الْمُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ

منذ 4 ساعات

في تلك اللحظات، يظهر دور المستشار، ذاك الشخص الذي نثق به لنبوح له بما نكتمه عن أقرب الناس إلينا، ونطلب منه رأيًا صادقًا

 

في زحمة الحياة وتعقيداتها، حين تتشابك الخيوط وتتداخل المسارات، نجد أنفسنا أحيانًا بحاجة إلى نور يرشدنا، وحكمة تُضيء لنا الدروب.

في تلك اللحظات، يظهر دور المستشار، ذاك الشخص الذي نثق به لنبوح له بما نكتمه عن أقرب الناس إلينا، ونطلب منه رأيًا صادقًا، ونصيحة نقيّة تُنقذنا من حيرة القرار.

لكن، هل يدرك المستشار تلك المسؤولية العظيمة التي ألقاها الله على عاتقه؟ وهل يعلم أن الكلمة التي ينطق بها ليست مجرد صوت عابر، بل هي أمانة تُعلق في عنقه؟

إن النبي ﷺ، في كلماته الموجزة العميقة، يلخص لنا هذا الدور الجليل بقوله: "المُستَشَارُ مُؤتَمَنٌ." كلماتٌ تنبض بالحكمة وتفيض بالأمانة، تحثّ كل من يُستشار على أن يكون أهلًا لهذا الشرف، صادقًا في نصيحته، أمينًا في مشورته، حريصًا على الخير لمستشيره.

في هذا المقال، نتأمل معًا أبعاد هذا الحديث الشريف، ونقف عند المعاني العميقة التي يحملها، مستلهمين دروسًا عظيمة حول الثقة، الأمانة، والصدق، تلك الفضائل التي لا يستقيم بدونها بناء الإنسان ولا تُبنى بها المجتمعات.

في كلمات قليلةٍ وعباراتٍ موجزةٍ، ينطق المصطفى ﷺ بجوامع الكلم، التي تحمل بين طيّاتها الحكمة الخالدة والمعنى العميق. ومن بين هذه الكلمات التي تصلح دستورًا للأخلاق وقاعدةً للعلاقات الإنسانية: قوله ﷺ «"المُستَشَارُ مُؤتَمَنٌ" » كم تختزل هذه الكلمات من معاني الثقة والصدق؟ وكم تفتح من أبوابٍ لفضائل لا غنى عنها في حياة الناس؟ المستشار هو ذاك الذي يلجأ إليه المرء حين تضطرب عليه الأمور، وحين تختلط عليه السُّبُل، يطلب النصح والرأي الصائب الذي يضيء له الطريق. فما أعظم المسؤولية التي يلقيها هذا الحديث الشريف على عاتق المستشار!

الثقة التي هي عصب الحياة

إن أول ما يقوم عليه هذا الحديث هو الثقة؛ ثقة المستشير بمستشاره، وطمأنينته إلى أن هذا الذي يبثّه أسراره، ويستكشف معه خفايا شؤونه، لن يغدر به ولن يخونه. ومن هنا كان وصف النبي ﷺ المستشار بأنه "مؤتمن". فما أعظم الأمانة التي يضطلع بها هذا الإنسان! إنها ليست مجرد أمانة مادية، بل أمانة معنوية أكبر وأعظم؛ أمانة الصدق في المشورة، وأمانة حفظ السرّ، وأمانة تقديم الخير بلا ميل أو هوى.

صدق المشورة وأمانة الكلمة

المستشار المؤتمن هو الذي ينصح لمستشيره بما يرى فيه الخير والحق، لا بما يوافق هواه أو يحقق مصلحة له. إنه لا يزين الباطل ليُرضي، ولا يخفي الحقيقة ليهرب من المسؤولية. وهذا هو جوهر الأمانة؛ أن تزن الأمر بميزان الحق، لا بميزان الهوى، وأن تقف موقف الناصح الأمين، الذي لا يطمع إلا في رضا الله، ولا يرجو إلا تحقيق الخير.

ألا ترى كيف جعل الإسلام الكلمة مسؤولية، والصدق في النصيحة أمانة؟ حتى إن رسول الله ﷺ قال: "الدِّينُ النَّصِيحَةُ." وما الاستشارة إلا صورة من صور النصيحة. فلا عجب أن يربطها النبي ﷺ بالأمانة، لتكون المشورة عبادة يُتقرب بها إلى الله، لا عبئًا ثقيلًا يتخلص منه المستشار بالكلام العابر أو الرأي المتردد.

حفظ الأسرار ورعاية الحقوق

ثم تأمل الجانب الآخر من الأمانة في الاستشارة: حفظ السرّ. المستشير قد يُفضي إلى مستشاره بأمورٍ لا يُطلع عليها أقرب الناس إليه، أمورٍ تتعلق بدقائق حياته، بشؤونه الخاصة، بأسرار بيته أو عمله. وهنا تكمن الأمانة في كتمان هذا السرّ وعدم إفشائه، حتى لو انتهت العلاقة بينهما، أو تغيّرت الظروف والأحوال.

إن إفشاء السر خيانة، وخيانة الأمانة في الاستشارة جُرم عظيم، لأنها تهدم أساس الثقة بين الناس، وتزرع الشك والريبة بدل الطمأنينة والأمان.

الإخلاص والابتعاد عن الأهواء

وإذا كان المستشار مؤتمنًا، فإن أمانته تقتضي منه أن يكون مخلصًا في مشورته، بعيدًا عن الأهواء. فكم من مستشار أشار بغير الحق، إما رغبةً في منفعةٍ لنفسه، أو ميلًا إلى طرفٍ دون آخر، أو تهربًا من المواجهة الصريحة! لكن المستشار الذي يتقي الله ويعي أمانة الكلمة، لا يتردد في قول الحق، وإن كان مُرًّا، ولا يساوم على المبادئ، ولو كان الثمن رضا الناس عنه.

تتجلى أمانة المشورة في روح الشريعة، التي تكرّم الكلمة الصادقة، وتجعلها معيارًا للخير. يقول الله تعالى: " {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} " [المائدة: 2]. والمشورة الصادقة هي صورة من صور التعاون على البر والتقوى، لأن فيها دلالةً على الخير وتحذيرًا من الشر.

وقد كان النبي ﷺ نفسه قدوة في طلب المشورة وإبدائها، مع أنه المؤيد بالوحي. فحين استشار أصحابه يوم بدر، ويوم الخندق، وفي شؤون السلم والحرب، إنما أراد أن يعلمنا أن الاستشارة ليست ضعفًا، بل هي عين القوة، وأن المستشار الحق هو الذي يحرص على مصلحة الجماعة، لا مصلحته الشخصية.

وختامًا ما أعظم هذا الحديث! وما أبلغ دلالته! إنه دعوة إلى بناء العلاقات على أساس من الثقة والأمانة، وتذكير بأن المستشار حين يُستشار، فإنه يقف بين يدي الله، مسؤولًا عما يقول، محاسبًا على ما يشير به. فإن كان صادقًا في مشورته، مخلصًا في نصيحته، فقد أدى أمانته وبرّ بذمّته. وإن خان أو جامل، أو مال مع الهوى، فقد خان الأمانة وأضرّ بأخيه.

فلنكن مستشارين أمناء، ولنسأل الله دائمًا أن يوفقنا للصدق والإخلاص في كل كلمة ننطق بها، فإن الكلمة ليست مجرد حروف تُقال، بل هي أمانة في عنق قائلها، ومسؤولية يحاسب عليها يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

 

  • 0
  • 0
  • 29

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً