كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين
إن الأرض تعجُّ بالصراع بين الحق والباطل منذ هبوط آدم إلى الأرض وحتى قيام الساعة. إنها سنة الله في الخلق؛ ابتلاءات متتالية للإنسان حتى يلقى ربه؛ قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}.
قال تعالى: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249]
إن الأرض تعجُّ بالصراع بين الحق والباطل منذ هبوط آدم إلى الأرض وحتى قيام الساعة. إنها سنة الله في الخلق؛ ابتلاءات متتالية للإنسان حتى يلقى ربه؛ قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف: 7].
إن الحياة على الأرض، هي معركة فرز عملي في واقع هذه الحياة للناس، قال تعالى: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال: 42].
وقد جاء القرآن الكريم ليرشدنا إلى طريق الحق وبيان كيفية السير في هذه الحياة الدنيا، ويقصص علينا القصص للتفكر والتدبر وفهم واقع الحياة. {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف: 176].
فجاءت العبرة في قول الله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [البقرة: 246].
{أَلَمۡ تَرَ} كأنها حادث واقع ومشهد منظور الآن أمام أعيننا، فلا بد للمؤمن أن يتضح في حسه أنه على الحق وأن عدوه على الباطل؛ ولا بد أن يتجرد في حسه الهدف... في سبيل الله... فلا يغشيه الغبش الذي لا يدري معه إلى أين يسير.
لقد اجتمع الملأ من بني إسرائيل، وطلبوا إلي نبيٍّ لهم أن يعين لهم ملكًا يقاتلوا تحت إمرته، في سبيل الله بما يشي بانتفاضة العقيدة في قلوبهم، ويقظة الإيمان في نفوسهم، وشعورهم بأنهم أهل دين وعقيدة وحق، وأن أعداءهم على ضلالة وكفر وباطل؛ ووضوح الطريق أمامهم للجهاد في سبيل الله.
ولكن الأمر عند الله ليس بالتمني، فلا بد من العمل في الواقع لفرز أهل العزم والتقى، فقد أراد نبيهم أن يستوثق من صدق عزيمتهم، وثبات نيتهم، فقال: {هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا} [البقرة: 246]. وهنا ارتفعت درجة الحماسة، فقالوا: {وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا} [البقرة: 246]
وهذا يدل على أن الأمر واضح في حسهم، وفي نفوسهم، ولكن هذه الحماسة في ساعة الرخاء لم تدم، وانكشفت نفوسهم: {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ} [البقرة: 246].
وهذه سمة كل مجموعة لا تنضج تربيتها الإيمانية، فهي متوقعة من الجماعات البشرية التي لم تطهر نفوسها، ثم يتولى بعد ذلك عن الجهاد، إنما هو من الظالمين.
وهكذا بدأ الاختبار والفرز لهؤلاء:
{وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 247].
فبدأ القوم يلوون أعناقهم، ويجادلون في اختيار الله لهم، وهذه من سمات بني إسرائيل المعروفة... ولقد كشف لهم نبيهم عن حكمة الله في اختياره: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 247].
ولكن طبيعة المجادلين في الباطل لا تنتهي، وهذا واقع يعرفه العالم الآن عن بني إسرائيل، فلا بد لهم من خارقة ظاهرة تهز قلوبهم،وتردها إلى الثقة واليقين:
{وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 248]
ثم أعد طالوت جيشه ممن لم يتولوا عن فريضة الجهاد، ولم ينكصوا عن عهدهم مع نبيهم من أول الطريق.
{فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ} [البقرة: 249].
فلا بد إذن من قوة في الإرادة، تضبط الشهوات والنزوات، وتصمد للحرمان والمشاق، وتستعلي على الضرورات والحاجات، وتؤثر الطاعة وتحتمل تكاليفها، فتجتاز الابتلاء بعد الابتلاء.
{فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ}.. وتمت التصفية الثانية بمجرد استسلامهم ونكوصهم؛ لأنهم بذرة ضعف وخذلان وهزيمة.
ودلت هذه التجربة على أن النية الكامنة وحدها لا تكفي؛ ولا بد من التجربة العملية، ومواجهة واقع الطريق إلى المعركة قبل الدخول فيها، ودلت كذلك على صلابة عود القائد المختار الذي لم يهزه تخلف الأكثرية من جنده عند التجربة الأولى.. بل مضى في طريقه.
وهنا كانت التجربة قد غربلت جيش طالوت.. ولكن التجارب لم تكن قد انتهت بعد، فبدأ الفرز الثالث:
{فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ} [البقرة: 249]
لقد صاروا قلة...
إنها التجربة الحاسمة.. تجربة الاعتزاز بقوة أخرى أكبر من قوة الواقع المنظور.. وهذه لا يصمد لها إلا من اكتمل إيمانهم، فاتصلت بالله قلوبهم؛ وأصبحت لهم موازين جديدة يستمدونها من واقع إيمانهم، غير الموازين التي يستمدها الناس من واقع حالهم!
وهنا برزت الفئة المؤمنة.. الفئة القليلة المختارة.. والفئة ذات الموازين الربانية: {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249].
فهذه هي القاعدة في حس الذين يوقنون أنهم ملاقو الله.. قوة الله الغالب على أمره، القاهر فوق عباده.
وهم يكلون هذا النصر لله {بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} فيدلون بهذا كله على أنهم المختارون من الله لمعركة الحق الفاصلة بين الحق والباطل..
وما أحوجنا كمسلمين الآن لهذا كله في حربنا مع قوى الظلم من اليهود وأعوانهم.
{وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ} [البقرة: 250، 251].
وهو تعبير يصور مشهد الصبر فيضًا من الله يفرغه عليهم فيغمرهم، وينسكب عليهم سكينة وطمأنينة واحتمالا للهول والمشقة... وكانت النتيجة هي التي ترقبوها واستيقنوها، {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ}.
وهنا يتضح التصور الكامل لحقيقة ما يجري في هذا الكون، ولطبيعة القوة التي تجريه.. إن المؤمنين ستار القدرة؛ يفعل الله بهم ما يريد، وينفذ بهم ما يختار.. بإذنه.
وهي حقيقة خليقة بأن تملأ قلب المؤمن بالسلام والطمأنينة واليقين.. إنه عبد الله، اختاره الله لدوره، وهذه منة من الله وفضل، وهو يؤدي هذا الدور المختار، ويحقق قدر الله النافذ... ثم يكرمه الله - بعد كرامة الاختيار - بفضل الثواب.. ولولا فضل الله ما فعل، ولولا فضل الله ما أثيب.. ثم إنه مستيقن من نبل الغاية وطهارة القصد ونظافة الطريق، فليس له في شيء من هذا كله هدف شخصي، إنما هو منفذ لمشيئة الله الخيرة قائم بما يريد.. وقد استحق هذا كله بالنية الطيبة والعزم على الطاعة والتوجه إلى الله في إخلاص.
وهنا يمضي الله أمره، وينفذ قدره، ويجعل كلمة الحق والخير والصلاح هي العليا، ويجعل حصيلة الصراع والتنافس والتدافع في يد القوة الخيرة البانية، التي استجاش الصراع أنبل ما فيها وأكرمه، وأبلغها أقصى درجات الكمال المقدر لها في الحياة.
ومن هنا كانت الفئة القليلة المؤمنة الواثقة بالله تغلب في النهاية وتنتصر؛ ذلك أنها صورة من صور تجلي إرادة الله العليا في دفع الفساد عن الأرض، وتمكين الصلاح في الحياة.
وهذا هو الذي يعتقده كل مؤمن في أحداث اليوم... نصر قريب للفئة المؤمنة على قوى البغي من اليهود وأعوانهم على الأرض المقدسة في فلسطين وقدسها المبارك.
___________________________________________
الكاتب: أ. د. فؤاد محمد موسى
- التصنيف: