل لو نظر العاقل إلى حال المستميتين المتهافتين على النصارى، وجد أن المشكلة لا تقتصر على رأس السنة فحسب، بل هؤلاء مفتونين بالنصارى طوال الدهر، عاكفين على ملاطفتهم ومخالطتهم ومشابهتهم في أفعالهم وعاداتهم وتقاليدهم، بل في حكمهم في "ديمقراطيتهم" في كل شيء، حتى لو دخلوا جحر ضب دخلوه معهم، ولذلك فالمشكلة عندهم ليست في رأس السنة، بل رأس الأمر الإسلام، وأصله وركنه الشديد الحب والبغض في الله، حب الإيمان وكراهية الكفر، ولذلك كان من دعاء النبي ﷺ: (اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكرّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان.) كل هذه الزوايا المنهجية العقدية يستشفها المسلم من دائرة الجدال السنوية حول حكم تهنئة النصارى المشركين بأعيادهم الشركية، فالقضية أخطر وأعمق بكثير مما يحاول أن يصوّره فقهاء هذا الزمان. وإن نزول عيسى ابن مريم في آخر الزمان مفعِّلا خيار السيف، معطِّلا خيار الجزية؛ هو رد إلهي عقدي حاسم لهذا الجدل المثار في زمن اختلال موازين الولاء والبراء، وغربة التوحيد في زمن التفلت والتفريط. ولن ينصلح حال الأمة حتى يستوي عندها حكم اليهود بالنصارى، وحكم الحانوكاه بالكريسماس! وحكم المتولي "المطبّع" مع النصارى بحكم المتولي "المطبّع" مع اليهود، وحتى تحتفي الأمة بالمنغمس في صفوف النصارى كالمنغمس في صفوف اليهود، فالتوحيد لا يتجزأ، ومن لم تغنه الآيات والنذر، سيغنيه سيف عيسى ابن مريم عبد الله ورسوله. ◽ المصدر: صحيفة النبأ العدد 475 الخميس 25 جمادى الآخرة 1446هـ المقال الافتتاحي: بين الحانوكاه والكريسماس!

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً