سنة التدافع بين الحق والباطل
يجب على المسلم أن يقف موقفًا صحيحًا وصارمًا في هذا التدافع بين الحق والباطل "عليك بطريق الهدى، ولا يضرنك قلة السالكين، وإياك وطرق الضلالة، ولا يغرنك كثرة الهالكين".
التدافع بين الحق والباطل سنة جارية وفق مقادير ربانية محكمة، قال ربنا الحكيم سبحانه: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 251]، وقال: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40].
وإنه لمن المهم جدًّا أن يعرف المسلم ملابسات هذا التدافع؛ ليكون على بينة من أمره، وليتخذ فيه لنفسه موقفًا صحيحًا موافقًا لمراد الله تعالى.
أولًا: توجيهات من الكتاب والسنة لفهم ملابسات التدافع بين الحق والباطل:
(أ) الباطل أكثر أتباعًا:
فإننا إذا نظرنا مثلًا في تاريخ الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام؛ نجد مخالفيهم ومحاربيهم من أهل الكفر والشرك أكثر الناس عددًا، أما أتباعهم والمؤمنون بما جاءوا به من الحق المبين فقِلَّة قليلة.
فهذا نبي الله نوح عليه السلام لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا يدعوهم إلى الحق؛ فما آمن به إلا قليل، قال الله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود: 40]، قال ابن كثير: "أي: نزر يسير مع طول المدة والمقام بين أظهرهم ألف سنة إلا خمسين عامًا، فعن ابن عباس: كانوا ثمانين نفسًا منهم نساؤهم. وعن كعب الأحبار: كانوا اثنين وسبعين نفسًا، وقيل:كانوا عشرة، وقيل: إنما كانوا نوح وبنوه الثلاثة سام وحام ويافث، وكنائنه الأربعة؛ نساء هؤلاء الثلاثة، وامرأة يام... "[1].
وهكذا الشأن في كل زمان ومكان؛ يكثر أتباع الباطل، ويقل أهل الحق، يكثر أهل البدع والمحدثات، ويقل أهل السنة، يكثر أهل المجون والفسوق كما يُرى في مهرجانات الغناء والرقص، حيث يتزاحمون بالمناكب والأقدام، ويظلون ساعات طوالًا يتمايلون ويصرخون، في حين لا يُرى في حلقات العلم والذكر في بيوت الله إلا قلة قليلة من المؤمنين!
وقد أنبأنا الله عز وجل ورسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم بهذا، فإن ربنا الحكيم سبحانه لما ذكر أهل الباطل وصفهم بالكثرة، فقال: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام: 116]، وقال: {إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ} [هود: 17]، وقال: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103]، وقال: {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا} [الإسراء: 89]، وقال: {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ} [البقرة: 243]، وقال: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ} [النحل: 83]. ولما ذكر سبحانه أهل الحق وصفهم بالقلة، فقال: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص: 24]، وقال: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13]. وفي الحديث أن نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم قال: « «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة» "[2].
(ب) الحرب بين أهل الحق وأهل الباطل سجال:
فإن الله عز وجل يداول الأيام بين أهل الحق وأهل الباطل، فيغلب أهل الحق حينًا، ويُغلبون حينًا آخر، ومن حكمته في ذلك: تمحيص المؤمنين، وفضح المنافقين، وتمييز الطيب من الخبيث، كما قال الله تعالى: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ* وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 139، 141]، قال الشيخ السعدي رحمه الله: "ومن الحِكم في ذلك أن هذه الدار يعطي الله منها المؤمن والكافر، والبر والفاجر، فيداول الله الأيام بين الناس، يومًا لهذه الطائفة ويومًا للطائفة الأخرى؛ لأن هذه الدار الدنيا منقضية فانية، وهذا بخلاف الدار الآخرة فإنها خالصة للذين آمنوا، ومن الحكم أيضًا: أنه يبتلي الله عباده بالهزيمة والابتلاء؛ ليتبين المؤمن من المنافق؛ لأنه لو استمر النصر للمؤمنين في جميع الوقائع لدخل في الإسلام من لا يريده، فإذا حصل في بعض الوقائع بعض أنواع الابتلاء؛ تبين المؤمن حقيقة الذي يرغب في الإسلام، في الضراء والسراء، واليسر والعسر، ممن ليس كذلك.
ومن الحكم أيضًا: اصطفاء الشهداء؛ لأن الشهادة عند الله من أرفع المنازل، ولا سبيل لنيلها إلا بما حصل من وجود أسبابها، فهذا من رحمته بعباده المؤمنين أن قيَّض لهم من الأسباب ما تكرهه نفوسهم؛ لينيلهم ما يحبون من المنازل العالية والنعيم المقيم"[3].
(ج) العاقبة للحق وأهله:
فإن الباطل مهما بدا قويًّا، ومهما حصل له من الغلبة أحيانًا؛ فإنه ضعيف في حقيقته وذاته، وغلبته مؤقتة، وعاقبته الهزيمة والخسران والاندثار، أما الحق فهو قوي في ذاته وحقيقته، وأهله وإن بدا منهم ضعف، فإن الله الغالب سبحانه يخرجهم من حال الضعف إلى حال القوة وينصرهم، ويجعل الغلبة والعاقبة لهم.
وهذا وعد منه سبحانه وسنة قضى بها، ولن تجد لسنته تبديلًا ولا تحويلًا، قال جل وعلا: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [غافر: 51]، وقال: {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات: 173]، وقال: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة: 21]، وقال: {لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} [الأنفال: 8]، وقال: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81]، وقال: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء: 18]، وقال: {قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} [سبأ: 49]، وقال: {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} [الشورى: 24].
ثانيًا: موقف المسلم إزاء سنة التدافع بين الحق والباطل:
يجب على المسلم أن يقف موقفًا صحيحًا وصارمًا في هذا التدافع بين الحق والباطل؛ وذلك بأن يحقق الأمور الآتية:
(أ) أن يعرف الحق ويتبعه، ويثبت عليه، ويكون معه حيثما كان، ويواليه وينصره ويرفع رايته.
(ب) أن يعرف الباطل، ويجتنب سُبُله، ويتبرأ منه ومن أهله، ولا يمده بأي سبب يتقوَّى به.
(ج) ألَّا يقف موقفًا متذبذبًا بين الحق والباطل؛ فإن ذلك من خصال المنافقين الذين قال فيهم الله عز وجل: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} [النساء: 143]؛ بل إذا عرف الحق فليلزمه وليثبت عليه.
(د) ألَّا يغتر بكثرة أتباع الباطل؛ فإن كثرتهم لن تنفعه ولن تغني عنه شيئًا، ويوم القيامة سيتبرأ أهل الباطل بعضهم من بعض، ويلوم بعضهم بعضًا، ويلعن بعضهم بعضًا، قال الله عز وجل: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ * إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة: 165 - 167]، وقال: {وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [العنكبوت: 25].
(هـ) أن يلزم الحق، ولو كان كل الناس على الباطل؛ فإن كثرة أهل الباطل لا تُصير باطلهم حقًّا، وكما قال بعض السلف: "عليك بطريق الهدى، ولا يضرنك قلة السالكين، وإياك وطرق الضلالة، ولا يغرنك كثرة الهالكين".
(و) ألَّا يقنط ولا ييأس إذا أصاب أهل الحق نكبة، أو علا صوت أهل الباطل حينًا؛ فإن العاقبة للحق وأهله.
والله المستعان، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
[1] تفسير القرآن العظيم، الإمام ابن كثير، جـ 4، ص: 189، مكتبة الصفا- القاهرة، ط 1 (1425هـ/ 2004م).
[2] سنن الترمذي، رقم الحديث: 2640، وقال: حديث حسن صحيح.
[3] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي ،جـ 1، ص: 229. بتصرف يسير. تح: محمد سيد عبد رب الرسول. دار أبو بكر الصديق، ط 1 (1428هـ/ 2008م).
________________________________________________
الكاتب: عبدالقادر دغوتي
- التصنيف: