خطر الإسراف والتبذير

منذ 9 ساعات

إن الإسراف والتبذير داء فتَّاك، يهدد الأمم والمجتمعات، ويُبدِّد الأموال والثروات، وهو سبب لحلول العقوبات والبليات، العاجلة والآجلة.

الحمد لله الملك الوهاب، الكريم الذي لا تنفد خزائنه، واسع الفضل، عظيم المنة، سابغ النعم، بر رؤوف بعباده. نحمده سبحانه وتعالى حمدًا يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، ونشكره على نعمه التي لا تعد ولا تحصى، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وسيد خلقه، ومصطفاه من عباده، صلى الله وسلم عليه، وعلى آله وأصحابه، ومن سار على نهجه واقتفى أثره إلى يوم الدين.

 

عباد الله، إن الله جل وعلا أنعم عليكم بنعم عظيمة وكثيرة، فقد أغناكم بعد فقر، وأطعمكم بعد جوع، وهداكم بعد ضلالة، وفتح لكم من أبواب الخير، وسبل الرزق ما لم يكن لكم على بالٍ، فاشكروا الله تعالى على ذلك حق شكره، واعلموا أن ذلك كله لا يغنيكم عن فضله ومنه.

 

عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها فرأى كسرة خبز ملقاة، فأخذها ومسحها ثم أكلها، وقال: ​ «يا عائشة، أحسني جوار نعم الله، فإنها قلما نفرت من أهل بيت فكادت أن ترجع إليهم»؛ ​ (رواه ابن ماجه) ، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد تمرة في الطريق فقال: «لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها»؛ (رواه البخاري ومسلم) .

 

عباد الله، ما هكذا تُشكَر النعم، وتُستدفَع النقم، أما حدثكم الآباء والأجداد، عما كانوا فيه من ضيق العيش بل الجوع الذي هلك فيه من هلك، أما سمعتم بقصصهم، وما مسَّهم من الجوع والقحط، أما تأملتم في حال من كفر النعمة وأهانها، على مر الدهور والأزمان، من دول وشعوب وأفراد، وما نزل بهم من العذاب والنكال، جزاء إسرافهم وتبذيرهم وعدم شكرهم، كم هي الأمم والدول والأفراد على مَرِّ التاريخ التي مع التبذير والإسراف، افتقروا بعد الغنى؟! وربما ابتلاها الله بالحروب والفتن، فتمنوا حينها ما كانوا يلقون بالأمس من النعم في النفايات! والتاريخ خير شاهد وحافظ لتلك العبر لمن يعتبر.

 

عباد الله، احذروا مما تصاب به النفوس عند الغنى، وكثرة المال من التجاوز والطغيان، كما قال الله تعالى: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 6، 7]، وصدق الله العظيم، فإنه لما فتح علينا من الدنيا ما فتح، وتوالت على كثير منا النعم اغترَّ فئام من الناس بهذا الطيف العارض، والظل الزائل، فطغوا وتجاوزوا الحد، فأسرفوا وبذروا وتخوَّضوا في مال الله بغير حق، فمن تلك المظاهر: الإسراف في المآكل والمشارب، فترى بعضًا منهم مَن يجتمع على مائدته من ألوان الطعام، ما يكفي الجمع من الناس، ومع ذلك لا يأكل منه إلا القليل، ثم يلقي باقيه في النفايات، فهل أُنْسي هؤلاء أم تناسوا أن من الناس أممًا يموتون جوعًا، أم نسي هؤلاء قول الله تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر: 8]؟! قال ابن القيم رحمه الله: "والنعيم المسؤول عنه نوعان: نوع أخذ من حله وصرف في حقه، فيسأل عن شكره، ونوع أخذ بغير حله، وصرف في غير حقه فيسأل عن مستخرجه ومصرفه".

 

عباد الله، إن من صور التبذير اليوم: الإسراف في المراكب والملابس والمساكن، فتجد أقوامًا تحملوا الديون، وأرهقوا حياتهم وشغلوا ذممهم؛ لينافس أقرانه ويباهي مجتمعه بمركب أو مسكن أو ملبس، تكاثر وتفاخر، سفه في العقل، وقلة في التدبير، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ومن الإسراف المذموم: ما يفعله بعض الناس، من إضاعة الأوقات في الملاهي والملذَّات والشهوات، فتجد الواحد من هؤلاء يصرف عمره، وخاصة نشاطه وفكره ووقته في لهو ولعب وسهر وتسلية، لا في عمل دنيا ينتفع به، ولا عمل آخرة ينجو به! غفلة وطيش، ضياع لمصالح دنياه، وذهاب لمصالح أُخْراه.

 

ومن الإسراف والتبذير: الإسراف في استخدام الماء الذي هو أرخص موجود، وأعز مفقود، حيث يهدر بكميات كبيرة، بلا عتاب ولا حساب، وكأننا نعيش على ضفاف أنهار، لا تتوقف، وآبار لا تنضب! غفلة وإهمال، قلة تدبير وتبذير وإساءة استعمال، ولا شك أن الواقع المرير الذي نعيشه يخالف ما جاءت به شريعة الإسلام، فإن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ بسعد وهو يتوضأ، فقال: «ما هذا السرف يا سعد؟»، قال: أفي الوضوء إسراف؟ قال: «نعم، وإن كنت على نهر جارٍ»؛ (رواه ابن ماجه وصححه الألباني) ، بل نهى صلى الله عليه وسلم عن الإسراف في الوضوء، ففي النسائي وابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثًا ثلاثًا، ثم قال: ((هكذا الوضوء، فمن زاد عن هذا فقد أساء وتعدَّى وظلم))، قال الإمام البخاري رحمه الله: "كره أهل العلم الإسراف في الوضوء، وأن يجاوزوا فعل النبي صلى الله عليه وسلم".

 

عباد الله، إن من أعظم التبذير أن تستعمل المال الذي تفضل الله به عليك في معصية الله تعالى، فالله جل وعلا ينعم عليك ويتفضل، وأنت تخالفه، قال الله تعالى: {وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} [الإسراء: 26، 27]، قال قتادة رحمه الله: "التبذير هو النفقة في معصية الله، وفي غير الحق، وفي الفساد".

 

عباد الله، إن الله جل وعلا قد نهى عن الإسراف والتبذير في آيات كثيرة، فقال تعالى: {وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأنعام: 141]، وقال جل ذكره: {وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} ، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسراف في الأمر كله، بل ونهى عن الإسراف في الصدقات، فقال صلى الله عليه وسلم: «كلوا واشربوا وتصَدَّقوا والبسوا من غير سرف ولا مخيلة».

 

فإن الإسراف والتبذير داء فتَّاك، يهدد الأمم والمجتمعات، ويُبدِّد الأموال والثروات، وهو سبب لحلول العقوبات والبليات، العاجلة والآجلة.

 

والتبذير والإسراف يؤدي بصاحبه إلى الكبر وطلب العلو في الأرض، قال صلى الله عليه وسلم: «كلوا واشربوا وتصَدَّقوا من غير سرف ولا مخيلة»، فالحديث يدل على أن الإسراف قد يستلزم المخيلة؛ وهي الكبر، فإن الكبر ينشأ عن فضيلة يتراءاها الإنسان من نفسه {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 6، 7]. وهو إضاعة للمال، وتبديد للثروة، فكم من ثروة عظيمة، وأموال طائلة، بدَّدها التبذير، وأهلكها الإسراف، وأفناها سوء التدبير.

 

فاتقوا الله عباد الله، فإن الله نهاكم عن إضاعة المال، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله كره لكم ثلاثًا: قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال»، وقال صلى الله عليه وسلم: «إن رجالًا يتخوضون في مال الله بغير حق، فلهم النار يوم القيامة»، وهذا كما قال الله تعالى: {وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} [غافر: 43].

 

والإسراف سبب من أسباب الضلال في الدين والدنيا، وعدم الهداية لمصالح المعاش والمعاد، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} [غافر: 28]، بل إن من عقوبة الله تعالى للمسرفين أن جعلهم إخوانًا للشياطين، فقال سبحانه: {وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} [الإسراء: 26، 27]، فتوبوا عباد الله من الإسراف كله، فإن الله دعاكم إلى ذلك، فقال: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} [الزمر: 53، 54].

 

جميل أن نربي أنفسنا ونُعلِّم أهلنا فنون الاقتصاد والتوفير، وأنه ليس كلما اشتهيتم اشتريتم؛ بل كلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين، والأجمل والأكمل أن يصبح الاعتدال في الإنفاق لنا سلوكًا ومنهجًا لا يغيره ضغط الواقع ولا استجداء الأطفال ولا المطالب التافهة لبعض النساء؛ وإنما نمارس سياسة الحزم ممتثلين أمر الله {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق: 7].

 

جميل أن نربي أنفسنا وأهلنا وذرياتنا على فقه الأولويات في الشراء، وألا ننخدع بالعروض والدعايات والإعلانات، ولنأخذ من يومنا لغدنا، ومن رخائنا لشدتنا، ومن غنانا لفقرنا، ولنتذكر أنه ربما جاءت سنوات شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلًا مما تحصنون وتدخرون، والترشيد والاعتدال في الإنفاق سمة الناجحين، الذين يدركون أنهم مسؤولون أمام الله عن أموالهم من أين اكتسبوها؟ وفيمَ أنفقوها؟

 

فاتقِ الله يا عبد الله، وتب إلى الله من التفريط والتقصير، وأعِدَّ للسؤال جوابًا، فإن الله سائلك عن هذا المال: من أين اكتسبته؟ وفيمَ أنفقته؟

_____________________________________________
الكاتب: د. محمد بن مجدوع الشهري

  • 1
  • 0
  • 40

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً