واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله (خطبة)
أمة الإسلام: أخرجنا الله تعالى إلى هذه الدار وجعلها دار ابتلاء وامتحان واخبرنا إننا إليه راجعون وأن الدنيا ممر لا مقر
السيد مراد سلامة
{﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ﴾}
عناصر الخطبة:
العنصر الأول: حتمية الرجوع إلى الله.
العنصر الثاني: التعريف بيوم القيامة.
العنصر الثالث: الوقاية من أهوال يوم القيامة.
الخطبة الأولى
الحمد لله العفو الكريم، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، جعل الحياة الدنيا داراً للابتلاء والاختبار، ومحلاً للعمل والاعتبار، وجعل الآخرة دارين، داراً لأهل كرامته وقربه من المتقين الأبرار، وداراً لأهل غضبه وسخطه من الكفار والفجار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الواحد القهار، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله النبي المختار، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الطيبين الأخيار، ومن تبعهم بإحسان ما تعاقب الليل والنهار.
أما بعد:
{﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ﴾} [لقمان: 33]
العنصر الأول: حتمية الرجوع إلى الله:
أمة الإسلام: أخرجنا الله تعالى إلى هذه الدار وجعلها دار ابتلاء وامتحان واخبرنا إننا إليه راجعون وأن الدنيا ممر لا مقر فقال الله تعالى وهو يحدثنا عن حتمية الرجوع إليه - عَزَّ وَجَلَّ - {﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾} [البقرة: 281].
يقول الشيخ أبو زهرة: ترقبوا وخافوا يومًا يردكم الله سبحانه وتعالى إليه فلا تملكون من أموركم شيئا فيه؛ فإذا ملكتم المال في الدنيا، ففي هذا اليوم لَا تملكون شيئا، وإذا ملكتم المنح والمنع اليوم ففي اليوم الآخر لَا تملكون شيئا. وفي هذا اليوم ﴿ تُوَفَّى كلُّ نَفْسٍ ما كسَبَتْ ﴾ أي جزاء ما كسبت إن خيرًا فخير، وإن شرا فشر، وكأن ما توفاه عين ما كسبت للمماثلة بين الجزاء والعمل ﴿ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ أي لَا ينقصون شيئا من ثواب ما عملوا، ولا يعاقبون على ما لم يعملوا)[1].
وقال تعالى {﴿ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ﴾} [يونس: 4].
ستاتي ربك وستجرع إليه ولكن على أي حال ترى أنت من السعداء؟ أم أنك من الأشفياء قال الله تعالى { ﴿ إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى * وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى ﴾} [طه: 74 - 76].
العنصر الثاني: التعريف بيوم القيامة:
إخوة الإيمان، في ذلك اليوم الرهيب الشمس كورت، لُفّت وذهب ضوئها.. النجوم انكدرت وتناثرت.. الجبال نسفت وسيّرت فأصبحت كالقطن المنفوش.. العشار عطلت.. الأموال تُركت.. التجارات والعقارات والأسهم نُسيت.. السماء كشطت ومسحت وأزيلت.. البحار سجرت.. وإلى كتل من الجحيم تحولت.. الجحيم سعرت وأوقدت، والجنة أزلفت وقُرِّبت.
{﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ﴾} [الحج: 1، 2].
إنه يوم القيامة، يومُ الصاخةِ والقارعةِ والطامةِ، ويومُ الزلزلةِ والآزفةِ والحاقة، يومَ يقومُ الناس لرب العالمين.. يومٌ عظيم وخَطْبٌ جَسِيم، يوم مقداره خمسون ألف سنة، يجمع الله فيه الخلائق أجمعين، من لدُن آدم عليه السلام إلى قيام الساعة؛ ليفصل بينهم ويحاسبَهم.
وتدنو الشمس من الخلائق مقدارَ مِيل، ويفيضُ العرقُ منهم بحسب أعمالهم، فمنهم من يبلغ عرقه إلى كعبيه، ومنهم من يبلغ إلى ركبتيه، ومنهم من يبلغ إلى حِقْوَيه، ومنهم يبلغ إلى مَنْكِبَيه، ومنهم من يُلْجِمه العرق إلجامًا، وتبقى طائفة في ظل الله جل جلاله، يوم لا ظل إلا ظله.
لقد صور الله تعالى لنا يوم القيامة في كتابه بأبدع تصوير وأبلغ تعبير حتى إن الذي يقرأ تلك الآيات ليرى القيامة كأنها رأى العين وتأمل الحديث الذي أخرجه الترمذي عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسـول الله صلى الله عليه وسلم (من سرة أن ينظر إلى يوم القيامة فليقرأ ( {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} ، {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ} ، {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} )[2]
مثل لنفسك أيها المغرور
يوم القيامة والسماء تمور
إذ كورت شمس النهار وأدنيت
حتى على رأس العباد تسير
وإذا النجوم تساقطت وتناثرت
وتبدلت بعد الضياء كدور
وإذا البحار تفجرت من خوفها
ورأيتها مثل الجحيم تفور
وإذا الجبال تقلعت بأصولها
فرأيتها مثل السحاب تسير
وإذا العشار تعطلت وتخربت
خلت الديار فما بها معمور
وإذا الوحوش لدى القيامة حشرت
وتقول للأملاك أين تسير
وإذا تقاة المسلمين تزوجت
من حور عين زانهن شعور
وإذا الموؤدة سئلت عن شأنها
وبأي ذنب قتلها ميسور
وإذا الجليل طوى السماء بيمينه
طي السجلِّ كتابه المنشور
وإذا الصحائف نشرت فتطايرت
وتهتكت للمؤمنين ستور
وإذا السماء تكشطت عن أهلها
ورأيت أفلاك السماء تدور
وإذا الجحيم تسعرت نيرانها
فلها على أهل الذنوب زفير
وإذا الجنان تزخرفت وتطيبت
لفتى على طول البلاء صبور
وإذا الجنين بأمه متعلق
يخشى القصاص وقلبه مذعور
هذا بلا ذنب يخاف جنينه
كيف المصر على الذنوب دهور!!
العنصر الثالث: الوقاية من أهوال يوم القيامة:
الأول: كن من المتقين تكن من الفائزين:
اعلموا عباد الله أن من أعظم أسباب السلامة من أهوال يوم القيامة أن ترجع إلى الله وأنت في قافلة المتقين، تأملوا أيها الأحباب إلى تلك القافلة وهي تزف في عرصات يوم القيامة قال الله تعالى {﴿ يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا * وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا ﴾} [مريم: 85، 86].
يخبر تعالى عن أوليائه المتقين الذين خافوه في الدار الدنيا، واتبعوا رسله، وصدقوهم فيما أخبروهم وأطاعوهم فيما أمروهم به، وانتهوا عما زجروهم أنه يحشرهم يوم القيامة، وفداً إليه، والوفد هم القادمون ركباناً ومنه الوفود، وركوبهم على نجائب من نور من مراكب الدار الآخرة، وهم قادمون على خير موفود إليه إلى دار كرامته ورضوانه، وأما المجرمون المكذبون للرسل المخالفون لهم فإنهم يساقون عنفاً إلى النار ﴿ وِرْداً ﴾ عطاشاً، وقال ابن أبي حاتم، عن ابن مرزوق { ﴿ يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين إِلَى الرحمن وَفْداً ﴾} قال: يستقبل المؤمن عند خروجه من قبره أحسن صورة رآها وأطيبها ريحاً، فيقول: من أنت؟ فيقول: أما تعرفني؟ فيقول لا، إلاّ أن الله قد طيب ريحك وحسن وجهك فيقول: أنا عملك الصالح وهكذا كنت في الدنيا حسن العمل طيبه، فطالما ركبتك في الدنيا، فهلم اركبني فيركبه، فذلك قوله: {﴿ يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين إِلَى الرحمن وَفْداً ﴾} . قال ابن عباس: ركباناً. وقال أبو هريرة ﴿ يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين إِلَى الرحمن وَفْداً ﴾ قال: على الإبل. وقال الثوري: على الإبل النوق، وقال قتادة {﴿ يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين إِلَى الرحمن وَفْداً ﴾} قال: إلى الجنة، عن ابن النعمان بن سعيد قال: كنا جلوساً عند علي رضي الله عنه، فقرأ هذه الآية {﴿ يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين إِلَى الرحمن وَفْداً ﴾} قال: لا والله ما على أرجلهم يحشرون، ولا يحشر الوفد على أرجلهم، ولكن بنوق يلم ير الخلائق مثلها، عليها رحائل من ذهب، فيركبون علها حتى يضربوا أبواب الجنة.
ثانيا: كن من أهل العدل تكن على منابر من نور:
وأما العادلون ففي مقام رفيع، يجلسون على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن المقسطين عند الله على منابر من نور، عن يمين الرحمن عز وجل، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا» [رواه مسلم] [3].
ثالثا كن من المتحابين في ذات الله:
عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الله يقول يوم القيامة أين المتحابون بجلالي اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي» "[4].
عن أبي مالك الأشعري قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم: فنزلت هذه الآية {﴿ لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ﴾} [المائدة: 101] قال: فنحن نسأله إذ قال: إن لله عبادا ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم النبيون والشهداء بقربهم ومقعدهم من الله عز وجل يوم القيامة قال وفي ناحية القوم أعرابي فقام فجثا على ركبتيه ورمى بيديه ثم قال: حدثنا يا رسول الله عنهم من هم؟ قال: فرأيت وجه النبي صلى الله عليه وسلم ينتشر فقال النبي صلى الله عليه وسلم: عباد من عباد الله من بلدان شتى وقبائل من شعوب أرحام القبائل لم يكن بينهم أرحام يتواصلون بها لله لا دنيا يتباذلون بها يتحابون بروح الله عز وجل يجعل الله وجوههم نورا يجعل لهم منابر من لؤلؤ قدام الرحمن تعالى يفزع الناس ولا يفزعون ويخاف الناس ولا يخافون)[5].
رابعا: جاهد نفسك لتكون من أولياء الرحمن:
فهم أهل الأمن والسلامة من أهوال يوم القيامة فمعهم حصانة ربانية.
فهم لا يفزعون إذا فزع الناس.
ولا يحزنون إذا حزن الناس.
ولا يعطشون إذا عطش الناس.
{﴿ إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ﴾ } [الأنبياء: 102، 103].
يقول العلامة أبو السعود- رحمه الله- {﴿ لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر ﴾} بيان لنجاتهم من الأفزاع بالكلية بعد بيان نجاتِهم من النار لأنهم إذا لم يُحزُنْهم أكبرُ الأفزاع لا يحزنهم ما عداه بالضرورة عن الحسن رضيَ الله عنه أنَّه الانصرافُ إلى النار وعن الضحاك حتى يطبَقَ على النار وقيل حين يُذبح الموتُ في صُورةِ كبشٍ أملحَ وقيل النفخةُ الأخيرة لقوله تعالى فَفَزِعَ مَن فى السموات ومن فى الأرض وليس بذاك فإن الآمنَ من ذلك الفزع من استثناه الله تعالى بقوله إِلاَّ مَن شَاء الله لا جميعُ المؤمنين الموصوفين بالأعمال الصالحة على أن الأكثرين على أن ذلك في النفخة الأولى دون الأخيرة كما سيأتي في سورة النمل ﴿ وتتلقاهم الملائكة ﴾ أي تستقبلهم مهنّئين لهم ﴿ هذا يَوْمُكُمُ ﴾ على إرادةِ القولِ أيْ قائلين هذا اليومُ يومُكم {﴿ الذى كنتم توعدون ﴾} في الدنيا وتبشرون بما فيه من فنون المَثوبات على الإيمان والطاعات وهذا كما ترى صريحٌ في أنَّ المرادَ بالذين[6].
خامسا: احذر ذنوب الخلوات فإنها أصل الانتكاسات:
وإذا أردت أخي المسلم أن تقي نفسك من أهوال يوم القيامة فاحذر ذنوب الخلوات فإنها أصل الانتكاسات.
توهم نفسك الأن واقف في عرصات يوم القيامة وبينما أنت كذلك إذا رأيت رجل من أمة محمد صلى الله عليه وسلم-معه أعمال كأمثال الجبال من الحسنات فهذا قيام ليل وهذا صيام رمضان وهذه صدقات وتلك قراءة للقران وفجأة يجعلها الله تعالى هباء منثور ترى ما الذي ضيعها اسمع اسمع إلى كلام نبيك – صلى الله عليه وسلم.
عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « لألفين أقواما من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة فيجعلها الله هباء منثورا فقالوا يا رسول الله صفهم لنا لكي لا نكون منهم ونحن لا نعلم فقال أما إنهم من إخوانكم ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها» "[7].
إذا أغلقت دونك الباب وأسدلت على نافذتك الستار وغابت عنك أعين البشر، فتذكر مَنْ لا تخفى عليه خافية، تذكر من يرى ويسمع دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء على الصخرة الصماء، جل شأنه وتقدس سلطانه، أخشى بارك الله فيك أن تَزِلَّ بك القدم بعد ثوبتها، وأن تنحرف عن الطريق بعد أن ذقت حلاوته، واشرأب قلبك بلذته.
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى "أجمع العارفون بالله بأن ذنوب الخلوات هي أصل الانتكاسات، وأن عبادات الخفاء هي أعظم أسباب الثبات"، فهل يفرط موفق بصيد اقتنصه، وكنز نادر حَصَّله؟
احذر سلمك الله، فقد تكون تلك الهفوات المخفية سبباً لتعلق القلب بها حتى لا يقوى على مفارقتها فيختم له بها فيندم ولات ساعة مندم يقول ابن رجب الحنبلي عليه رحمة الله: "خاتمة السوء تكون بسبب دسيسة باطنة للعبد لا يطلع عليها الناس" [8].
سادساً: احذر الغدر فانه فضية يوم القيامة:
أخي في الله اذا أردت أن تقي نفسك نارا حرها شديد وقعرها بعيد ومقامعها من حديد يوم أن ترجع إلى الله تعالى فاحذر الغدر فانه فضيحة على رؤوس الخلائق يوم القيامة.
فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( «إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة يرفع لكل غادر لواء، فقيل: هذه غدرة فلان ابن فلان» )[9].
والغادر: الذي يواعد على أمر ولا يفي به، واللواء: الراية العظيمة لا يمسكها إلا صاحب جيش الحرب، أو صاحب دعوة الجيش، ويكون الناس تبعا له. فالغادر ترفع له راية تسجل عليها غدرته، فيفضح بذلك يوم القيامة، وتجعل هذه الراية عند مؤخرته، فعن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لكل غادر لواء عند استه يوم القيامة» [10].
وكلما كانت الغدرة كبيرة عظيمة كلما ارتفعت الراية التي يفضح بها في يوم الموقف العظيم، فعن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لكل غادر لواء يوم القيامة يرفع بقدر غدره، ألا ولا غادر أعظم غدرا من أمير عامة» [11].
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم الكريم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما.
أما بعد:
سابعا: لا تظلم أحداً لأنك إلى الله تعالى راجع:
أحبتي في الله: إذا علمنا أننا إلى الله تعالى راجعون وأننا عن أعمالنا مسؤولون فوجب علينا أن نتحلل من المظالم قبل أن نرجع إلى الله تعالى فالظلم ظلمات يوم القيامة.
فتوهم نفسك عبد الله وأنت واقف بين يدي الله انظر إلى هؤلاء الذين شخصت أبصارهم وصارت أفئدتهم هواء يسألون الرجعة فلا يجابون ترهق وجوههم الذلة قال الله.
أيها الموحدون! تدبروا معي هذا المشهد الذي يخلع القلب، تدبروا الحديث، عيشوا مع هذا الحديث الذي يكاد يخلع القلب إن تدبرناه ووعيناه. تصور معي هذا المشهد في أرض المحشر، ها هو الظالم في أرض المحشر يقف بين يدي الله في ذل وخشوع وانكسار، لا يرتد إليه طرفه، شخص ببصره، لا يلتفت أعلى ولا أسفل ولا يمنة ولا يسرة، لا يرتد إليه طرفه، بل وقفز قلبه من جوفه! الشمس فوق الرؤوس، تكاد حرارتها تصهر العظام، والزحام يكاد يخنق الأنفاس، والعرق يكاد يغرق الناس، وجيء بجهنم ولها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها! تزفر وتزمجر غضباً لغضب الجبار جل وعلا، فإن الله قد غضب في هذا اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، في هذه اللحظات ومع هذا الهول يرى الظالم نفسه وقد أحيط بمجموعة من الناس، من أنتم؟! من هؤلاء؟! هؤلاء هم الذين ظلمهم في الدنيا! ظلم من ظلم ونسي! فيتعلق المظلومون بالظالم، يتعلق كل من ظلمته بك يوم القيامة، يجرونه جراً ليوقفوه بين يدي الله جل وعلا، هذا يتعلق به من يده، وهذا يجره من ظهره، وهذا يجره من لحيته، يتعلقون به ليوقفوه بين يدي الملك جل جلاله، فإذا ما وقف بين يدي الله تبارك وتعالى، وأذن الله لدواوين المظالم أن تنصب، وللقصاص أن يبدأ، يقول هذا: يا رب! هذا شتمني، والآخر يقول: يا رب! ظلمني، والآخر يقول: يا رب! اغتابني، والآخر يقول: يا رب! غشني في البيع والشراء، والآخر يقول: يا رب! وجدني مظلوماً وكان قادراً على دفع الظلم فجامل ونافق الظالم وتركني، والآخر يقول: يا رب! جاورني فأساء جواري! سترى كل من عاملته في الدنيا - نسيته أو تذكرته - قد تعلق بك بين يدي الله جل وعلا، كل يطالب بحقه، وأنت واقف يا مسكين! ما أشد حسرتك في هذه اللحظات، وأنت واقف على بساط العدل بين يدي رب الأرض والسموات، إذا شوفهت بخطاب السيئات، وأنت مفلس عاجز فقير مهين لا تملك درهماً ولا ديناراً، لا تستطيع أن ترد حقاً ولا تملك أن تبدي عذراً، فيقال: خذوا من حسناته إلى من ظلمهم في الدنيا، تنظر إلى صحيفتك التي بين يديك فتراها قد خلت من حسنات تعبت في تحصيلها طوال عمرك، فتصرخ وتقول: أين حسناتي؟! أين صلاتي؟! أين زكاتي؟! أين دعوتي؟! أين علمي؟! أين قرآني؟! أين بري؟! أين عملي الصالح؟! أين طاعاتي؟! فيقال: نقلت إلى صحائف خصومك الذين ظلمتهم في الدنيا! وقد تفنى حسناتك ويبقى أهل الحقوق ينادون الله جل وعلا أن يعطيهم حقهم من الظالم، فيأمر الحق سبحانه أن يؤخذ من سيئات من ظلمتهم في دنياك؛ لتطرح عليك، فتصرخ وتقول: يا رب! هذه سيئات والله ما قاربتها. والله ما عملتها.. فيقال لك: نعم، إنها سيئات من ظلمتهم في الدنيا، فتمد عنق الرجاء إلى سيدك ومولاك، لعلك تنجو في هذه اللحظات، ولست بناجٍ؛ لأن الله قد حرم الظلم على نفسه، وحرم الظلم على العباد، فيقرع النداء سمعك ويخلع قلبك، قال الله جل وعلا: {﴿ وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ * وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ * وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ * وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ * فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ * يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ * وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ * سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ * لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ * هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ ﴾ } [إبراهيم:42-52].
ثامنا: احذر أن تطرد من حوض صاحب الشفاعة - صلى الله عليه وسلم -:
يا من يعلم أنه إلى الله راجع احذر كل الحذر أن تطرد من حوض صاحب الشفاعة – صلى الله عليه وسلم –.
توهم نقسك الآن وأنت واقف على حوض صاحب الحوض والناس قد لهثت ألسنتهم من شدة العطش والحبيب – صلى الله عليه وسلم - يسقي أصحابه وبينما هو كذلك إذا رأيت الملائكة تطرد أقواما من على الحوض ينظر النبي – صلى الله عليه وسلم - الرحمة المهداة إليهم وهم يطردون.... ترى ما هو الخطأ أو الذنب الذي وقع فيه هؤلاء؟.
عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم -، يقول:( « أنا فَرطُكُم» – أي أتقدمكم - «على الحوض فمن ورده شرب منه، ومن شرب منه لم يظمأ بعده أبدا. ليردنَّ على أقوامٌ أعرفهم ويعرفوني، ثم يحال بيني وبينهم، فأقول: إنهم مني، فيقال: إنك لا تدري ما بدلوا بعدك، فأقول: سحقاً سحقاً لمن بدل بعدي» ) [12].
قال الإمام القرطبي في "التذكرة":" قال علماؤنا - رحمة الله عليهم أجمعين -:
فكل من ارتد عن دين الله أو أحدث فيه ما لا يرضاه الله ولم يأذن به الله فهو من المطرودين عن الحوض المبعدين عنه وأشدهم طردا من خالف جماعة المسلمين وفارق سبيلهم كالخوارج على اختلاف فرقها والروافض على تباين ضلالها والمعتزلة على أصناف أهوائها فهؤلاء كلهم مبدلون وكذلك الظلمة المسرفون في الجور والظلم وتطميس الحق وقتل أهله وإذلالهم والمعلنون بالكبائر المستحفون بالمعاصي وجماعة أهل الزيغ والأهواء والبدع ثم البعد قد يكون في حال ويقربون بعد المغفرة إن كان التبديل في الأعمال ولم يكن في العقائد وعلى هذا التقدير يكون نور الوضوء يعرفون به ثم يقال لهم سحقا وإن كانوا من المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يظهرون الإيمان ويسرون الكفر فيأخذهم بالظاهر ثم يكشف لهم الغطاء فيقول لهم: سحقا سحقا ولا يخلد في النار إلا كافر جاحد مبطل ليس في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان.
وقد يقال: إن من أنفذ الله عليه وعيده من أهل الكبائر إنه وإن ورد الحوض وشرب منه فإنه إذا دخل النار بمشيئة الله تعالى لا يعذب بعطش والله أعلم [13].
وروى الترمذي [عن كعب بن عجرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«أعيذُكَ باللَّهِ يا كعبُ بنَ عُجرةَ من أمراءَ يَكونونَ من بعدي فمن غشِيَ أبوابَهم فصدَّقَهم في كذبِهم وأعانَهم على ظُلمِهم فليسَ منِّي ولستُ منهُ ولا يرِدُ عليَّ الحوضَ ومن غشيَ أبوابَهم أو لم يغشَ ولم يصدِّقهم في كذبِهم ولم يُعِنهم على ظلمِهم فَهوَ منِّي وأنا منهُ وسيَرِدُ عليَّ الحوضَ يا كعبُ بنَ عُجرةَ الصَّلاةُ برهانٌ والصَّومُ جنَّةٌ حصينةٌ والصَّدَقةُ تطفئُ الخطيئةَ كما يُطفئُ الماءُ النَّارَ يا كعبُ بنَ عُجرةَ إنَّهُ لا يربو لحمٌ نبتَ من سحتٍ إلَّا كانتِ النَّارُ أولى بِهِ»
[الراوي : كعب بن عجرة | المحدث : الألباني | المصدر : صحيح الترمذي الصفحة أو الرقم: 614 | خلاصة حكم المحدث : صحيح] [14].
[1] زهرة التفاسير (2/ 1062).
[2] أخرجه أحمد (2/ 27 رقم 4806) قال الهيثمي (7/ 134): رواه أحمد بإسنادين ورجالهما ثقات. والترمذي (5/ 433، رقم 3333).
[3] أخرجه أحمد (2/ 159، رقم 6485)، ومسلم (3/ 1458، رقم 1827)، والنسائي (8/ 221، رقم 5379).
[4] مالك أخرجه الدارمي (2757)، ومسلم (2566)، وابن حبان (574)، والبيهقي في "الشعب" (8990)، والبغوي (3462).
[5] أخرجه أحمد (5/ 343، رقم 22957) والطبراني (3/ 290، رقم 3433) قال الهيثمي (10/ 276): رجاله وثقوا.
[6] إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (6/ 87).
[7] أخرجه ابن ماجه (2/ 1418، رقم 4245)، قال البوصيري (4/ 246): هذا إسناد صحيح رجاله ثقات. والرويانى(1/ 425، رقم 651). وأخرجه أيضًا: الطبراني في الأوسط (5/ 46، رقم 4632).
[8] جامع العلوم والحكم (1/ 74).
[9] أخرجه البخاري (5/ 2285، رقم 5823)، ومسلم (3/ 1359، رقم 1735).
[10] أخرجه مسلم (3/ 1361، رقم 1738)، وأبو يعلى (2/ 441، رقم 1245).
[11] أخرجه مسلم (3/ 1361، رقم 1738). وأخرجه أيضًا: أبو يعلى (2/ 419، رقم 1213).
[12] أخرجه البخاري في: 81 كتاب الرقاق: 53 باب في الحوض وقول الله تعالى ﴿ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ﴾ [الكوثر: 1].
[13] التذكرة للقرطبي (ص: 352)
[14] الترمذي رقم (614) في الصلاة، باب ما ذكر في فضل الصلاة، والنسائي 7 / 160) صحيح الترغيب والترهيب (2/ 268) (حسن صحيح)
- التصنيف:
- المصدر:
Rida
منذRida
منذ