شهوة النقد بعباءة النصيحة
“فلا تشمت بي الأعداء” قاعدة أخلاقية كبرى في نقد العمل الإصلاحي: أن لا يُقدّم نقدك هدية مجانية لأعداء الدين، وأن لا يكون نقد القريب سببًا لشماتة الغريب، حتى وإن كنت محقًا في أصل الملاحظة
من الظواهر اللافتة عند ملامسة مفاصل الواقع التربوي والعلمي: نزعة التهوين والتقليل، والتعليق الساخر على المشاريع العلمية والبرامج التربوية، حتى وإن كانت نيات أصحابها صالحة، وأهدافها نبيلة، فتجد البرنامج التربوي قد نبت في بيئة جافة، وسُقي بدموع الساعين، ثم ما إن يبدأ في الإزهار، حتى تتكاثر عليه عيون الناقدين، وهذه الظاهرة لم تعد حالةً فردية أو هامشًا عارضًا، بل تحوّلت عند بعضهم إلى “عادة ذهنية” و”نفسية تفاعلية”، لا تكاد ترى مشروعًا نافعًا إلا ويتبع التعليق عليه تنفّس ساخر ممزوجاً بسُكّرِ التقوى، أو مقارنة جارحة، أو لمزٍ ينقض البناء باسم التقييم.
ولعلّ الأخطـر في هذا الباب أن هذه اللغة المغموسة في “القيل والقال” لم تكتفِ بساحات الواقع، بل هاجرت إلى الفضاء الافتراضي ووجدت فيه موئلًا خصبًا، تُمارس فيه بأريحية “النقد المستتر”، و”المقارنة الناقمة”، و”التحليل غير المسؤول”، وكل ذلك تحت راية “النية الحسنة” و”الحرص على المصلحة”.
وتحت هذه اللافتات المُلطفة، يتسرب داء القيل والقال، لا ككلام عرضي عفوي، بل كمنهج تنظيري، يفتّ في عضد المشاريع، ويضعف ثقة الطاقات، ويزرع في العقول الصغيرة أن النقد قبل الفهم، وأن الشك قبل التثبّت، وأن الظن السيئ “حرصٌ شرعي” ما دام مغلّفًا بمصطلحات شرعية، وإن أخطر ما في هذا المسلك أن “النيات الحسنة” لا تكفي لتبرير خللٍ منهجيٍّ في النقد، فكم من مريدٍ للخير لم يُصبْه، وكم من ناصحٍ جَرّ بعفويته تشويهًا، لا تقويمًا.
وليس النقد في ذاته مذمومًا، بل هو ضرورة حضارية، ومقومٌ أصيل في البناء العلمي، لكن الإشكال كل الإشكال حين يتحوّل النقد إلى شهوةٍ نفسية، لا إلى غيرةٍ منهجية، وحين يصبح حضور “الخلل” في المشروع، هو مدخل التقييم الوحيد، دون اعتبار لميزان المصالح، أو للجهود المتراكمة، أو لسياقات الزمان والمكان، لكن الحقيقة أن هذه النبرة ليست انطلاقًا من معيار علمي، بقدر ما هي تفريغ لانطباع نفسي لم يُضبط بمنهاج شرعي ولا خلقٍ علمي.
و القلوب أوعية، فإذا امتلأت بشهوة الحديث عن الناس، فرغت من هَمّ الحديث إلى الله” لكن هذه الظاهرة – وإن كانت مشهودة في الواقع – قد تضخّمت أضعافًا حين استُصحبت في العوالم الافتراضية، حيث يُمكن لواحدٍ أن يُجهز على جهد سنين، بتغريدةٍ عائمة، لأن هذا العالم الافتراضي، تتسارع فيه الأحكام، وتنتشر التهم، وتُخزّن الكلمات في أرشيفٍ رقميٍّ لا ينسى، فيكون الأذى فيه مضاعفًا، والبقاء للقول الأشد، لا للأصدق.
ونحن في زمن أصبحت فيه اللغة سريعة، وساحات الرأي مفتوحة، لكن القلوب أضيق من أن تتحمّل رؤية نجاح الغير بهدوء، فاستفحلت أمراض النقد المسموم، وتلبّسها لباس الحرص، وغُلفت في ظاهرها بلغة “التقويم”، لكنها في باطنها تحمل كثيرًا من غياب الورع، وضيق الصدر، وحبّ التصدر.
وهنا يحسن أن نتوقف عند مشهد قرآني عظيم، يعيد إلينا ميزان الإنصاف عند اختلاف الرؤية، وخصوصًا في ساحة المشاريع الكبرى: ﴿ {قال يا ابنَ أُمَّ لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي، إني خشيتُ أن تقول فرّقتَ بين بني إسرائيل ولم تَرْقُب قولي} ﴾ هذا الحوار النبوي بين موسى وهارون عليهما السلام، فيه من الدروس ما يُذهل العاقل، فموسى – وهو نبيٌ كريم – عاد ليجد قومه قد فُتنوا، فغضب لله، ولامَ أخاه على ما بدا له تقصيرًا، لكن انظر إلى رد هارون، الذي لم يدخل في دائرة الدفاع عن الذات، ولا استدرجته العاطفة إلى التبرير، بل قدّم النية، والخشية من مآلات الفُرقة، وحذر من أن تُستغل الواقعة شماتةً من الأعداء، ونص الإمام السعدي في تفسيره: "﴿ {وكادوا يَقْتُلونَني} ﴾؛ أي: فلا تظنَّ بي تقصيرًا، ﴿ {فلا تُشْمِتْ بيَ الأعداء} ﴾: بنهرِك لي ومسِّك إيَّايَ بسوءٍ فإنَّ الأعداء حريصون على أن يجدوا عليَّ عثرةً أو يطَّلعوا لي على زَلَّة، ﴿ {ولا تجعلني مع القوم الظالمين} ﴾: فتعامِلُني معاملتهم.
“فلا تشمت بي الأعداء” قاعدة أخلاقية كبرى في نقد العمل الإصلاحي: أن لا يُقدّم نقدك هدية مجانية لأعداء الدين، وأن لا يكون نقد القريب سببًا لشماتة الغريب، حتى وإن كنت محقًا في أصل الملاحظة، ومع ذلك استحضر حديث هارون- عليه السلام- في لحظة النزاع الداخلي خطر أن تتحوّل الخصومة إلى مادة شماتة لأعداء الرسالة، فما بالك بمن يبسط الخلافات التربوية والاختلافات الإدارية والملاحظات على المشاريع العلمية في كل فضاء، دون اعتبارٍ لعدوّ يتربص، ولا جاهلٍ يتأثر، ولا مبتدئٍ قد يتراجع؟!
أليس من العقل والديانة، أن نزن كلماتنا بموازين النبل، وأن لا نُسلم أخطاء المصلحين لأفواه المشككين، وأن ننتصر للحق دون أن نهدم جسور الثقة بين أهل الحق أنفسهم؟فلئن كان الإصلاح فرضًا، فـ “حسن البيان” في الإصلاح أدبٌ واجب، وإن القسوة في الطرح لا تدل بالضرورة على صدق الغيرة.
اجعل النقد شُعلة بناء لا نارَ حطب، واكتم الظنون كما تكتم الزلات، ورحم الله من أصلح وهو يُجِلّ، ونصح وهو يتألّم، ووعظ وهو يتقي الله أن يُشمت بالأخيار.
__________________________________________
الكاتب: قناة توّاق
- التصنيف: