مسائل في فقه الصلاة على النبي ﷺ
لنبينا صلى الله عليه وسلم علينا حقوق كثيرة؛ منها: الإكثار من الصلاة والسلام عليه في جميع الأوقات، فهي من القُربات العظيمة، والطاعات الجليلة التي ندب الشرع إليها، وفي السطور التالية بعض المسائل التي يحتاج إليها المسلم في هذا الموضوع.
.jpg)
لنبينا صلى الله عليه وسلم علينا حقوق كثيرة؛ منها: الإكثار من الصلاة والسلام عليه في جميع الأوقات، فهي من القُربات العظيمة، والطاعات الجليلة التي ندب الشرع إليها، وفي السطور التالية بعض المسائل التي يحتاج إليها المسلم في هذا الموضوع.
المسألة الأولى: من فضائل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم:
للصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فضائلُ وفوائدُ؛ منها:
امتثال أمر الله؛ لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].
تدل الآية الكريمة على علو منزلة النبي صلى الله عليه وسلم عند الله وملائكته؛ قال القرطبي: "هذه الآية شرَّف الله بها رسوله عليه السلام في حياته وبعد موته، وذكر منزلته منه، وقد أمر الله تعالى عباده بالصلاة على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم دون أنبيائه؛ تشريفًا له، وقال سهل بن عبدالله: الصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم أفضل العبادات؛ لأن الله تعالى تولاها هو وملائكته، ثم أمر بها المؤمنين، وسائر العبادات ليس كذلك"[1].
حقٌّ من حقوق الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأن الله أنقذك به من الضلالة، ودلَّك إلى الرشد عن طريقه عليه الصلاة والسلام، فلا طريق يوصل إلى رضوان الله تعالى وجنته إلا طريقَ محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والإنسان لو دلَّه شخص على طريق بلد من البلاد التي يقصدها، لَرأى له معروفًا عليه، فكيف بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي دلَّك على الطريق الموصِّل إلى الجنة؟ فمن حقه عليك أن تُصليَ عليه[2].
المسألة الثانية: معنى الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم:
أحسن ما قيل في ذلك أن معنى قولك: "اللهم صلِّ على محمد": اللهم أثْنِ عليه في الملأ الأعلى؛ أي: اذكره بالصفات الحميدة،وبصفات الكمال عند الملائكة؛ حتى تزداد محبتهم له، ويزداد ثوابهم بذلك، وهذا مِن رفْعِ الذكر له صلى الله عليه وسلم؛ الذي أخبر الله به في قوله: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح: 4][3].
قال الشوكاني: "إن معنى قولنا: (اللهم صلِّ على محمد): أي: عظِّمه في الدنيا بإعلاء ذكره، وإظهار دعوته، وإبقاء شرعيته، وفي الآخرة تشفيعه في أمته، وتضعيف أجره ومثوبته"[4].
والسلام على النبي: أي: ادعوا الله أن يسلمه تسليمًا تامًّا، يُسلمه في حياته؛ يسلمه من الآفات الجسدية، والآفات المعنوية، وبعد موته من الآفات المعنوية، بمعنى أن تسلَم شريعته من أن يقضي عليها قاضٍ، أو ينسخها ناسخ، أو يطمسها أحد، أو أن يعدو عليها أحد، وكذلك الجسد؛ لأنه ربما يعتدي عليه بعد موته في قبره[5].
المسألة الثالثة: صفة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم:
وأما صفة الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، فقد وردت فيها صفات كثيرة بأحاديثَ ثابتة في الصحيحين وغيرهما؛ منها ما هو مقيَّد بصفة الصلاة عليه بعد التشهد في الصلاة، ومنها ما هو مطلق.
والذي يحصل به الامتثال لمطلق الأمر في آية الأحزاب المذكورة في أول المقال، هو أن يقول القائل: اللهم صلِّ وسلم على رسولك، أو على محمد، أو على النبي، أو اللهم صلِّ على محمد وسلم، أو نحو ذلك مما يؤدي معناه، ومن أراد أن يصلي عليه، ويسلم عليه بصفة من الصفات، التي ورد التعليم بها، والإرشاد إليها، فذلك أكمل[6].
وأفضل الصيغ وأُولَاها هي ما علَّمه النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه، وهي التي يسمِّيها الفقهاء الصلاةَ الإبراهيمية، فالأفضل المحافظة عليها في التشهد الأخير من الصلاة، أما خارج الصلاة فهذه الصيغة لا تُستطاع في كل مجلس، وكلما ذُكر الرسول، والذي درج عليه السلف وعلماء الأمة في جميع مؤلفاتهم، هو قول: اللهم صلِّ على محمد، أو: صلى الله عليه وسلم.
المسألة الرابعة: كتابة الصلاة والتسليم على النبي صلى الله عليه وسلم عند ذكره:
أجاز بعض العلماء عدم ذكر الصلاة عليه كتابة والاكتفاء بذلك لفظًا، ومنع ذلك بعضهم، وقد ناقش الإمام الشوكاني هذه المسألة، ورجَّح جواز ذكره دون كتابة الصلاة عليه، كما رجح جواز الإشارة إلى الصلاة عليه بالرمز الذي يفيد ذلك؛ فقال: "وليس في كتاب الله جل جلاله ما يدل على التكليف بذلك، ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قولًا ولا فعلًا ولا تقريرًا.
أما عدم القول، فلعدم وجدانه بعد البحث، وأما عدم الفعل، فظاهرٌ؛ لأنه صلى الله عليه وآله وسلم كان أميًّا لا يكتب، وأما تقريره صلى الله عليه وآله وسلم، فلم يُنقَل إلينا أن أحدًا من الصحابة كتب الصلاة عليه عند ذكره، واطلع على ذلك وقرره، بل ربما كان الأمر بالعكس؛ فإن اسمه صلى الله عليه وآله وسلم كان يُكتب في المكاتبات والمهادنات والإقطاعات، ولم يُنقل أن أحدًا من الكُتَّاب كتب فيها بعد اسمه الصلاة عليه، وقد اطلع صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك الترك وقرره، ولم ينكره، فكان دليلًا على عدم التعبد بذلك.
إذا تقرر هذا تبين عدم التعبد بكتب الصلاة عليه صلى الله عليه وآله وسلم عند ذكره، لا وجوبًا ولا ندبًا؛ لأنه حكم شرعي لا يثبت إلا بدليل، ولا دليل.
ولو سلَّمنا أن الكتابة أولى؛ لأنها توقظ القارئ الذي قد يغفُل عن التلفظ بهذه السُّنة، فإن هذا الغرض يحصل برسم النقش الكتابي الذي له إشعار بالصلاة على أي صفة كان؛ لأن النقوش الكتابية بأسرها أمور اصطلاحية، فأي صورة منها جرى عليها الاصطلاح، وحصل بها التفهيم جاز الاكتفاء بها"[7].
المسألة الخامسة: هل يُشرع تكرار الصلاة عليه عند ذكره؟
ذهب جماعة من أهل العلم إلى وجوب الصلاة عليه كلما ذُكر، في حين ذهب فريق من أهل العلم إلى عدم الوجوب، فلا يأثم المسلم لو ترك الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند سماع أو قراءة اسمه الشريف، وأجابوا على من قال بالوجوب بأجوبة، أشار إليها الحافظ ابن حجر في قوله: "إنه قول لا يُعرف عن أحد من الصحابة والتابعين، فهو قول مخترع، ولو كان ذلك على عمومه، للزم المؤذن إذا أذَّن وكذا سامعه، ولزم القارئ إذا مر ذكره في القرآن، وللزم الداخل في الإسلام إذا تلفَّظ بالشهادتين، ولكان في ذلك من المشقة والحرج ما جاءت الشريعة السَّمحة بخلافه، ولكان الثناء على الله كلما ذُكر أحق بالوجوب ولم يقولوا به.
إن القول بوجوب الصلاة عليه كلما ذُكر مخالف للإجماع المنعقد قبل قائله؛ لأنه لا يُحفَظ عن أحد من الصحابة أنه خاطب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله صلى الله عليك، ولأنه لو كان كذلك لم يتفرغ السامع لعبادة أخرى.
وأجابوا عن الأحاديث بأنها خرجت مخرج المبالغة في تأكيد ذلك وطلبه، وفي حق من اعتاد ترك الصلاة عليه ديدنًا.
وفي الجملة لا دلالة على وجوب تكرار الصلاة عليه بتكرار ذكره صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد"[8].
كما أن تكرار الصلاة قد يشوِّش على غيره، أو يمنعه من الإنصات، أو يشغله عن متابعة الخطيب أو المعلم، أشار إلى ذلك الحافظ ابن حجر فيما نقلته عنه قبل قليل بقوله: "ولأنه لو كان كذلك لم يتفرغ السامع لعبادة أخرى"، وإلى مثل هذا ذهب الإمام الشوكاني، في قوله: "ليس على من حضر سماع الحديث الذي تكرر فيه الصلاة عليه صلى الله عليه وآله وسلم - أن يكررها عند كل لفظ يُذكر فيه لفظ الصلاة، فإن ذلك قد يشغل عن تدبر معاني الحديث وفهمها كما ينبغي، وهكذا سامع خطبة الجمعة، فإنه لا يتابع الخطيب إذا صلى على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ لحديث: «من قال لصاحبه أنصت والإمام يخطب، فقد لغا، ومن لغا فلا جمعة له»، والأمر بالإنصات هو طاعة، فبيَّن الشارع أن من فعل ذلك فلا جمعة له، وكان لغوًا من هذه الحيثية غير جائز"[9].
المسألة السادسة: هل يشترط الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم قبل الدعاء أو بعده؟
بوَّب الإمام النووي في كتابه النافع (الأذكار): باب استفتاح الدعاء بالحمد لله تعالى والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: "أجمع العلماء على استحباب ابتداء الدعاء بالحمد لله تعالى والثناء عليه، ثم الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك تختم الدعاء بهما، والآثار في هذا الباب كثيرة معروفة"[10].
قال أهل العلم: إنما شُرعت الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم في الدعاء؛ لأنه علمنا الدعاء بأركانه وآدابه، فيقتضي بعض حقه عند الدعاء اعترافًا بالنعمة[11].
وفي تفسير القرطبي عن أبي سليمان الداراني، قال: "من أراد أن يسأل الله حاجة، فليبدأ بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يسأل الله حاجته، ثم يختم بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن الله تعالى يقبل الصلاتين، وهو أكرم من أن يرُد ما بينهما"[12].
ومعلوم أنه لا يجب ولا يشترط لقبول الدعاء البَداءة بالحمد والثناء على الله، ولا الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فلو دعا ولم يصلِّ على النبي يُرجى قبول دعائه، فالنبي قد دعا بعدة دعوات كما في دعاء الاستسقاء مثلًا، ولم يصلِّ فيها على نفسه، والصحابة دعَوا بعدة دعوات، ولم يصلوا فيها على النبي صلى الله عليه وسلم.
[1] تفسير القرطبي (14/ 232).
[2] فتاوى نور على الدرب لابن عثيمين (24/ 2).
[3] شرح رياض الصالحين لابن عثيمين (5/ 466).
[4] الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني (12/ 5867).
[5] شرح رياض الصالحين لابن عثيمين (5/ 469).
[6] فتح القدير للشوكاني (4/ 346).
[7] الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني (8/ 4040).
[8] فتح الباري (11/ 168).
[9] الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني (12/ 5843).
[10] الأذكار للنووي (ص: 117).
[11] الفتوحات الربانية على الأذكار النواوية (3/ 335).
[12] تفسير القرطبي (14/ 235).
- التصنيف: