إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ

منذ يوم

الخطاب للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وهذا من الخطابات التي تختص برسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.. فالخطابات الموجهة لرسول الله تنقسم إلى ثلاثة أقسام :

بسم الله الرحمن الرحيم

يقول تعالى في سورة آل عمران:

{إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126)} {}

{{إِذْ تَقُولُ}} الخطاب للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وهذا من الخطابات التي تختص برسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.. فالخطابات الموجهة لرسول الله تنقسم إلى ثلاثة أقسام :

الأول: ما دل الدليل على أنه خاص به.. مثل هذه الآية، وقوله تعالى: {{أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ}} [الشرح:١]

والثاني: ما دل الدليل على أنه عام للأمة. كقوله تعالى: {{يَأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}} {} [الطلاق:1]

والثالث: ما لم يدل الدليل لا على هذا ولا هذا. فهو عام بلا شك، حكمه عام. كقوله تعالى: {{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}} [التوبة:73]

{لِلْمُؤْمِنِينَ} المراد بهم الصحابة -رضي الله عنهم-، ووصفهم بالإيمان دون الصحبة لأن الوصف بالإيمان هو مناط النصر في كل وقت حتى فيما بعد الصحابة، فإن الله ينصر الذين آمنوا.

وتذكير الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والمؤمنين بما تم لهم من النصر في موقف الصبر والتقوى في غزوة بدر، فهذه الآية متعلقة بقوله: {{وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ}}[آل عمران:123]

{{أَلَنْ} } استفهام استنكاري، والمعنى إنكارُ عدمِ كفايةِ الإمدادِ بذلك المقدار ونفيُه. أو استفهام تقريري جيء في النفي بحرف «لن» الذي يفيد تأكيد النفي للإشعار بأنهم كانوا يوم بدر لقلتهم وضعفهم، مع كثرة عدوهم وشوكته، كالآيسين من كفاية هذا المدد من الملائكة، فأوقع الاستفهام التقريري على ذلك ليكون تلقينا لمن تخالج نفسه اليأس من كفاية ذلك العدد من الملائكة، بأن يصرح بما في نفسه، والمقصود من ذلك لازمه، وهذا إثبات أن ذلك العدد كاف.

وكان حرف النفي «لن» الذي هو أبلغ في الاستقبال من «لا» أبلغ في وصف الشعور باليأس من النصر.

قال في زهرة التفاسير: الآية تومئ إلى أن حالا من الخور قد اعترت نفوس بعض المحاربين، إذ إن الاستفهام كان منصبا على «لن» التي تفيد النفي المؤكد، والمعنى: أمن المؤكد أنه لَا يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين، وهذا فرق ما بين الاستفهام إذا دخل على «لا» والاستفهام إذا دخل على «لن» فالأول استفهام منصب على نفي غير مؤكد، والثاني استفهام منصب على نفي مؤكد، وذلك يدل على خور قد اعترى بعضهم، فكانت الحال في الابتداء عن بعض المحاربين تومئ إلى احتمال هزيمة.. وفي مصحف أبيّ: {{ألا يكفيكم}}

{{يَكْفِيَكُمْ} } الكفايةُ سدُّ الخَلّةِ والقيامُ بالأمر، أي يكون كافياً لكم هذا الأمر {{أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ}}

ومعنى يكفيكم يسد حاجتكم، فقال لهم ذلك رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عندما بلغهم وهم حول المعركة أن كُرْز بن جابر المحاربي يريد أن يمد المشركين برجاله يقاتلون معهم فشق ذلك على أصحابه.

{أَنْ يُمِدَّكُمْ} أي بالملائكة عوناً لكم على قتال أعدائكم المتفوقين عليكم بالعدد والعتاد.

والإمدادُ في الأصل إعطاءُ الشيءِ حالاً بعد حال. قال المفضّل: ما كان منه بطريق التقويةِ والإعانةِ يقال فيه: أمَدَّه يُمِدُّه إمداداً، وما كان بطريق الزيادة يقال فيه: مَدَّه يمُدّه مداً ومنه: {{وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}}  [لقمان:27] وقيل: المَدّ في الشر كما في قوله تعالى: {{اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} } [البقرة:15] وقولِه: {{وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ العذاب مَدّاً}} [مريم:79] والإمدادُ في الخير كما في قوله تعالى: {{وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ}} [الإسراء:6]

{{رَبُّكُمْ}} التعرُّضُ لعنوان الربوبية هاهنا وفيما سيأتي مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين لإظهار العنايةِ بهم والإشعارِ بعلةِ الإمداد.

{{بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ}} هم عالم غيبي خلقهم الله تعالى من نور، ووجه لهم عبادات وأعمالاً يقومون بها لا يعصون الله فيها ويفعلون ما يؤمرون، فليس عندهم استكبار تكون به المعصية، وليس عندهم عجز يكون به تخلف الفعل، بل هم سامعون مطيعون قادرون على تنفيذ أمر الله بخلاف البشر، فإنه يكون عندهم استكبار فيعصون الله، ويكون عندهم عجز فلا يقدرون على تنفيذ أمر الله، أما الملائكة فعندهم قوة لا يعجزون عن امتثال أمر الله، وعندهم انقياد تام فلا يعصون الله سبحانه وتعالى .

{{مُنْزَلِينَ}} ووصف الملائكة بمنزلين للدلالة على أنهم ينزلون إلى الأرض في موقع القتال عناية بالمسلمين، قال تعالى: {{مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ}} {} [الحجر:8]

{{بَلَى}} حرف إجابة، للإثبات أو لتقرير للاستفهام السابق يفيد إيجاب لما بعد «لن»، فكانت {بلى} إبطالا للنفي، وإثباتا لكون ذلك العدد كافيا، وأوجب الكفاية، وفيها معنى الإضراب عن الإمداد الكثير إلى الإمداد الأكثر.. أي بلى يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين، ووعدَهم الزيادةَ أيضا بشرط الصبرِ والتقوى حثاً لهم عليهما وتقويةً لقلوبهم فقال:

{{إِنْ تَصْبِرُوا}} على لقاء العدو ومناهضتِهم، فالصبر هو قوة الحروب، والصبر يتقاضى أن يضبط المجاهد نفسه فلا ينساق وراء الأراجيف والمخاوف.

  {{وَتَتَّقُوا}}  معصيةَ الله ومخالفةَ نبيِّه عليه الصلاة والسلام. والتقوى تتقاضى التوكل بعد الأخذ في الأسباب، والاعتماد على القوي القهَّار الغالب على كل شيء.

{{وَيَأْتُوكُمْ}} أي المشركون.. موقع وعد، فهو في المعنى معطوف على {يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ} وكان حقه أن يرد بعده، ولكنه قدم على المعطوف عليه، تعجيلا للطمأنينة إلى نفوس المؤمنين.

{{مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا}} من ساعتهم، يأتوكم من الجهة التي جاءوكم منها في مبادرة سريعة؛ لأن الفور معناه المبادرة بالشيء، فالمعنى أنهم إذا باغتوكم وأتوكم من فورهم، فإنه يمددكم بخمسة آلاف من الملائكة.

وإضافة الفور إلى ضمير الآتين {{فَوْرِهِمْ} } لإفادة شدة اختصاص الفور بهم، أي شدة اتصافهم به حتى صار يعرف بأنه فورهم. والإشارة بقوله {{هَذَا} } إلى الفور تنزيلا له منزلة المشاهد القريب.

وشروط المدد ثلاثة: الصبر والتقوى، وأن يأتوهم من فورهم هذا.

قال أبو السعود: "أي من ساعتهم هذه، وهو في الأصل مصدرُ فارَت القِدرُ أي اشتد غَلَيانُها ثم استُعير للسرعة ثم أُطلق على كل حالةٍ لا ريث فيها أصلاً، ووصفُه بهذا لتأكيد السرعةِ بزيادة تعيينِه وتقريبِه.

ونظمُ إتيانِهم بسرعة في سلك شرطَي الإمداد المستتبِعَيْن له وجوداً وعدماً أعني الصبرَ والتقوى مع تحقق الإمدادِ لا محالةَ سواءٌ أسرعوا أو أبطأوا لتحقيق أصلِه أو لبيانِ تحقّقِه على أي حال فُرِضَ، على أبلغ وجهٍ وآكَدِه بتعليقه بأبعدِ التقاديرِ ليُعلم تحقُّقُه على سائرها بالطريق الأوْلى، فإن هجومَ الأعداءِ وإتيانَهم بسرعة من مظانّ عدمِ لُحوق المددِ عادةً، فعُلِّق به تحققُ الإمدادِ إيذاناً بأنه حيث تحقق مع ما ينافيه عادةً فلأَنْ يتحقَّقَ بدونه أولى وأحرى، كما إذا أردتَ وصفَ درعٍ بغاية الحَصانة تقول: إن لبستَها وبارزتَ بها الأعداءَ فضربوك بأيدٍ شدادٍ وسيوفٍ حِدادٍ لم تتأثرْ منها قطعاً".

{{يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ}} في إسناد الإمداد إلى لفظة {ربكم} دون غيره من أسماء الله إشعارٌ بحسن النظر لهم، واللطف بهم، فهذه ربوبية خاصة.

{{بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ}} زائد على الثلاثة التي تكفل الله بها.. والأعداد المذكورة هنا مناسبة لجيش العدو فإنهم لما خشوا كثرة عدد عدوهم وعدهم الله بثلاثة آلاف أي بجيش له قلب وميمنة وميسرة كل ركن منها ألف، ولما لم تنقشع خشيتهم من إمداد المشركين لأعدائهم وعدهم الله بخمسة آلاف، وهو جيش عظيم له قلب وميمنة وميسره ومقدمة وساقة، وذلك هو «الخميس»، وهو أعظم تركيبا وجعل كل ركن منه مساويا لجيش العدو كله.

** وفيه أن من نعمة الله على العبد أن يكون الذي يتولاه الملائكة؛ لأن الملائكة تثبت على الخير بخلاف الشياطين فإنها تثبت على الشر، ويتفرع على هذه الفائدة أنه إذا امتنعت الملائكة عن دخول بيت فإنه نوع من العقوبة كما في قوله عليه الصلاة والسلام: ( «الْمَلَائِكَةَ لَا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ صُورَةٌ» ) [البخاري]

{{مُسَوِّمِينَ}} أي مُعْلِمين أنفسَهم أو خيلَهم، وتطلق السومة على علامة يجعلها البطل لنفسه في الحرب من صوف أو ريش ملون، يجعلها على رأسه أو على رأس فرسه، يرمز بها إلى أنه لا يتقي أن يعرفه أعداؤه، فيسددوا إليه سهامهم، أو يحملون عليه بسيوفهم، فهو يرمز بها إلى أنه واثق بحمايته نفسه بشجاعته، وصدق لقائه، وأنه لا يعبأ بغيره من العدو. ووصف الملائكة بذلك كناية على كونهم شدادا.

رُوي أنهم كانوا بعمائمَ بيضٍ إلا جبريلَ عليه السلام فإنه كان بعمامة صفراءَ على مثال الزبير بنِ العوام، وروي أنهم كانوا على خيل بُلْقٍ. [فيها سواد وبياض]

قال عروةُ بنُ الزبير: كانت الملائكةُ على خيل بُلْق عليهم عمائمُ بيضٌ قد أرسلوها بين أكتافِهم.

وقال قتادة والضحاك: كانوا قد أَعْلموا بالعِهْن في نواصي الخيلِ وأذنابِها.

فهم معلمين بعلامات تعرفونهم بها. علم الجهاد وعلم القتال، وهذا أبلغ من مجرد الإنزال. لأن العادة أن الشجعان يجعلون لهم علامات فوق لأمة الحرب حتى يعرف بها الشجاع من غيره.

ولما انهزم كرز يوم بدر قبل تحركه وقعد عن إمداد قريش بالمقاتلين لم يمد الله تعالى رسوله والمؤمنين بما ذكر من الملائكة فلم يزدهم على الألف الأولى التي أمدهم بها لما استغاثوه في أول المعركة.. فهذه الألف هي التي نزلت فعلاً وقاتلت مع المؤمنين وشوهد ذلك وعلم به يقيناً، أما الوعد بالإِمداد الأخير فلم يتم لأنه كان مشروطاً بإمداد كرز لقريش فلما لم يمدهم، لم يمد الله تعالى المؤمنين.. هذا على قول من قال أن هذا الوعد بالإمداد بثلاثة ثم خمسة آلاف كان يوم بدر.

{ {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ}} أي هذا الإمداد من إنزال الله الملائكة وإعلامكم بإنزالها. وإظهار اسم الجلالة في مقام الإضمار للتنويه بهذه العناية من الله بهم.

{{إِلَّا بُشْرَى}} ما جعل الله هذا الإمداد لشيء إلا أنه بشرى {لَكُمْ} بالنصر، فتزداد قوة قلوبكم وشجاعتكم ونجدتكم ونشاطكم.. والبشرى: الخبر السار الذي يتهلل له الوجه بالبشر والطلاقة.

و{لكم} متعلق ببشرى. وفائدة التصريح به مع ظهور أن البشرى إليهم هي الدلالة على تكريمه الله تعالى إياهم بأن بشرهم بشرى لأجلهم، كما في التصريح بذلك في قوله تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:1].

والجملة استثناءٌ مفرَّغٌ وهو من أعم العللِ التي تفيد التخصيص، والاستثناء المفرغ هو ما حذف فيه المستثنى منه وتقدمه نفي أو نهي أو استفهام، ولهذا سمي ناقصا، ولم تعد فيه «إلا» أداة للاستثناء بل تصبح «أداة حصر»، وسمي مفرغا لأن الفعل قبل «إلا» فرغ من معموله وهو الفاعل أو المفعول.

وتلوينُ الخطابِ لتشريف المؤمنين وللإيذان بأنهم المحتاجون إلى البِشارة وتسكينِ القلوب بتوفيق الأسبابِ الظاهرةِ، وأن رسولَ الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- غنيٌ عنه بما له من التأييد الروحاني.. أي وما جعل إمدادَكم بإنزال الملائكةِ عِياناً لشيء من الأشياء إلا للبشرى لكم بأنكم تُنْصَرون.

{{وَلِتَطْمَئِنَّ} } تسكن {{قُلُوبُكُمْ بِهِ}} أي بالإمداد، فلا تجزع من كثرة عدوكم وقلة عددكم.. فإن الله لما وعدهم بالنصر أيقنوا به فكان في تبيين سببه وهو الإمداد بالملائكة طمأنة لنفوسهم لأن النفوس تركن إلى الصور المألوفة.

وأصل اطمئنان القلوب: سكونها وذهاب الخوف والقلق عنها، كما كانت السكينةُ لبني إسرائيلَ كذلك.

اختلف المفسرون في هذه الآيات، أهي في غزوة بدر الكبرى التي جعل الله فيها الكلمة العليا للمسلمين، والكلمة السفلى للمشركين، والتي خرجت بالمؤمنين من حال الضعف في الأرض إلى حال القوة فيها؛ أم هي في غزوة أحد التي اختبر الله المؤمنين إذ لم يتبعوا أمر الله تعالى الذي يتضمن الطاعة للرسول ولأولي الأمر، فبين لهم سبحانه وتعالى نتيجة المخالفة بذلك الاختبار الشديد.

 قال بعض المفسرين: إن الآية في غزوة بدر الكبرى، لأن الله تعالى يقول قبل هذه الآية مباشرة: {{وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}} . فقد ذكر النصر مجملا في هذه الآية فيكون ما بعدها تفصيلا لمجملها، وتكون هذه الآيات الكريمة التي نتكلم في معانيها السامية بياناً لأسباب هذا النصر، وهذا يتفق مع السياق.

وقال أكثر المفسرين: إن هذه الآيات في غزوة أحد، فقوله: {{إذْ تَقُول لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبّكُم بِثَلاثَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ مُنزَلِينَ}} ، في موضعِ البيان أو البدل من قوله تعالى: {{إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}} {} .

وأما قوله تعالى: {{وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} } معترضاً بين الكلامين لما فيه من التحريض على التوكل والثبات للقتال.

وقوله تعالى: {{وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا} } ويوم بدر ذهب المسلمون إليهم.

وأن الرواية تؤيد ذلك، إذ روي عن كثيرين من التابعين أن إمداد الله بالملائكة كان في بدر بألف، كما قال تعالى: {{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بأَلْفٍ مِّنَ الْمَلائكَةِ مُرْدفِينَ}} .

وقد ذكر الضحاك في قوله تعالى: {{أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بثَلاثَةِ آلاف}} أن هذا كان موعدا من الله يوم أحد، عرضه الله على نبيه محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. ورجح شيخ المفسرين ابن جرير أن هذه الآية في غزوة أحد.

وفي زاد الميعاد لابن القيم: "القصة في سياق أُحُد، وإنما أدخل ذكر بدر اعتراضاً في أثنائها، فإنه سبحانه قال: {{وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}} ، ثم قال: {{وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}} فذكرهم نعمه عليهم، لما نصرهم ببدر وهم أذلة، ثم عاد إلى قصة أُحُد، وأخبر عن قول رسوله لهم: { {أَلَن يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُنزَلِينَ}} ثم وعدهم أنهم إن صبروا واتقوا أمدهم بخمسة آلاف. فهذا من قول رسوله، والإمداد الذي ببدر من قوله تعالى، وهذا بخمسة آلاف، وإمداد بدر بألف، وفي أحد معلق على شرط، وفي بدر مطلق.

والقصة في سورة آل عِمْرَان، هي قصة أُحد مستوفاة مطولة، وبدر ذكرت فيها اعتراضاً .

والقصة في سورة الأنفال قصة غزوة بدر مستوفاة مطولة، فالسياق في آل عِمْرَان غير السياق في الأنفال، يوضح هذا أن قوله: {{وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا} } قد قال مجاهد: هو يوم أُحُد، وهذا يستلزم أن يكون الإمداد المذكور فيه، فلا يصح قوله إن الإمداد بهذا العدد كان يوم بدر وإتيانهم من فورهم هذا يوم أُحُد. [زاد الميعاد بتصرف]

وقال ابن تيمية في «مجموع الفتاوى»: قال سبحانه في قصة بدر: {{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ}} [الأنفال:9-10]، فوعدهم بالإمداد بألف وعدًا مطلقًا، وأخبر أنه جعل إمداد الألف بُشْرى ولم يقيده، وقال في قصة أحد: { {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُنزَلِينَ بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ} } [آل عمران:124- 125]، فإن هذا أظن فيه قولين:

أحدهما: أنه متعلق بأُحُد؛ لقوله بعد ذلك { {لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} } الآية [آل عمران:127]؛ ولأنه وعد مقيد، وقوله فيه: {{وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ} } [آل عمران:126]، يقتضى خصوص البشرى بهم.

وأما قصة بدر، فإن البشرى بها عامة، فيكون هذا كالدليل على ما روى من أن ألف بدر باقية في الأمة، فإنه أطلق الإمداد والبشرى وقدم { بِهِ } على { لَكُمْ } عناية بالألف، وفى أُحد كانت العناية بهم لو صبروا فلم يوجد الشرط".

وعن الخلاف بين المفسرين عن هذا الإمداد كان ببدر أم أحد يقول ابن جرير: "وغير جائز، أن يقال في ذلك قول إلا بخبر تقوم به الحجة، ولا خبر به كذلك، فنسلم لأحد الفريقين قوله.

غير أن في القرآن دلالة على أنهم قد أمدوا يوم بدر بألف من الملائكة... فأما في يوم أحد فالدلالة على أنهم لم يمدوا أبين منها في أنهم أمدوا. وذلك أنهم لو أمدوا، لم يهزموا، وينال منهم ما نيل منهم".

أما حديث البخاري عن سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ أُحُدٍ وَمَعَهُ رَجُلَانِ يُقَاتِلَانِ عَنْهُ عَلَيْهِمَا ثِيَابٌ بِيضٌ كَأَشَدِّ الْقِتَالِ مَا رَأَيْتُهُمَا قَبْلُ وَلَا بَعْدُ... يعني جبريل وميكائيل وإنما كان ذلك للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خاصة، لأنه صبر ولم ينهزم كما انهزم أصحابه يوم أحد.

بل إن الإمداد ثابت في غير هذين الموطنين ففي البخاري عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمَّا رَجَعَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَوَضَعَ السِّلَاحَ وَاغْتَسَلَ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ وَقَدْ عَصَبَ رَأْسَهُ الْغُبَارُ فَقَالَ وَضَعْتَ السِّلَاحَ فَوَاللَّهِ مَا وَضَعْتُهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَيْنَ؟ قَالَ هَا هُنَا وَأَوْمَأَ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ قَالَتْ فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.» 

{{وَمَا النَّصْرُ}} أي حقيقةُ النصرِ على الإطلاق، فيندرِجُ في حكمة النصرُ المعهودُ اندراجاً أولياً.. يعني نصر المؤمنين، ولا يدخل في ذلك نصر الكافرين؛ لأن ما وقع لهم من غلبة إنما هو إملاء محفوف بخذلان وسوء عاقبة وخسران.

{{إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}} وحده من غير أن يكون فيه شركة لغيره، والذي لو شاء تعالى لانتصر من أعدائه بدونكم، ومن غير احتياج إلى قتالكم لهم، كما قال تعالى بعد أمره المؤمنين بالقتال: {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ. سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ. وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} [محمد:4-6]

والنصر أيضا -وإن كانت له عوامله من كثرة العدد وقوة العدة- فإنه بيد الله تعالى، فقد ينصر الضعيف ويخذل القوى، فلذا وجب تحقيق ولاية الله تعالى أولاً قبل إعداد العدد. وتحقيق الولاية يكون بالإِيمان والصبر والطاعة التامة لله ولرسوله ثم التوكل على الله عز وجل.

فحقيقة النصرِ مختصٌّ به عز وجل ليثق به المؤمنون ولا يقنَطوا منه عند فُقدان أسبابِه وأماراتِه. فنصره سبحانه من غير أن يكون فيه شِرْكةٌ من جهة الأسبابِ والعَدد، وإنما هي مظاهرُ له بطريق جَرَيانِ سنتِه تعالى.

 

** وفيه ثبوت قتال الملائكة مع أصحاب رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في بدر قتالاً حقيقياً، لأنهم نزلوا في صورة بشر يقاتلون على خيول، وعليهم شاراتهم وعلاماتهم، ولا يقولنّ قائل أن المَلَك الواحد يقدر على أن يهزم ملايين البشر، فكيف يعقل اشتراك ألف ملك في قتال المشركين وهم لا يزيدون عن الألف رجل، وذلك أن الله تعالى أنزلهم في صورة بشر فأصبحت صورتهم وقوتهم قوة البشر، ويدل على ذلك ويشهد له أنّ ملك الموت لما جاء موسى في صورة رجل يريد أن يقبض روحه ضربه موسى عليه السلام ففقأ عينه، وعاد إلى ربّه تعالى ولم يقبض روح موسى عليهما معاً السلام. كما في صحيح البخاري.

وقيل: وإنما كانت الفائدة في كثرة الملائكة لتسكين قلوب المؤمنين.

وقد سئل السبكي عن الحكمة في قتال الملائكة، مع أن جبريل قادر على أن يدفع الكفار بريشة من جناحه، فأجاب بأن ذلك لإرادة أن يكون الفضل للنبي وأصحابه، وتكون الملائكة مدداً على عادة مدد الجيوش، رعاية لصورة الأسباب التي أجراها الله تعالى في عباده. والله فاعل الجميع".

قال القرطبي: "نزول الملائكة سبب من أسباب النصر لا يحتاج إليه الرب تعالى، وإنما يحتاج إليه المخلوق فليعلق القلب بالله وليثق به، فهو الناصر بسبب وبغير سبب؛ { {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} } [يس:82]. ولكن أخبر بذلك ليمتثل الخلق ما أمرهم به من الأسباب التي قد خلت من قبل، {{وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً}} [الأحزاب:62]، ولا يقدح ذلك في التوكل.

وهو رد على من قال: إن الأسباب إنما سنت في حق الضعفاء لا للأقوياء؛ فإن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأصحابه كانوا الأقوياء وغيرهم هم الضعفاء؛ وهذا واضح".

قال بعض الحكماء: "ذكر تعالى في هذه الآية حكمة إخبارهم بالنصر، وأنه يريد بشراهم وطمأنينتهم وتوكلهم عليه، وهو أدعى إلى قوة العزيمة، فإن العامل إذا أيقن بأن معه قاهر الكون رفعته تلك الفكرة، وجعلته أقوى الناس، وأقدرهم على صعاب الأمور، لا كما يظنه المنتكسون الجاهلون الكسالى اليائسون من روح الله، حيث جعلوا التوكل ذريعة إلى البطالة، فباؤا بغضب على غضب".

{{الْعَزِيزِ}} أي الغالب الذي لا يغالَب في حكمه وأقضيتِه، وإجراءُ هذا الوصفِ عليه تعالى للإشعار بعلة اختصاصِ النصرِ به تعالى.

{{الْحَكِيمِ}} الذي يضع النصر في موضعه لكمال علمه، فيعطيه مستحقه من أهل الصبر والتقوى.

جمع وترتيب

د/ خالد سعد النجار

[email protected]

 

 

 

خالد سعد النجار

كاتب وباحث مصري متميز

  • 0
  • 0
  • 83

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً