نعمة الأمن.. أهميتها وضرورتها
الأمن نعمة من الله، ينبغي أن نُحسن استخدامها، ويُعين بعضنا بعضًا على استثمارها؛ فبه ترتفع الأوطان، وتنهض المجتمعات، ويُعاد لأمتنا ريادتها من جديد.
مقدمة:
إن نِعَمَ الله كثيرة لا تُعَدُّ: {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 34]؛ أي: إن الإنسان مبالِغ في الظلم والجحود؛ إذا أصابته شدة يشكو، وإن أصابته نعمة يجمع ويمنع[1].
وقال تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 18]؛ أي: "غفور لما صدر منكم من تقصير، رحيم بالعباد؛ حيث يُنعِم عليهم مع تقصيرهم وعصيانهم"[2].
ومن هذه النعم: نعمة الأمن؛ أن يعيش الإنسان آمنًا في نفسه، آمنًا في أسرته، آمنًا في مجتمعه، فالله يمُن على أهل مكة بهذه النعمة؛ حينما خاطبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقولهم: {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} [القصص: 57]؛ أي: "إن اتبعناك يا محمد على دينك، وتركنا ديننا، نخاف أن تتخطفنا العرب؛ فيجتمعوا على محاربتنا، ويخرجونا من أرضنا"[3]، وردَّ الله عليهم بقوله: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [القصص: 57]؛ أي: عصمنا دماءهم، وجعلنا مكانهم حرمًا آمنًا، فكيف يكون آمنًا في حال كفرهم، ولا يكون آمنًا لهم في حال إسلامهم؟[4]
وفي آيات أخرى يقول الله عز وجل: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش: 3، 4]؛ أي: "تفضل عليهم بالأمن والرُّخَص، فليُفردوه بالعبادة، وحده لا شريك له، ولا يعبدوا من دونه صنمًا ولا ندًّا ولا وثنًا"[5].
"ولهذا؛ من استجاب لهذا الأمر، جمع له بين أمن الدنيا وأمن الآخرة، ومن عصاه سلبهما منه؛ كما قال تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112]"[6].
1- البعد عن الشرك أعظم أنواع الأمن:
الله تبارك وتعالى يُبين لنا هذا المعنى؛ أنه لن يتم الأمن الحقيقي للإنسان إلا بترك الشرك بالله، والإيمان به، والركون إليه في كل صغيرة وكبيرة؛ قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82]، روى البخاري عن عبدالله بن مسعود قال: ((لما نزلت هذه الآية، شق ذلك على الناس، فقالوا: يا رسول الله، أينا لا يظلم نفسه؟ قال: إنه ليس الذي تعنُون، أمَا تسمعوا ما قاله العبد الصالح: {يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]؟ إنما هو الشرك))[7].
ويؤكد هذا ما ورد في الآيات قبلها: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ * وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 80 - 82].
روى النَّسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل قال: من آذَى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أفضلَ من أداء ما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فلئن سألني عبدي أعطيته، ولئن استعاذني لأعذته، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن؛ يكره الموت وأكره إساءته، أو مساءته».
هذه أعلى درجات الأمن؛ أن ينجو المسلم من الشرك، ويسري في جوارحه محبة الله، وتسارع أعضاؤه إلى تلبية أوامره والمسارعة في مرضاته؛ قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28]، أن يقنع المسلم بما قسمه الله له، ويرضى بقضائه، ويشكر ربه على نعمائه باب عظيم من أبواب الأمن؛ روى البيهقي في شعب الإيمان عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن عِظَمَ الجزاء مع عظم البلاء، والصبر عند الصدمة الأولى، وإن الله إذا أحب قومًا ابتلاهم، فمن رضِيَ فله الرضا، ومن سخط فله السخط».
2- النبي صلى الله عليه وسلم يرشدنا إلى نعمة الأمن:
في الحديث الذي رواه البيهقي في شعب الإيمان عن عبيدالله بن محصن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أصبح منكم آمنًا في سربه، معافًى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حِيزت له الدنيا».
وقد سيق هذا الحديث – أيضًا - في مقام الدعوة إلى القناعة وعدم الجشع؛ ففي بدايته – كما جاء في رواية أخرى عن ابن عمر - قوله صلى الله عليه وسلم: «ابنَ آدم، عندك ما يكفيك وأنت تطلب ما يطغيك، ابن آدم لا بقليل تقنع، ولا من كثير تشبع».
ويشير أيضًا إلى جعل الآخرة همَّ المسلم الأكبر؛ فقد روى زيد بن ثابت أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من كانت الدنيا همته، فرَّق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأتِهِ من الدنيا إلا ما كُتب له، ومن كانت الآخرة نيته، جعل الله غِناه في قلبه، وجمع له أمره، وأتته الدنيا وهي راغمة».
ويشير إلى حقيقة الغِنى؛ فهو غنى النفس؛ روى مسلم عن أبي هريرة قوله صلى الله عليه وسلم: «ليس الغِنى عن كثرة العرَض، ولكن الغنى غنى النفس».
3- الأمن الأسري فريضة الوقت:
الأسرة هي واحة الأمن والمحبة والاستقرار؛ قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 21]؛ أي: شرع لنا الزواج من أجل تحقق هذا الائتلاف، ونشر هذا الأمن، وتحقيق السكينة والطمأنينة؛ "ولو أنه تعالى جعل بني آدم كلهم ذكورًا، وجعل إناثهم من جنس آخر من غيرهم - إما من جان أو حيوان - لما حصل هذا الائتلاف بينهم وبين الأزواج، بل كانت تحصل نفرة، لو كانت الأزواج من غير الجنس"[8].
وفي آية أخرى يعبر الله عز وجل عن هذا الأمن والاستقرار المقصودين من الأسرة، بهذا التعبير القرآني الفريد: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة: 187]؛ قال ابن عباس رضي الله عنهما: "هن سكن لكم وأنتم سكن لهن"[9].
وفي الحديث الذي يعبر عن المسؤولية التضامنية في تحقيق الأمن الأسري: ما رواه البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «...والرجل راعٍ على أهله وهو مسؤول، والمرأة راعية على بيت زوجها وهي مسؤولة».
وتوجد معوقات كثيرة في سبيل تحقق الأمن الأسري؛ فالانشغال الدائم بالهواتف المحمولة، وقضاء الوقت في الأمور الفارغة، وعدم التحدث والكلام بين أفراد الأسرة، وضياع الدفء الأسري، وغياب السكينة الأسرية، كل ذلك يساعد في ضياع الأسرة، ويسهم في تفرق أبنائها، مما يجعلهم عرضة للدعوات الهدَّامة؛ التي تدعو إلى الأسر البديلة، والشذوذ الجنسي، وزواج المحارم، وزواج المساكنة، فضلًا عن التحلل الأخلاقي، والانحراف الديني.
من هنا؛ ينبغي أن يعود للأسرة دورها التربوي، ومنهجها الأخلاقي، وسلوكها التحصيني؛ حتى تقوم بوصية الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6]، وتفوز ببشرى رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم؛ ففي الحديث الذي رواه البخاري في الأدب المفرد، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يكون لأحدٍ ثلاث بنات، أو ثلاث أخوات، فيُحسِن إليهن، إلا دخل الجنة».
4- الأمن السيبراني واجب:
اصطلح في هذه الأيام على تأمين المخاطر الناتجة عن استخدام التكنولوجيا الحديثة، مصطلح الأمن السيبراني؛ كيف يحمي الإنسان نفسه من المخاطر المستحدثة، الناتجة عن التقدم في وسائل الاتصال الحديثة؟
ومن أهم المخاطر الناتجة عنها: انتهاك الخصوصية عن طريق عمليات التزييف العميق باستخدام الذكاء الاصطناعي، ونقل الأخبار بدون التحقق منها، والاستخدام السيئ والمفرط المضيع للأوقات والأعمار، وغيرها، مما يجعلنا نؤكد على مجموعة من الوصايا الحاكمة، والتذكير بالثوابت الدينية المحصنة؛ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6].
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النور: 19].
وفي الحديث الذي رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كل أُمتي معافًى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملًا، ثم يصبح وقد ستره الله، فيقول: يا فلان، عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عنه».
وفي الحديث الذي رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعمتان مغبونٌ فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ».
[1] انظر: الصابوني، صفوة التفاسير، (2/ 98).
[2] المرجع السابق، (2/ 122).
[3] المرجع السابق، (2/ 440).
[4] المرجع السابق، (2/ 440).
[5] الصابوني، مختصر تفسير ابن كثير، (3/ 680).
[6] السابق، (3/ 680).
[7] انظر: السابق، (1/ 595).
[8] السابق، (3/ 51).
[9] السابق، (1/ 164).
_________________________________________________________
الكاتب: د. حسام العيسوي سنيد
- التصنيف: