هُـوّة الهوى
للهوى سلطان عظيم على النفوس، فربما عُرِضَت الحقيقة البينة على النفس وهي غير مخالفة لهواها فتقبلها، ثم تُعرض عليها حقيقة مثل تلك في الوضوح أو أبين، ولكنها مخالفة لهواها فتردّها
كان الكلام في الهوى العِلمي عبارةً عن إشاراتٍ متناثرة في هوامش التراث، وَمَضات غزالية عميقة، وإشراقات واسطية دقيقة، وتحذيرات جوزية لطيفة، وإضاءات مهمَّة عن السلف الأوائل، لكنها لا تنتظم -في حدِّ علمي- وِفق حضور كثيف، ولا تتسق ضمن إطار رؤية كلية، وإنما تحضر أحيانًا ثم تغيب، وتشرق ثم تخفِت، قطرات تتسرّب ولا تتدفَّق، حتى جاء الجبال الثلاثة ابن تيمية وابن القيم ثم المعلِّمي ففتحوا السدود فجرى الوادي وطَمَّ على القرى.
فإلى جوار تحقيقاتهم العلمية الغزيرة في مسائل الفقه ودلائل الاعتقاد وغيرها لو جُمع كلام هؤلاء الثلاثة الأثبات عن الهوى العلمي وقوادح التجرّد البحثي، وتشريح التحيزات الداخلية، وتسليط الضوء على المؤثرات المضمرة داخل النفوس لكان يعدِل -والله أعلم- جميع ما كُتِبَ عند غيرهم كمًّا وكيفًا، وإذا أمعنتَ النظر فيما كتبوه في هذا الجانب فسيخالجك شعور عميق أن الكلام عن الهوى العلمي كان رتقًا وفُتق على أيديهم، وأن سائر كلام غيرهم كان مجرّد طَرَقات خفيفة على الباب وأنه إنما فُتحِ لهم من بين الخلائق!
تعليل الظاهرة:
والسبب وراء هذه الإشارات الكثيفة إدراك هؤلاء الأكابر أن مَن تسيطر عليه الأهواء الجامحة فإنه -مع عدم انتفاعه بالدلائل المعارضة- ربما أوهم نفسه أنه متبع للحق البيّن وهو في حقيقة الحال متبع للحق الذي يوافق أهواءه الدفينة، ولذلك يقول ابن تيمية: (وما أكثر ما تفعل النفوس ما تهواه ظانةً أنها تفعله طاعة لله)، وكلام الشيخين ابن تيمية وابن القيم في هذا الباب كثير وقريب، وأحبُّ في هذه العجالة أن نقف مع بعض إشارات الشيخ المعلمي حول الهوى العلمي، فهذه آفة فصَّلها الشيخ وشرح آثارها وبيَّن بواعثها، ولو جُرِّدَ كلامُه في الهوى العلمي لكانَ رسالةً لطيفة، فلعميق استحضار الشيخ أن للنفوس أهواءً دفينة ورغباتٍ جامحة، كان في أثناء المعالجة العلمية يسكب في أحواض المسائل قِلالا تحذيرية من سلطة الهوى وسطوة التعصب، وربما كان هذا مدخله نحو مسائل النزاع، ولذلك فإني أحب أن نقف مع بعض إشارات الشيخ تغمده الله برحمته.
سلطان الهوى:
النفوس البشرية ضعيفة لا تسلم من وجود أهواء تعتمل في أعماقها وتعتلج في جوفها، فليس الإشكال في وجود مادة الهوى في النفوس، ولم يكلف الله الناس أن يخلوا نفوسهم من أهوائها، فهذا تكليف بما لا يطاق، إنما المحظور هو في اتباع هذا الهوى والصدور عنه والإذعان له ثم تلبيسه لباس الحق، قال المعلمي في تقرير هذا المعنى بواقعية تامَّة: (ما من إنسان إلا وله أهواء فيما ينافي العدالة، وإنما المحذور اتباع الهوى)، ويقول في موضع آخر: (هذا ولم يكلَّف العالِمُ بأن لا يكون له هوى، فإنّ هذا خارج عن الوسع، وإنما الواجب على العالِم أن يفتِّش نفسه عن هواها حتى يعرفه، ثم يحترز منه)، وهذا المعنى بعينه ذكره ابن تيمية فقال: (نفس الهوى وهو الحب والبغض الذي في النفس لا يلام عليه؛ فإن ذلك قد لا يملك، وإنما يلام على اتباعه).
ومن شواهد استبداد سلطة الهوى على نفوس عامة الخلق، أن الإنسان لا يكاد يرى ما يخالف هواه، فكأنَّ الهوى يلقي عصابة كثيفة على العينين، ولذلك ما أسرع انقياد النفس وقبولها للحقيقة البينة إذا وافقت هواها، ثم إعراضها عن الحقائق التي هي أوضح وأجلى منها، وربما حاولت التصديق مع انعدام دلائل الثبوت، وبالمقابل إذا كان المصدَّق مخالفا لهواها بادرت لتكذيبه، قال الشيخ المعلمي في تقرير هذا المعنى: (للهوى سلطان عظيم على النفوس، فربما عُرِضَت الحقيقة البينة على النفس وهي غير مخالفة لهواها فتقبلها، ثم تُعرض عليها حقيقة مثل تلك في الوضوح أو أبين، ولكنها مخالفة لهواها فتردّها)، ومن أكبر الشواهد على هذه الحقيقة في حياة الناس سرعة تكذيب الإنسان لما يقال عمن يحبه، وتطلبه أقصى غايات الإثبات، وبالمقابل سرعة تصديقه عما يقال عمن يبغضه ولو كان الإسناد مسرطنًا بالمجاهيل، ولذلك يقول الشاعر الجاهلي في بيان هذه الحقيقة:
متى ما يسؤ ظن امرئ بصديقه ** وللظن أسباب عراض المسارح
يصدق أمورًا لم يجئه يقينهــــا ** عليه ويعشق سمعه كل كاشــحِ
ويقول الشيخ المعلِّمي في بيان هذا المعنى: (قد يجتهد الإنسان في التصديق فإذا كُلِّف التصديق بما يخالف هواه لم يُصَدِّق)، وليس الإشكال أمام كثير من الناس في كون براهين الحق غامضة أو متعذرة على الفهم وإنما الإشكال أن سلطان الهوى على النفوس شديدٌ كما يقول الشيخ: (ونحن نرى كثيرًا من الناس يتعقَّلون البراهين القطعيَّة، ومع ذلك لا يزالون مرتابين لغلبة الهوى والتقليد عليهم)، بل إن الهوى ليبسط نفوذه على بعض النفوس حتى يجعلها ترى الشبهاتِ الضعيفة براهينَ قاطعة، وترى البراهينَ القاطعة شبهاتٍ واهية! قال المعلمي -مصورا هذه الحال-: (وإذا تمكَّن الهوى عميت البصيرة، فَتُعْرَضُ على صاحبه الحجة النيرة فيرى أنها شبهة فقط، حتى إنه كثيرًا ما يقول: إنها شبهة لا أقدر على حَلَّها، وتُعْرَضُ عليه الشبهة الضعيفة الموافقة لهواه فيرى أنها برهان قاطع)، ويقول الشيخ في هذا المعنى: (وقد تكون الشبهة واهية ولكن يقوِّيها الهوى، فيمنع صاحبها عن فحصها، كما يمنعه عن تدبر ما يقابلها).
شدة الاحتراس من الهوى:
ربما سرى الهوى في النفوس على حين غِرّة، فيبحث الإنسان في مسألة وهو يتوهم أنه خالٍ من الهوى، متجرد في طلب الحق، بينما هو في حقيقة الحال غارق في لجةِ هواه، وربما يكون خاليًا من الهوى في أول النظر ثم يطرأ عليه بعد ذلك، ومن تدقيقات الشيخ المعلِّمي دعوته الباحثَ إلى صدق التجرد ومراقبة نوازع النفس في كل حال، فيفتش في هواها قبل الشروع في البحث، ويفتش في هواها بعد الشروع فيه، فربما ابتدأ البحث خاليًا من الأغراض ثم تسلل إليه الهوى في منتصف البحث! وهذا تدقيق بعيد الغَور، فكثيرًا ما يدخل المرء في بحث مسألة وهو خالي الذهن من الميل إلى أحد طرفَيها، ثم يتسلل الهوى لقلبه لِواذًا في وسط البحث وفي مَعمَعة النظر، فيحمله على الحَيف في الترجيح، يقول الشيخ المعلمي: (على الناظر في مسألة من المسائل أن يفتِّش نفسه قبل البحث فيها، ثم في أثنائه، مثلًا.. ففتِّش عن سبب ذلك الميل، وقَوِّمْ نفسك إن استطعت)، ويقول في موضع آخر موصيًا الباحث: (لا تنس مراقبة نفسك أثناء البحث فإنه قد يَعْرِضُ لها هوىً لم يكن قبلُ.. فإذا لم يحصل لك من البحث إلا الرجحان النفسيُّ فلا تثق به، وإذا ظهر لك دليلٌ يوافق هواك فأمعن في تأمُّلِه والتفكُّر فيما يخدش فيه أو يعارضه كما تصنع في دليل خصمك، واستعن بمراجعة مَن يخالفك).
بواعث الهوى:
بواعث الهوى جمّة، وأسبابه غزيرة، وربما يتشكل بأوضاع يراها الناظر متناقضة، فلو كان الهوى صورة واحدة معروفة لسهل على الإنسان معرفتها وتجافيها، وإنما لكثرة تشكلاته لا يعصم الإنسان من الهوى -بعد عون الله- إلا شدة مراقبته لنوازعه ودوافعه، وقد شرح الشيخ المعلمي كثيرا من بواعث الهوى في كتبه ورسائله على عادته في معالجة الحواجز النفسية بين يدي المناقشات العلمية إدراكًا منه أن الحقّ -في عامة الأحوال- ظاهر، وإنما الهوى الجامح طارئ وغالب على عامة النفوس! قال الشيخ شارحًا بعض بواعث الهوى: (قد تَهْوَى القولَ لأن في مقابله مشقَّةً كعدم وجوب الجماعة، أو إخراجَ مالٍ كجواز الحيل لإسقاط الزكاة .. وقد تَهْوَى القولَ لأنك ترى ذهابك إليه، وانتصارك له يُكْسِبُكَ جاهًا وقبولاً وشهرةً؛ كأن يكونَ موافقًا لهوى الأمراء والأغنياء والعامَّة، وهذا من أَضَرِّ الأهواء وأهدمها للدِّين، وقد تهواه لأنك ترى في ظهور صحَّته فخرًا لك، وفي ظهور بطلانه غضاضةً عليك، فتهْوَى القولَ الذي سبق أن قلتَ به وعرفهُ الناسُ، والقولَ الذي مضى عليه آباؤُك أو مشايخُك أو إمامك، أو أي رجل أو فريق تنتسب إليه؛ لأنك ترى أن ما يثبت لمن تنتسب إليه من مدحٍ بإصابة أو نقص بغلطٍ يَسْرِي إليك).
ويتوغل الشيخ في تحليل النفوس بصورة عميقة نادرة المثال، فيرى أن الهوى ربما انبعث لأدنى مناسبة وأخفى سبب! فانظر إلى هذه الأسباب الخفية التي ربما لا يطرأ على البال كونها من بواعث الهوى العلمي: (قد تهوَى القول لمناسبةٍ مَّا بينك وبين قائله، كأن تكون حنبليًّا فتهْوَى قول مالك إن كنت مدنيًّا أو قول أبي حنيفة إن كنت فارسيًّا أو قول الشافعي إن كنت قرشيًّا، حتى لقد نجد المرأة في عصرنا تميل إلى قول يُرْوَى عن عائشة، وقد تهواه لأن في ظهور صحته نقصًا على من ينافسك من أقرانك ومعاصريك؛ لأنك تحبُّ ظهور نقصهم وظهورَ فَضْلِكَ عليهم. وكذلك تهواه إذا كان في ظهور صحته تخطئةٌ لمن كان ينافس أباك أو شيخك أو إمامك أو أيَّ رجل أو فريق تنتسب إليه؛ لأنك ترى أن في ظهور نقص ذاك رجحانًا لمن تنتسب إليه يسري إليك، حتى لقد يسمع الحنفي شعرًا منسوبًا إلى الإِمام الشافعيَّ فيحرص على أن يقدح في فصاحته، وقد تَهْوَى القولَ لأن فيه فضيلةً لك أو لمن تنتسب إليه أو توافقه في أمرٍ مَّا، أو لأن في مقابله نقصًا لمن يخالفك أو يخالف مَنْ تنتسب إليه، أو توافقه فتهوى القول بأنَّ الأعجميَّ كفءٌ للعربيَّة إن كُنْتَ عجميًّا، ومقابله إن كُنْتَ عربيًّا، وتهوَى صحةَ ما رُوِيَ في فضل العربِ دون ما رُوِيَ في فضل فارسٍ إن كنت عربيًّا، وعكسه إن كنت فارسيًّا).
الهوى في نفوس الأكابر:
وربما عَظُمَ سلطان الهوى ومدَّ ذراعيه الطويلتين حتى داخَلَ نفوسَ أهلِ الديانة والفضل من الذين لا يشك المرء في سعة علمهم وصدق أمانتهم، ولكنَّ الهوى -على خفائه- عظيمُ النفوذ شديد السطوة سريع الخطوات، وإن كان إيمان هؤلاء وسابقتُهم وصدقهم يحجزهم عن كثير من دركات الهوى، ويعينهم على سرعة الفيئة، وقد يقوى رقيب الإيمان في نفوسهم (حتى لا يكاد يبقى للهوى أثرٌ البتَّة، ولا يبقى في المعركة إلا الحجَّة والشبهة، وقد يَضْعُفُ الرقيب على تفاوتٍ، والتوفيق بيد الله)، يقول الشيخ في بيان أثر الهوى حتى على بعض نفوس الأفاضل: (كثيرٌ من أولئك المتأوَّلين التأويلات التي لا يشكُّ البريء من الهوى في بطلانها هم ممن ثبتت معرفته وأمانته وأنه لا يتعمَّد الباطل، ولكن الهوى أعماه وأصمَّه فقاتل الحقَّ وهو يظنُّ أنه يقاتل عن الحقَّ) ويقول في موضع آخر: (وبالجملة فمسالك الهوى كثيرة، وفيها ما يَدِقُّ ويَغْمُضُ فيخفى على صاحبه، وكثيرًا ما يتفق ذلك لأكابرَ لا يُرْتَاب في علمهم وفضلهم وورعهم).
وهذا الهوى الخفي الذي ربما وقع في نفوس بعض الأكابر والأفاضل ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية وبيّن أنه حينما يقع في نفوس هؤلاء يكون فتنةً لطائفتين من الناس، قال ابن تيمية: (الرجل العظيم في العلم والدين، من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى يوم القيامة... قد يحصل منه نوع من الاجتهاد مقرونا بالظن، ونوع من الهوى الخفي، فيحصل بسبب ذلك ما لا ينبغي اتباعه فيه، وإن كان من أولياء الله المتقين، ومثل هذا إذا وقع يصير فتنة لطائفتين: طائفة تعظمه فتريد تصويب ذلك الفعل واتباعه عليه، وطائفة تذمه فتجعل ذلك قادحًا في وِلايته وتقواه، بل في بِرِّه وكونه من أهل الجنة، بل في إيمانه حتى تخرجه عن الإيمان، وكلا هذين الطرفين فاسد).
الهوى المنعكس:
أغلب ما يكون الهوى في الأمور التي نشأ عليها المرء وسارَ عليها آباؤه وأجداده وأشياخه، فإن (الفطام عن المألوف شديد، والنفوس عن الغريب نافرة)، قال المعلِّمي في ذكر حالة اشتداد الهوى عند عامة الخلق: (يشتدُّ الهوى جدًّا في الأمور التي نشأ عليها الرجل وأَلِفَهَا وافتخر بها ومضى عليها آباؤه وأجداده وأحبَّاؤه وشيوخه ومَنْ يقتدي بهم، ويرجو النجاة بحبِّهم وشفاعتهم، إذا قيل له في كثير من تلك الأمور إنها بدع، وإن منها ما هو كفر أو شرك، ذلك أنه يرى أن من لازم صحة ذلك أن يظهر أنه كان مبتدعًا ضالًّا أو كافرًا مشركًا، وأنَّ كثيرًا من آبائه وأجداده وشيوخه وفقهائه وأقطابه وأوتاده كانوا مبتدعين ضالّين أو كفَّارًا مشركين وأنهم مخلَّدون في النار، وأنه إذا تدبَّر الحجج فتبيَّن له بطلانُ ما كان عليه هو وأسلافه فرجع إلى الحق كان رجوعُه بدعوة أناسٍ لم يزل يمقُتُهُم ويُسَفِّهُهُمْ).
فهذا هو الأصل الغالب على عادة الناس، ولكن ربما انعكس الهوى واتخذ صورةً مقلوبة، وأفضى بالمرء إلى أن يكون مولَعًا بمخالفة ما دَرَجَ عليه الآباء والأجداد! وهذه من أعاجيبِ الهوى الخفية وأحابيلِ النفوس الدقيقة، ولهذا الانعكاس بواعث وأسباب، فـلهوى النفوس سرائر، قال المعلّمي في شرح هذا الانعكاس الجذري وذِكرِ شيءٍ من أسبابه: (قد ينعكس الهوى فَيَهْوَى الإنسانُ أن ينقض قولَهُ السابقَ وأن يخالفَ آباءه وأجدادَه وشيوخَه وأئمّتَه وسائرَ ما تقدَّم، يَهْوَى ذلك حرصًا على أن يقال: حرُّ الفكر بريءٌ من التعصُّب، وطمعًا أن يُعَدَّ مجدّدًا يُؤْخَذُ عنه، وإمامًا يُقْتَدَى به، وعلى الأقلِّ يرى أنه إذا خالف الأكابر فقد صار قِرنًا لهم. وقد كان أصاغرُ الشعراءِ يَتَعَرَّضون لِهَجْوِ أكابرهم كجرير والفرزدق وبَشَّار، كل ذلك ليرتفعوا بذلك فيقال: إن فلانًا ممن هاجى جريرًا، ولهذا كان الأكابر يترفَّعُون عن إجابة هؤلاء المتعرَّضين).
مكاشفة نادرة:
الشيخ مع كثرة كلامه عن الهوى وتحذيره المستمرّ من سلطانه النافذ، لا يزكي نفسه من تبعاته، ولا يمنحها صك البراءة من الهوى، وإنما تجده يقول بكل تجرد: (ولست أدَّعي براءتي من الهوى، ولا تمكّني من التغلُّب عليه كما يجب)، ويقول في موضعٍ آخر مرتِّبًا الكلام ترتيبًا كعادته: (وإنني ما أبرئ نفسي عن الهوى، ولا آمَنُ أن يكون لي هوى أنا غافل عنه، أو عارف به غير محترس من الاسترسال معه، أو محترس مقصّر، والله المستعان وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم).
وفي نصٍّ من عيون نصوص المعلّمي يشرح الشيخ فيه نفوذَ سلطان الهوى وقوة استحكامه على النفوس البشرية، ويضرب المثال بتجربة ذاتية صادِقة، يقول الشيخ: (وبالجملة، فمسالك الهوى أكثر من أن تُحْصى، وقد جَرّبتُ نفسي أنني ربما أنظر في القضية زاعمًا أنه لا هوى لي، فيلوح لي فيها معنى، فأقرِّره تقريرًا يُعجبني، ثم يلوح لي ما يخْدِش في ذاك المعنى، فأجدني أتبرَّم بذلك الخادش، وتُنازعني نفسي إلى تكلُّف الجواب عنه، وغضِّ النظر عن مناقشة ذاك الجواب، وإنما هذا لأني لمَّا قررتُ ذاك المعنى أولاً تقريرًا أعجبني صرتُ أهوَى صحته، هذا مع أنه لم يعلم بذلك أحد من الناس، فكيف إذا كنتُ قد أذعتُه في الناس، ثم لاح لي الخدش؟ فكيف لو لم يَلُح لي الخدش، ولكنّ رجلاً آخر اعترض عليّ به؟ فكيف لو كان المعترضُ ممن أكرهه؟!).
كان بعض الفقهاء يقول: وددت لو أنَّ بعض العلماء انتصبوا للناس يعلمونهم مسائل النية في أعمالهم وعباداتهم. فكأنَّ الشيخ المعلّمي إلى جوار جهودِه العلمية الغزيرة انتدب لنفسه أن يكفي الناس في باب الهوى العلمي، واختار َأن يجرِّد مواهبه في الكتابة وشفوفِ النظر ودِقَّة الفهم في الكلام حول نوازع النفوس وبواعثها، إيمانًا تامًّا منه بأن العلوم والمعارف كما أنها تتأثر بالحجج والاستدلالات فهي تتأثر حتمًا بالأهواء والتحيزات.
_____________________________________________
بقلم: د. سليمان بن ناصر العبودي
- التصنيف:
آيت مقران
منذ