الإنابة لله عز وجل

منذ 2025-03-06

الإنابة هي: الرجوع إلى الله، وانصراف دواعي القلب وجواذبه إليه. وهي تتضمن: المحبة والخشية، فإن المنيب مُحب لمن أناب إليه، خاضع له خاشع ذليل"

اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، لك الحمد وأنت للحمد أهل، وأنت الحقيق بالنعمة والفضل، والصلاة والسلام على خير البرية، وأزكى البشرية، محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

 

فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله تعالى في السر والعلن، فهي خير زاد للمعاد، ولقاء الملك العلَّام، القائل: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى}  [البقرة: 197].

 

أيها المسلمون، مما نقرأه ونسمعه من آيات الله تعالى في كتابه العزيز (الإنابة)، وأنها صفة محمودة، وصف الله تعالى بها عددًا من أنبيائه عليهم السلام، والصالحين من عباده، فما هي الإنابة؟

 

عَرَف الإمام ابن القيم رحمه الله الإنابة بقوله: "الإنابة هي: الرجوع إلى الله، وانصراف دواعي القلب وجواذبه إليه. وهي تتضمن: المحبة والخشية، فإن المنيب مُحب لمن أناب إليه، خاضع له خاشع ذليل"، ثم بيَّن درجات الناس في إنابتهم لله تعالى فقال: "منهم المنيب إلى الله بالرجوع إليه من المخالفات والمعاصي، والحامل عليها: العلم والخشية والحذر، ومنهم المنيب إليه بالدخول في أنواع العبادات والقربات وقد حُبِّب إليه فعلها، فهو ساعٍ فيها بجهده، والحامل عليها: الرجاء ومطالعة الوعد والثواب، ومحبة الكرامة من الله، وهؤلاء أبسط نفوسًا من أهل القسم الأول، وأشرح صدورًا، وكلا القسمين مُنيب بالأمرين جميعًا، فخوف هؤلاء اندرج في رجائهم، فأنابوا بالعبادات، ورجاء الأولين اندرج تحت خوفهم، فكانت إنابتهم بترك المخالفات، ومن الناس مُنيب إلى الله بالتضرُّع والدعاء والافتقار إليه، والرغبة وسؤاله الحاجات كلها، والحامل عليها: شهود الفضل والغنى والكرم والقدرة لله تعالى، فأنزلوا به حوائجهم، وعلقوا به آمالهم، فإنابتهم إليه من هذه الجهة، مع قيامهم بالأمر والنهي، ومنهم المنيب إلى الله عند الشدائد والضراء إنابة اضطرار، لا إنابة اختيار كحال الذين قال الله فيهم: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت: 65].

 

فأعلى أنواع الإنابات إنابة الروح بجُملتها إليه سبحانه لشدَّة المحبة الخالصة، والأعضاء كلها تبع للروح، فلما أنابت الروح بذاتها إليه، أنابت جميع القوى والجوارح، وأنابت النفس بالانقياد والانخلاع عن الأخلاق الذميمة والإرادات الفاسدة، وانقادت للأمر راغبةً فيه مؤثرة إياه على غيره، وأناب الجسد بالأعمال الصالحة فرضها وسننها على أكمل الوجوه، فلم يبق من هذا العبد المنيب عِرق ولا مفصل إلا وله إنابة ورجوع إلى الحبيب الحق".

 

أيها المؤمنون، لقد اتَّصَف أنبياء الله تعالى ورسله عليهم السلام بأعلى درجات الإنابة مستجيبين لأمر الله تعالى القائل: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ} [الزمر: 54]، والقائل سبحانه عن صفة عباده الخُلَّص: {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ} [غافر: 13]، والقائل جل وعلا: {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} [ق: 8]، والقائل في صفات أهل الجنة: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ} [ق: 31 - 34]، وأخبر سبحانه أن البُشْرى إنما تكون لأهل الإنابة، فقال: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى} [الزمر: 17].

 

ومما ورد في اتصاف رُسُل الله تعالى عليهم السلام بالإنابة، قوله تعالى عن خليله إبراهيم عليه السلام: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} [هود: 75]، وقال عن نبيِّه داود عليه السلام: ﴿ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ ﴾ [ص: 24]، وقال عن نبيِّه سليمان عليه السلام: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ} [ص: 34]، وذكر الله تعالى قول نبيه شعيب عليه السلام: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88]، وقول نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [الشورى: 10]، وذكر الله عز وجل عن عباده الصالحين قولهم: {رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [الممتحنة: 4]، وكان من دعاء النبي صلى اللهُ عليه وسلم أن يرزقه الله الإنابة، روى أبو داود في سننه وأحمد في مسنده مِن حَدِيثِ ابنِ عَبَّاسٍ رضي اللهُ عنهما: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم كَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: "رَبِّ، أَعِنِّي وَلَا تُعِنْ عَلَيَّ، وَانْصُرْنِي وَلَا تَنْصُرْ عَلَيَّ، وَامْكُرْ لِي وَلَا تَمْكُرْ عَلَيَّ، وَاهْدِنِي، وَيَسِّرِ الْهُدَى إِلَيَّ، وَانْصُرْنِي عَلَى مَنْ بَغَى عَلَيَّ، اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي لَكَ شَكَّارًا، لَكَ ذَكَّارًا، لَكَ رَهَّابًا، لَكَ مِطْوَاعًا، إِلَيْكَ مُخْبِتًا أَوَّاهًا مُنِيبًا، رَبِّ تَقَبَّلْ تَوْبَتِي، وَاغْسِلْ حَوْبَتِي، وَأَجِبْ دَعْوَتِي، وَثَبِّتْ حُجَّتِي، وَاهْدِ قَلْبِي، وَسَدِّدْ لِسَانِي، وَاسْلُلْ سَخِيمَةَ قَلْبيِ".

 

وقد ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله أن الناس في الإنابة قسمان، فقال: "الإنابة إنابتان: إنابة لله بمقتضى الربوبية، وهي إنابة المخلوقات كلها، فيشترك فيها المؤمن والكافر، والبر والفاجر، كما قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} [الروم: 33]، فهذا عام في حق كل داعٍ أصابه ضُرٌّ، وهذه الإنابة لا تستلزم الإسلام، فقد يكون المنيب عند الشدة كافرًا. والإنابة الثانية: إنابة أوليائه، إنابة عبودية ومحبة، وهي تتضمن أربعة أمور: محبته سبحانه، والخضوع له، والإقبال عليه، والإعراض عما سواه، فلا يستحق وصف المنيب إلا من اجتمعت فيه هذه الأربع، فالمنيب إلى الله الإنابة الخاصة هو المسرع إلى مرضاته، الراجع إليه كل وقت، المتقدم إلى محابه"، ثم ذكر- رحمه الله- علامات الإنابة، فقال: "ومن علامات الإنابة: ترك الاستهانة بأهل الغفلة والخوف عليهم، مع فتح باب الرجاء لنفسك، فترجو لنفسك الرحمة، وتخشى على أهل الغفلة النقمة، ولكن ارجُ لهم الرحمة، واخشَ على نفسك النقمة، قال بعض السلف: لن تفقه كل الفقه حتى تمقت الناس في ذات الله، ثم ترجع إلى نفسك فتكون لها أشد مقتًا".

 

أيها الفضلاء، إذا تبين أن الإنابة منها ما هو عام يقع من الخلق جميعهم برهم وفاجرهم، وإنابة خاصة تتنوَّع، يختلف أهلها فيها بين مُنيب إلى الله تعالى بشدة المحبة له سبحانه، والتحلي بالأخلاق الفاضلة، وآخر مُنيب بالتوبة عند وقوع معصيةٍ منه يحمله عليها العلم بعظمة الله وخشيته، والخوف من عقابه، وآخر مُنيب إلى الله تعالى بأداء العبادات والقُرُبات حامله عليها استحضار ثواب الله جل وعلا وكرمه وعطائه، وآخر مُنيب إلى الله سبحانه بالتضرُّع والدعاء والافتقار إليه حامله عليها استحضاره لقدرة الله تعالى وغناه وفضله، ثم جاهد نفسه وسعى لأن يتصف بالإنابة في جميع أموره من امتلاء القلب محبةً لله عز وجل، وملازمةً للتوبة عند الذنب، والرجوع إلى الله تعالى واستغفاره، والمسارعة للخيرات وأداء الطاعات والقُرُبات، والإنابة بكثرة التضرع والدعاء والافتقار إلى الله تعالى، فمن كان متصفًا بذلك كله فقد حاز خيرًا عظيمًا وفضلًا كبيرًا، وهذا عمل الموفقين من عباد الله تعالى، ومن عجز عن شيء من صفات الإنابة ودرجاتها فلا يزهد أو يُقصر فيما يقدر عليها منها، وليجاهد نفسه حق المجاهدة، فإن بلوغها شرف وأي شرف، نسأل الله تعالى أن يجعلنا من عباده المنيبين.

 

اللهم اجعلنا من عبادك المنيبين، ووفقنا لهداك، واجعل أعمالنا وأقوالنا في رضاك، أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه وتوبوا إليه، إن ربي غفور رحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله حق حمده، والشكر له حق شكره، والصلاة والسلام على رسوله وعبده محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

 

عباد الله، صلوا وسلموا على من أمرنا المولى بالصلاة والسلام عليه، فقال عز من قائل عليمًا: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56]، اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين، والأئمة المهديين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن سائر الصَّحْب والآل، ومَنْ تَبِعَهم بإحسان إلى يوم التناد، وعَنَّا معهم بمَنِّك وكرمك يا أكرم الأكرمين.

________________________________________________
الكاتب: عبدالعزيز أبو يوسف

  • 0
  • 1
  • 119

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً