كلمات عن التواضع
التواضع ليس مظهرًا من السكينة والخنوع وإنما هو سلوك نفسي، يظهر أثره من خلال تصرف الإنسان مع نفسه ومع الآخرين.
التواضع علو بالروح، وضعة بالنفس.
فهو علو بالروح لأنه تعامل مع المعاني السامية وارتفاع عن عالم المادة، ونفاذ إلى حقائق الأمور حيث توضع الأشياء مواضعها.
وهو ضعة بالنفس الأمارة، وإعادة لها إلى حيث ينبغي أن تكون.
فالتواضع ألاَّ ترى لنفسك فضلًا على الآخرين، فهو في مقابل: الكبر.
والتواضع تنزل بالنفس من غير ابتذال لها ولا تهاون بقدرها.
وأخيرًا: فالتواضع ليس مظهرًا من السكينة والخنوع وإنما هو سلوك نفسي، يظهر أثره من خلال تصرف الإنسان مع نفسه ومع الآخرين.
مشاهد من تواضعه صلى الله عليه وسلم:
قال تعالى: { ﴿ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾} [1].
وقال تعالى في وصف الذين يحبهم ويحبونه: {﴿ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾} [2].
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك. وهذه مشاهد من الحياة اليومية، تبين كيف كان تعامله صلى الله عليه وسلم مع الناس.
لم يكن صلى الله عليه وسلم متميزًا على أصحابه، فكان داخِلُ المسجدِ لا يعرفه، حتى يسأل فيقول: أيكم محمد[3]؟
وعن عبدالله بن عمرو قال: دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فألقيت له وسادة من أدم حشوها ليف، فجلس على الأرض، وصارت الوسادة بيني وبينه[4]..
وعن أبي سعيد الخدري، أنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجده يصلي على حصير يسجد عليه[5].
وعن أنس رضي الله عنه: أن امرأة كان في عقلها شيء، فقالت: يا رسول الله، إن لي إليك حاجة، فقال: «"يا أم فلان، انظري أي السكك شئت، حتى أقضي لك حاجتك" فخلا معها في بعض الطرق حتى فرغت من حاجتها» [6].
وأخرج البخاري عن عائشة رضي الله عنها، أنها سئلت: «ما كان النبي صلى الله عليه وسلم في بيته؟ قالت: كان يكون في مهنة أهله، تعني خدمة أهله» [7].
وجاءت الروايات الأخرى توضح رواية البخاري، منها: كان يخصف نعله، ويخيط ثوبه. وفي أخرى: ويرقع ثوبه، وفي ثالثة: يفلي ثوبه، ويحلب شاته[8].
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: «حج النبي صلى الله عليه وسلم على رحل رث[9]، وقطيفة تساوي أربعة دراهم أو لا تساوي، ثم قال: "اللهم، حجة لا رياء فيها ولا سمعة"» [10].
وأخرج البخاري عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حج على رحل وكانت زاملته[11].
وعنه قال: ما رأيت رجلًا التقم أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فينحي رأسه حتى يكون الرجل هو الذي ينحي رأسه، وما رأيت رجلًا أخذ بيده فترك يده، حتى يكون الرجل هو الذي يدع يده[12].
وعن أبي مسعود قال: أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم رجل، فكلمه، فجعل ترعد فرائصه، فقال: « "هوِّن عليك، فإني لست بملك، إنما أنا ابن امرأة تأكل القديد"» [13].
ولو ذهبنا نذكر كل ما يدل على تواضعه لطال بنا المقام، إذ كل سلوك له صلى الله عليه وسلم كان مظهرًا من تواضعه.
ولعل المشهد الذي ينبغي ألاَّ يغفل ونحن نتحدث عن التواضع: هو دخوله صلى الله عليه وسلم مكة فاتحًا.
خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة يوم هاجر خائفًا، مطاردًا.. كانت قريش حريصة على قتله لو استطاعت، وكانت معارك بعد ذلك، كان همّ قريش فيها القضاء عليه لو أمكنها ذلك.
وها هو اليوم يعود فاتحًا منتصرًا، ومن حقه أن يرفع رأسه عاليًا، فيدخلها بكل الشموخ والكبرياء والتعالي.. ولو فعل لما لامه أحد.
ولكنه صلى الله عليه وسلم دخل متواضعًا متخشعًا، حتى إن عثنونه ليكاد يمسّ واسطة الرحل[14]. مكبرًا الله تعالى على ما أكرمه به من النصر المبين.
أقواله صلى الله عليه وسلم في التواضع:
ومما يتمم لنا صورة تواضع النبي صلى الله عليه وسلم أقواله الواردة في الموضوع:
" «إن الله أوحي إليَّ أن تواضعوا، حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد» "[15].
".. «وما تواضع أحد لله إلا رفعه» "[16].
" «إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي» "[17].
وعن ابن عباس، أنه سمع عمر رضي الله عنه يقول على المنبر: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «"لا تطروني، كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبده، فقولوا: عبدالله ورسوله"» [18].
وقد التزم الصحابة الكرام بما أمروا: قولًا وعملًا، فعن أنس بن مالك قال: «"لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وكانوا إذا رأوه لم يقوموا، لما يعلمون من كراهيته لذلك"» [19].
[1] سورة الشعراء، الآية (215).
[2] سورة المائدة، الآية (54).
[3] أخرجه البخاري برقم (63).
[4] متفق عليه (خ 1980، م 1159).
[5] أخرجه مسلم برقم (661).
[6] أخرجه مسلم برقم (2326).
[7] أخرجه البخاري برقم (676).
[8] أخرج البغوي هذه الروايات في الأنوار برقم (388، 390)، وأخرج البخاري في الأدب المفرد: الثانية والثالثة، وأخرج الترمذي في الشمائل: الثالثة.
[9] رث: أي عتيق بالٍ.
[10] أخرجه ابن ماجه برقم (2890) والترمذي في الشمائل (327، 333) والبغوي في الأنوار (402).
[11] أخرجه البخاري برقم (1517)، والزاملة: البعير الذي يحمل عليه الطعام، أي كان له بعير واحد، هو الراحلة والزملة.
[12] أخرجه أبو داود برقم (4794) والبغوي في الأنوار برقم (381).
[13] أخرجه ابن ماجه برقم (3312) والبغوي في الأنوار برقم (413).
[14] سيرة ابن هشام (2/ 405).
[15] أخرجه مسلم وأبو داود وابن ماجه عن عياش المجاشعي (م 2865، د 4895، جه 4179) وابن ماجه عن أنس (جه 4214).
[16] أخرجه مسلم برقم (2588).
[17] أخرجه مسلم برقم (2965) والغني: المراد بالغنى: غنى النفس والله أعلم.
[18] أخرجه البخاري برقم (3445).
[19] أخرجه الترمذي برقم (2754) والبغوي في الأنوار برقم (392).
- التصنيف:
- المصدر: