التقوى

منذ 18 ساعة

وَنَخْلُصُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ: أَنَّ أَوَّلَ دَرَجَاتِ التَّقْوَى هِيَ: فِعْلُ الْوَاجِبَاتِ، وَتَرْكُ الْمُحَرَّمَاتِ، وَثَانِيهَا: التَّقَرُّبُ بِالنَّوَافِلِ وَالْقُرُبَاتِ وَاجْتِنَابُ الْمَكْرُوهَاتِ، ثُمَّ مَا يَزَالُ الْعَبْدُ يَتَرَقَّى فِي دَرَجَاتِهَا حَتَّى يَجْعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَرَامِ سُتْرَةً مِنَ الْحَلَالِ...

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: عَمَلٌ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ، وَأَحَدُ أَسْبَابِ تَحْقِيقِ مَرْضَاةِ عَلَّامِ الْغُيُوبِ؛ تَقُومُ بِهِ الْوَاجِبَاتُ، وَتَحُلُّ بِالْعَيْشِ فِي ظِلَالِهِ الْبَرَكَاتُ، وَتَتَنَزَّلُ مَعَهُ الْخَيْرَاتُ، وَتَسْتَقِيمُ الْحَيَاةُ، كَمَا أَنَّ بِغِيَابِهِ تُرْتَكَبُ الْمُنْكَرَاتُ، وَتُسْتَوْجَبُ الْعُقُوبَاتُ، وَتُنْتَزَعُ الرَّحَمَاتُ.

أَعَرَفْتُمُوهُ؟ إِنَّهُ تَقْوَى اللهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-.

 

عِبَادَ اللهِ: وَحَقِيقَةُ التَّقْوَى كَمَا عَرَّفَهَا طَلْقُ بْنُ حَبِيبٍ قَائِلًا: "أَنْ تَعْمَلَ بِطَاعَةِ اللهِ عَلَى نُورٍ مِنْ نُورِ اللهِ رَجَاءَ ثَوَابِ اللهِ، وَالتَّقْوَى تَرْكُ مَعَاصِي اللهِ عَلَى نُورٍ مِنَ اللهِ خَوْفَ عِقَابِ اللهِ".

 

وَضَرَبَ لَهَا أَبُو هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مَثَلًا حِينَ سَأَلَهُ رَجُلٌ: مَا التَّقْوَى؟ فَأَجَابَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ: هَلْ أَخَذْتَ طَرِيقًا ذَا شَوْكٍ؟ قَالَ الرَّجُلُ: نَعَمْ، قَالَ: فَكَيْفَ صَنَعْتَ؟ قَالَ: إِذَا رَأَيْتُ الشَّوْكَ عَدَلْتُ عَنْهُ، أَوْ جَاوَزْتُهُ، أَوْ قَصَّرْتُ عَنْهُ، فَقَالَ: "ذَاكَ التَّقْوَى"(رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ).

 

خَلِّ الذُّنُوبَ صَغِيرَهَــا  **  وَكَبِيرَهَا فَهُوَ التُّقَـــــــــى

وَاصْنَعْ كَمَاشٍ فَوْقَ أَرْ  **  ضِ الشَّوْكِ يَحْذَرُ مَا يَرَى

لَا تَحْقِرَنَّ صَغِيـــــــرَةً  **  إِنَّ الْجِبَالَ مِنَ الْحَصَـــى

 

وَإِذَا سَمَوْتَ فِي دَرَجَاتِ التَّقْوَى؛ فَإِنَّ التَّقْوَى أَنْ تَدَعَ أَشْيَاءَ مِنَ الْحَلَالِ مَخَافَةَ أَنْ يَجُرَّكَ فِعْلُهَا إِلَى الْحَرَامِ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: "لَا يَبْلُغُ الْعَبْدُ حَقِيقَةَ التَّقْوَى حَتَّى يَدَعَ مَا حَاكَ فِي الصَّدْرِ"(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ).

 

وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: "مَا زَالَتِ التَّقْوَى بِالْمُتَّقِينَ حَتَّى تَرَكُوا كَثِيرًا مِنَ الْحَلَالِ مَخَافَةَ الْحَرَامِ"(جَامِعُ الْعُلُومِ وَالْحِكَمِ).

 

وَنَخْلُصُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ: أَنَّ أَوَّلَ دَرَجَاتِ التَّقْوَى هِيَ: فِعْلُ الْوَاجِبَاتِ، وَتَرْكُ الْمُحَرَّمَاتِ، وَثَانِيهَا: التَّقَرُّبُ بِالنَّوَافِلِ وَالْقُرُبَاتِ وَاجْتِنَابُ الْمَكْرُوهَاتِ، ثُمَّ مَا يَزَالُ الْعَبْدُ يَتَرَقَّى فِي دَرَجَاتِهَا حَتَّى يَجْعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَرَامِ سُتْرَةً مِنَ الْحَلَالِ.

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: وَلِأَهَمِّيَّةِ التَّقْوَى كَانَتْ وَصِيَّةَ اللهِ -سُبْحَانَهُ-، وَوَصِيَّةَ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ لِأَقْوَامِهِمْ، وَوَصِيَّةَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِأُمَّتِه، وَوَصِيَّةَ الصَّحَابَةِ وَالصَّالِحِينَ؛ فَأَمَّا إِنَّهَا وَصِيَّةُ اللهِ لِلْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ؛ فَقَدْ قَالَ –سُبْحَانَهُ-: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ}[النساء:131].

 

وَالتَّقْوَى وَصِيَّةُ كُلِّ نَبِيٍّ لِقَوْمِهِ؛ فَهِيَ وَصِيَّةُ نُوحٍ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، قَالَ -سُبْحَانَهُ-: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ}[الشعراء:106]، وَوَصِيَّةُ هُودٍ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، قَالَ -عَزَّ مِنْ قَائِلٍ-: {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ}[الشعراء:124]، وَوَصِيَّةُ صَالِحٍ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-؛ {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ}[الشعراء:142].

 

وَالتَّقْوَى وَصِيَّةُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِأُمَّتِهِ؛ فَعَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: "وَعَظَنَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمًا بَعْدَ صَلاَةِ الغَدَاةِ مَوْعِظَةً بَلِيغَةً، ذَرَفَتْ مِنْهَا العُيُونُ، وَوَجِلَتْ مِنْهَا القُلُوبُ؛ فَقَالَ رَجُلٌ: إِنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ، فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ...» "(رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ).

 

وَالتَّقْوَى وَصِيَّةُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ؛ فَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُكَيْمٍ قَالَ: خَطَبَنَا أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؛ فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ لَهُ أَهْلٌ، قَالَ: "أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ"(رَوَاهُ الْحَاكِمُ).

 

وَهَذَا عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَكْتُبُ إِلَى ابْنِهِ عَبْدِ اللهِ: "أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّهُ مَنِ اتَّقَى اللهَ وَقَاهُ، وَمَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ كَفَاهُ، وَمَنْ أَقْرَضَهُ جَازَاهُ، وَمَنْ شَكَرَهُ زَادَهُ؛ فَلْيَكُنِ التَّقْوَى عِمَادَ عَمَلِكَ، وَجَلَاءَ قَلْبِكَ"(شُذُورُ الْأَمَالِي لِلْقَالِي).

 

أَخِي الْمُسْلِمُ: لَعَلَّكَ تَتَسَاءَلُ: وَلِمَ كُلُّ هَذَا الِاهْتِمَامِ بِالتَّقْوَى وَالْإِكْثَارِ مِنَ التَّوَاصِي بِهَا؟ وَالْجَوَابُ: لِمَا لَهَا مِنْ فَضَائِلَ جَمَّةٍ، وَإِلَيْكَ بَعْضًا مِنْهَا:

أَوَّلًا: التَّقْوَى أَفْضَلُ لِبَاسٍ وَخَيْرُ زَادٍ، قَالَ -سُبْحَانَهُ-: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ}[الأعراف:26]، وَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ}[البقرة:197].

 

ثَانِيًا: أَنَّ التَّقْوَى مِفْتَاحٌ لِقَبُولِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، قَالَ –سُبْحَانَهُ-: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}[المائدة:27].

 

ثَالِثًا: تَفْرِيجُ الْكُرُبَاتِ؛ فَالتَّقِيُّ يُفَرِّجُ اللهُ عَنْهُ كُلَّ كَرْبٍ فِي دُنْيَاهُ وَأُخْرَاهُ، قَالَ -سُبْحَانَهُ-: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا}[الطلاق:2].

 

ثَالِثًا: الْعِلْمُ النَّافِعُ، قَالَ -تَعَالَى-: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ}[البقرة:182].

 

رَابِعًا: حُصُولُ الْبَصِيرَةِ وَمَغْفِرَةِ الذُّنُوبِ؛ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}[الأنفال:29].

 

خَامِسًا: الدَّرَجَاتُ الْعُلْيَا فِي الْجَنَّةِ؛ {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا}[مريم:63]، وَلَمَّا سُئِلَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ أَكْثَرَ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ الْجَنَّةَ، فَقَالَ: "تَقْوَى اللهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ"(رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ).

 

عَلَيْكَ بِتَقْوَى اللهِ فِي كُلِّ أَمْـــــــرِهِ   **   تَجِدْ غِبَّهَا يَوْمَ الْحِسَابِ الْمُطَوَّلِ

أَلَا إِنَّ تَقْوَى اللهِ خَيْرُ مَغَبَّـــــــــــــةٍ   **  وَأَفْضَلُ زَادِ الظَّاعِنِ الْمُتَحَمِّـــــلِ

وَلَا خَيْرَ فِي طُولِ الْحَيَاةِ وَعَيْشِهَا   **   إِذَا أَنْتَ مِنْهَا بِالتُّقَى لَمْ تُرَحَّـــــلِ

 

عِبَادَ اللهِ: قَدْ يُحَدِّثُ الْعَبْدُ نَفْسَهُ؛ أَتَقِيٌّ أَنَا أَمْ لَا؟! وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْأَتْقِيَاءَ لَهُمْ عَلَامَاتٌ يُعْرَفُونَ بِهَا؛ فَلْيَنْظُرْ كُلٌ مِنِّا مَدَى تَحَقُّقِهَا فِي نَفْسِهِ، وَمِنْ تِلْكَ الْعَلَامَاتِ وَالصِّفَاتِ:

أَوَّلًا: الْإِيمَانُ بِالْغَيْبِ، وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ، قَالَ -سُبْحَانَهُ-: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}[البقرة:2-3].

 

ثَانِيًا: الْمُسَارَعَةُ إِلَى التَّوْبَةِ إِنْ بَدَرَ مِنْهُ ذَنْبٌ، قَالَ -سُبْحَانَهُ-: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ}[الأعراف:201].

 

ثَالِثًا: تَعْظِيمُ شَعَائِرِ اللهِ، قَالَ -سُبْحَانَهُ-: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ}[الحج:32].

 

رَابِعًا: الْعَدْلُ حَتَّى مَعَ مَنْ يُبْغَضُ، قَالَ -سُبْحَانَهُ-: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}[المائدة:8].

 

أيها المسلمون: ألا فاتقوا الله -تعالى- في سركم وجهركم واجعلوا تقوى الله في قلوبكم وأعمالكم وأقوالكم وسائر أحوالكم.

___________________________________________
المصدر: ملتقى الخطباء

  • 0
  • 0
  • 51

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً