إياكم ودعوة المظلوم

منذ 12 ساعة

(إياكم ودعوةَ المظلوم وإن كانت من كافر، فإنه ليس لها حجابٌ دون الله عز وجل)

الحمد لله الذي تفرَّد بعزِّ كبريائه عن إدراك البصائر، وتقدَّس بوصف علاه عن الأشباه والنظائر، وتوحَّد بكمال جبروته، فالعقلُ في تعظيمه حائرٌ، وتفرَّد في ملكوته فهو الواحد القهار، الأول قبل كلِّ أول، الآخر بعد كل آخِر، الظاهر بما أبدَع، فدليل وجوده ظاهر، الباطن فلا يخفى عليه ما هجَس في الضمائر.

 

وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، شهادة أَعُدُّها من أكبر نِعمه وعطائه، وأعدها وسيلةً إلى يوم لقائه.

يا حبيبَ القلب ما لي سواك   **   فارحَم اليوم مذنبًا أَتَاكَا 

 

وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وشفيعنا محمدًا عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وحبيبه.

 

اختاره من أطيب العناصر، واصطفاه من أنجب العشائر، واختصَّه من أشرف الذخائر، وأدار على مَن عاده أفظعَ الدوائر.

 

يا سيدي يا رسول الله:

ربَّاك ربُّك جَلَّ مَن ربَّــــــــــاكَ   **   ورَعاكَ في كَنَفِ الهُدى وحَمَاكَ 

سُبحانَه أَعطاكَ فَيضَ فضائلٍ   **   لَم يُعْطَها في العالَمين سِــواكَ 

 

وعلى آله وأصحابه، ومن سار على نَهْجه وتمسَّك بسُنته، واقتدى بهديه، واتَّبعهم بإحسان إلى يوم الدين، ونحن معهم يا أرحم الراحمين.

 

عن أنس: (إياكم ودعوةَ المظلوم وإن كانت من كافر، فإنه ليس لها حجابٌ دون الله عز وجل)[1].

 

أولًا: تعريف وبيان: تعريف الظلم شرعًا:

الظلم: التصرُّف في حقِّ الغير بغير حقٍّ، أو مجاوزة الحق.

وقيل: الظلم عبارة عن التعدِّي عن الحق إلى الباطل، وهو الجور.

وقيل: وضع الشيء بغير محله بنقص أو زيادة أو عدول عن زمنه.

وقيل: الظلم وضعُ الشيء في غير موضعه، والتصرف في حقِّ الغير، ومجاوزة حدِّ الشارع [2].

 

ثانيًا: الله تعالى حرم الظلم على نفسه:

قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء:40]، وقال تعالى: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لّلْعَالَمِينَ} [آل عمران: 108].

 

عن أبي ذر - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه - عز وجل - أنه قال: «يا عبادي، إني حرَّمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا؛ فلا تَظالَموا» [3].

 

قال الطحاوي في عقيدته: "يفعل ما يشاء وهو غير ظالِم أبدًا".

 

يقول ابن أبي العز وقوله: "يفعل ما يشاء، وهو غيرُ ظالم أبدًا" الذي دل عليه القرآن من تنزيه الله نفسه عن ظلم العباد، يقتضي قولًا وسطًا بين قولي القدرية والجبرية، فليس ما كان من بني آدم ظلمًا وقبيحًا، يكون منه ظلمًا وقبيحًا، كما تقوله القدرية والمعتزلة ونحوهم!

فإن ذلك تمثيل لله بخلقه! وقياس له عليهم! هو الرب الغني القادر، وهم العباد الفقراء المقهورون، وليس الظلم عبارة عن الممتنع الذي لا يدخل تحت القدرة، كما يقوله من يقوله من المتكلمين وغيرهم، يقولون: إنه يمتنع أن يكون في الممكن المقدور ظلمٌ! بل كل ما كان ممكنًا فهو منه - لو فعله - عدل؛ إذ الظلم لا يكون إلا من مأمور من غيره منهي، والله ليس كذلك، فإن قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُو مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا} [طه 112]، وقوله تعالى: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [ق 29]، وقوله تعالى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} [الزخرف 76]، وقوله تعالى: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف 49]، وقوله تعالى: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [غافر 17] - يدل (2) على نقيض هذا القول، ومنه قوله الذي رواه عنه رسوله: «يا عبادي، إني حرَّمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا، فلا تظالموا»؛ فهذا دل على شيئين:

أحدهما: أنه حرَّم على نفسه الظلم، والممتنع لا يوصف بذلك.

 

الثاني: أنه أخبر أنه حرَّمه على نفسه، كما أخبر أنه كتب على نفسه الرحمة، وهذا يبطل احتجاجهم بأن الظلم لا يكون إلا من مأمور منهي، والله ليس كذلك، فيقال لهم: هو سبحانه كتب على نفسه الرحمة، وحرم على نفسه الظلم، وإنما كتب على نفسه وحرَّم على نفسه ما هو قادر عليه، لا ما هو ممتنع عليه، وأيضًا: فإن قوله: {فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا} [طه 112}، قد فسَّره السلف بأن الظلم: أن تُوضَع عليه سيئات غيره، والهضم أن يُنقَصَ من حسناته؛ كما قال تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164].

 

وأنا أرجح أن زيادة «وذلك»؛ إما من الناسخ، وإما من الطابع! غفلة عن ربط الجملة) [4].

 

ثالثًا: تحريم الظلم والتحذير منه:

عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تَحاسَدوا ولا تناجَشوا، ولا تباغَضوا، ولا تدابَروا، ولا يبِع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانًا، المسلم أخو المسلم، لا يَظْلمه، ولا يَخذله، ولا يَحقره، التقوى ها هنا، -ويشير إلى صدره ثلاث مرار-، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه، وماله، وعرضه» [5].

 

في حديث أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تعالى أنه قال: «يا عبادي، إني حرَّمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا، فلا تظالموا...» [6].

 

تحريم الله الظلم على نفسه:

يقول الشيخ عطية سالم رحمه الله: يقول سبحانه وهو الملك القادر القاهر، وهو ربُّ العزة وبيده نواصي الخلق، ولا يسأل عما يفعل، يقول: (حرَّمت الظلم على نفسي)، مع أنه سبحانه لم يتوجَّه إليه ظلم؛ لأن الظلم هو: وضع الشيء في غير موضعه، أو تصرُّف المالك في غير ملكه، فإذا كان الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه، فالمولى سبحانه لا يضع شيئًا إلا في موضعه، وإذا كان الظلم هو تصرُّف الإنسان في غير ما يَملِك، فالله يملك الكون كله، وكل تصرُّف من الله فهو في ملكه وخلقه أينما كانوا.

 

إذًا لا يتوجه إلى الله ظلمٌ، ولا حاجة إلى النقاش في ذلك، لكن هل الظلم ممكن في حق الله أو ليس بممكن؟ إن الله يُخبرنا: (إني حرَّمت)؛ أي: منعت وتنزَّهت عن أن أظلِم، مع أنه لا يُسأل عما يفعل.

 

تحريم التظالم بين العباد:

(وجعلته بينكم محرمًا) لماذا؟ لأنهم عباده، فإذا كان هولا يظلم، ولو وقع منه ظلم فإنما يقع على عباده؛ لكنه لا يظلِم عباده لأنه يَرحَمهم، فكيف يقبَل من غيره أن يَظلِمَهم؟! ثم قال: (فلا تَظَّالَموا)، بصيغة المبالغة؛ لأنه قد يقع بعض الظلم دونما علمٍ، والرواية الأخرى: (فلا تَظَالَموا) بدون تضعيف؛ أي: لا يظلم بعضكم بعضًا.

 

وإذا وقفنا عند هذا النداء الأول، وهو: النهي عن الظلم بين الخلق، وكان الظلم: وضع الشيء في غير موضعه، أو المصطلح عليه عند الناس: أن الظلم هو الاعتداء على حقوق الآخرين، والتصرف في ملك الآخرين بغير إذنهم.

 

يقول علماء التوجيه والتربية والتشريع: ما فَنيت أمة إلا تحت سَوْط الظلم، وما وقعت مصائبُ في أمة، ولا ابتُليت بأمراض ولا ببلايا ولا بفناء نهائي، إلا بسبب الظلم.

 

ويقولون: إن رفع الظلم عُرف في التاريخ من آلاف السنين، والعالم بأسْره كان يَحذَر الظلم ويتجنَّبه، وبعض الملوك كان يجعل له نافذة يَكتُب عليها: نافذة المظالم، وكل من كانت له مظلمة من عامل أو خادم أو أي شخص له سطوة أو سلطة، كتَب ظلامته وألقاها؛ لأن عُماله كانوا لا يبلغونه مظالم الأمة، فكان يتولاها بنفسه.

 

موقف الرسول صلى الله عليه وسلم من الظلم:

جاء الإسلام وبيَّن لنا صلى الله عليه وسلم، وبيَّن لنا القرآن أن (الظلم ظلمات يوم القيامة)؛ فإذا كان الأمر كذلك فإن أَولى من يراعي قضية الظلم والعدالة هو المسلم؛ لأن الله سبحانه يخبره بأنه تكرَّم وحرَّم الظلم على نفسه، وجعله بين العباد محرمًا، ونهاهم أن يرتكبوا ذلك (فلا تظالموا).

 

ونحن نعلم ما جاء في التاريخ الإسلامي من العدالة، وأول تمثيل للعدالة كان في عهد سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، وذلك حينما يستعيذ بالله من أن يظلم أو يُظلم أو يبغي أو يُبغى عليه.

 

وفي موقف مِن أحرج مواقف الإسلام في أرض المعركة في بدر وقوة العد وضعف قوة المسلمين، والمسلمون إنما خرجوا لأخذ عِير لا شوكة لهم، ويصف النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين، لتتقابل قوة الحق مع قوة الباطل، قوة الإسلام بنوره وقوة الكفر والشرك بظلامه وضلاله، ويسوي النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين كما يسوون صفوف الصلاة لتراصِّهم: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف:4]، فجاء في السيرة بأنه عدَّل رجلًا بالقضيب في يده هكذا على بطنه، فقال: (أوجعتني يا رسول الله، فيكشف صلى الله عليه وسلم عن بطنه ويعطيه القضيب، ويقول له: اقتد لنفسك مني).

 

وكان من حقه صلى الله عليه وسلم أن يعدل الصفوف، ولوكان مكانه أي قائد في معركة كهذه أو أي جندي وقال كلمة مثل هذه، ربما صفعه على وجهه، نحن لسنا في وقت المزاح، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي هذا الموقف، يكشف عن بطنه ويعطيه القضيب، ويقول له: خُذْ حقك مني، فيهوي على بطنه صلى الله عليه وسلم، فيقبِّله، فيقول له: هذا هو حدُّك، قال: نعم يا رسول الله، قال: هذه حيلة! ما الذي حملك عليها، قال: يا رسول الله! الموقف كما ترى بين الحياة والموت، فأحببت أن يكون آخر عهدي من الدنيا بك يا رسول الله.

 

الذي يهمنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقدِّم نفسه لأحد أصحابه في أحد المواقف، ويقول له: «خُذْ حقَّك مني»، فهل يبقى هناك مثال للعدالة فوق هذا؟ لا والله! النصوص المتضافرة عنه صلى الله عليه وسلم في القضاء والشهادة، والتحذير من شهادة الزور إلى غير ذلك كثيرةٌٌ، ويأتي من بعده الخلفاء الراشدون، ويأتي عمر رضي الله تعالى عنه ويتكلم ويخطب للأمة كلها، ويتولى المظالم بنفسه، إلى حد أن يقول: (لو أن شاة بجذلة كُسرت رِجلها، لكان عمر مسؤولًا عنها)، ويتتبَّع الناس في الليل، ويسمع العجوز تشتكي ويسألها: (ما سيرة عمر فيكم؟ تقول: عمر لا جزاه الله خيرًا، لماذا؟ لأننا جياع وهو غافل عنا! قال: وما يدري عمر عنك، قالت: كيف يكون أميرًا على الناس ولا يدري عن بعض الأفراد؟ وبعد أن يذهب ويأتيها بالمال والطعام يقول: بيعي عليَّ مَظلمتَك عند عمر غدًا، قالت: ولماذا؟ قال: إني مُشفق عليه من النار).

 

رد عمر بن عبد العزيز للمظالم:

لَما تولَّى عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه الخلافة ما ترك شيئًا اسمه ظلم في بيت المال إلا ورده على أهله، من هذا العمل الخيِّر تزدهر الحياة في زمن عمر خلال سنتين أصلَح فيها ما أفسد من كان قبله.

 

ويعم الله الأرض بالخير، ويرسل عامله إلى إفريقيا لتفريق الزكاة، فيوزع من الزكاة ما يغني الفقراء، ويقول العامل: بقي عندي مال من الزكاة، ماذا أفعل به؟ فيقول: انظر هل من مدين فاقضِ دينه؟ فيبعث إليه أنه بقي عندي، فيقول: انظُر هل من غريب فأرسله إلى بلده، يقول: بقي عندي، فيقول: انظر هل مِن أعزب فزوِّجه! هكذا كان بيت المال وفيرًا بالمال إلى حد أن يسدَّ حاجة الأفراد والجماعات بفضل الله، ثم بإقامة العدل ورد المظالم.

 

ثم من بعد عمر بن عبد العزيز وبعد الدولة الأموية، وأوائل العصر العباسي وأواخر العصر الأموي، كَثُرَ الظلم من العمال، فأُنشِئ ديوان المظالم أو قاضي المظالم، لينظر في ظلم العمال للرعية) [7].

 


[1] قال الألباني: (حسن)؛ انظر حديث رقم: 2682 في صحيح الجامع.

[2] جامع العلوم والحكم (211)، والتعريفات للجرجاني (48)، والتوقيف على مهمات التعاريف (231)، والكليات (594).

[3] أخرجه مسلم ح 8/ 17 (2577) (55) من طريق أبي إدريس الخولاني، عن أبي ذر، به، وأخرجه: معمر في "جامعه" (20272)، والطيالسي (463)، وأحمد 5/ 154 و160 و177، وهناد في "الزهد" (905)، والبخاري في "الأدب المفرد" (490)، وابن ماجه (4257)، والترمذي (2495)، والبزار (4051)، و(4052)، و(4053)، وابن حبان (619)، والطبراني في "مسند الشاميين" (338)، و(2811)، والحاكم 4/ 241، وأبو نعيم في "الحلية" 5/ 125 - 126، والبيهقي 6/ 93، وفي "شعب الإيمان"، له (7088)، والخطيب في "تاريخه"، 7/ 203 – 204.

[4] شرح العقيدة الطحاوية (659-661).

[5] صحيح؛ رواه مسلم (2564).

[6] سبق تخريجه.

[7] شرح الأربعين النووية، ص9 - 13).

  • 0
  • 0
  • 52

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً