التعريف بأصحاب الكتب الستة

منذ 4 ساعات

التعريف بأصحاب الكتب الستة البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه، أما بعد:

فهذا تعريف مختصر بأصحاب الكتب الستة في الحديث، وهم: البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه، مع بعض الكلام عن كتبهم الأمهات الست المشهورة التي هي دواوين السنة النبوية، وهي: صحيح البخاري وصحيح مسلم وسنن أبي داود وسنن النسائي وسنن الترمذي وسنن ابن ماجه.

أسأل الله أن يجعل علمي خالصا لوجهه، نافعا لعباده، والحمد لله وحده.

 

وكتب

محمد بن علي بن جميل المطري

15 رجب 1439 هجرية الموافق 1 إبريل 2018 ميلادية

كوالالمبور - ماليزيا

 

 

محمد بن إسماعيل البخاري

جبل الحفظ، وإمام الدنيا في الحديث، حفظ القرآن الكريم وهو غلام، وحبَّب الله إليه حفظ الحديث وعمره عشرة أعوام، واجتهد في طلب العلم فكان يلتهم العلم التهاما حتى أنه لما بلغ ستة عشر عاما كان قد حفظ جميع كتب عبد الله بن المبارك ووكيع بن الجراح وفيها عشرات الآلاف من الأحاديث والآثار، وعرف منذ صغره كلام أصحاب أبي حنيفة في الأحكام الفقهية، وصنَّف وعمره ثمانية عشر عاما كتاب قضايا الصحابة والتابعين وأقوالهم، وصَنَّف في صغره أيضا كتاب التاريخ الذي ذكر فيه أسماء آلآف الرواة من الصحابة والتابعين وأتباعهم، مع ذكر شيء من أنسابهم، وبعض من روى عنهم ورووا عنه، وربما ذكر تاريخ وفياتهم.

قال سليم بن مجاهد: كنت عند محمد بن سلام البيكندي فقال: لو جئت قبل لرأيت صبيا يحفظ سبعين ألف حديث! يعني البخاري وهو صغير، قال: فخرجت في طلبه حتى لحقته فسألته عن صحة حفظه سبعين ألف حديث، فقال: نعم، وأكثر، ولا أجيئك بحديث من الصحابة والتابعين إلا عرَّفتك تاريخ مولد أكثرهم ووفاتهم ومساكنهم!

رحل البخاري لسماع الحديث إلى أكثر مُحَدِّثي الأمصار في خراسان ومدن العراق والحجاز والشام ومصر، ولقي كبار علماء عصره، وبلغ عدد شيوخه في الحديث ألفا وثمانين شيخا، وكان البخاري إذا كتب عن شيخ سأله عن اسمه وكنيته ونِسبته وحملِه الحديث، وربما سأله أن يُخرج إليه أصله ونسخته ليتأكد من صحة ما يرويه عن مشايخه، واشتهر البخاري في حياة شيوخه بالحفظ والإتقان والتحري، حتى أن بعض شيوخه روى عنه، وطلب منه بعض شيوخه أن يفيده بما في كتابه من سقط أو غلط، وكان شيوخه يفضلونه على أنفسهم، وكان بعضهم يسألونه عن عِلَل الحديث، وكانوا يهابونه لسعة علمه وإتقانه ومعرفته بغالب أحاديثهم من طرق أخرى.

ورحل طلاب العلم إلى البخاري لسماع الحديث منه، وبلغ عدد طلابه عشرات الآلاف، قال تلميذه صالح بن محمد: كان البخاري أحفظهم للحديث، وكنت أستملي له ببغداد، فبلغ من حضر المجلس عشرين ألفاً، وقال تلميذه الفربري: سمع كتاب صحيح البخاري تسعون ألف رجل.

وكان البخاري حريصا على نشر الحديث النبوي، أملى يوما حديثا كثيرا على أحد طلابه، فخاف أن يمل، فقال له: طِب نفسا، فإن أهل الملاهي في ملاهيهم، وأهل الصناعات في صناعاتهم، والتجار في تجاراتهم، وأنت مع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.

قال محمد بن حمدويه: سمعت البخاري يقول: أحفظ مائة ألف حديثٍ صحيحٍ, ومائتي ألف حديثٍ غيرِ صحيحٍ.

ومن عجيب حفظ البخاري لأسماء الرواة ما نقله محمد بن أبي حاتم الوراق قال: سمعت البخاري يقول: تفكَّرت أصحاب أنس بن مالك فحضرني في ساعة ثلاث مائة. أي: أنه استحضر التابعين الذين رووا عن أنس بن مالك فعد منهم من حفظه ثلاثمائة راو في ساعة!

ومن عجيب حفظ البخاري لمتون الأحاديث وأسانيدها ما قاله أبو الأزهر: كان بسمرقند أربع مائة ممن يطلبون الحديث، فاجتمعوا سبعة أيام، وأحبوا مغالطة محمد بن إسماعيل، فأدخلوا إسناد الشام في إسناد العراق، وإسناد اليمن في إسناد الحرمين، فما تعلقوا منه بسقطة لا في الإسناد، ولا في المتن!

وقال أبو بكر الكلذواني: ما رأيت مثل محمد بن إسماعيل البخاري، كان يأخذ الكتاب فيطَّلع عليه اطَّلاعة، فيحفظ عامة أطراف الحديث من مرة واحدة!!

وقال الترمذي: لم أر بالعراق ولا بخراسان في معنى العلل والتاريخ ومعرفة الأسانيد أعلم من محمد بن إسماعيل البخاري.

وقال إمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة: ما رأيت تحت أديم السماء أعلم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحفظ له من محمد بن إسماعيل البخاري.

وقال حاتم بن منصور: محمد بن إسماعيل البخاري آية من آيات الله.

وقال الحسين بن حُريث: لا أعلم أني رأيت مثل البخاري، كأنه لم يُخلق إلا للحديث.

ولم يكن البخاري محدثا فقط، بل كان حافظا لكتاب الله، عارفا بتفسيره، فقيها مجتهدا، ومن يطَّلع على أبواب صحيحه يعلم قدر فقهه، ودقة استنباطه.

قال شيخه نُعيم بن حماد: محمد بن إسماعيل فقيه هذه الأمة.

وكان البخاري صابرا زاهدا، شاكرا كريما، دقيق الورع، وكان لا يشتغل بأمور الناس، كل شغله في العلم والعبادة، وكان يتجنب الدخول على السلاطين والأمراء، وكانت له قطعة أرض يكريها كل سنة بسبع مائة درهم، وكان قليل الأكل، نحيفا، ليس بالطويل ولا بالقصير.

 وكان البخاري يختم في شهر رمضان في النهار كل يوم ختمة، ويقوم بعد التروايح كل ثلاث ليال بختمة!

وقال تلميذه محمد بن أبي حاتم الوراق: كان البخاري يصلي في وقت السحر ثلاث عشرة ركعة.

وقال سليم بن مجاهد: ما رأيت بعيني منذ ستين سنة أفقه، ولا أورع، ولا أزهد في الدنيا من محمد بن إسماعيل البخاري .

وقال بكر بن منير: سمعت البخاري يقول: أرجو أن ألقى الله ولا يحاسبني أني اغتبت أحدا.

قال الذهبي: كان البخاري إماما حافظا، حجة، رأسا في الفقه والحديث، مجتهدا، من أفراد العلم مع الدين والورع والتأله.

وكان البخاري مع علمه مجاهدا في سبيل الله، وكان ماهرا بالرمي، مرابطا في الثغور.

وللبخاري مؤلفات كثيرة أشهرها كتابه الصحيح، ومن مؤلفاته أيضا: التاريخ الكبير (8) مجلدات، والتاريخ الأوسط، والضعفاء الصغير، والأدب المفرد، وخلق أفعال العباد، ورفع اليدين في الصلاة.

نبذة تعريفية مختصرة بكتاب صحيح البخاري

اسم صحيح البخاري هو: الجامع الصحيح المسند من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه.

اعتنى الإمام البخاري رحمه الله في تأليفه للجامع الصحيح عناية بالغة، قال البخاري: صنفت الجامع من ستمائة ألف حديث في ست عشرة سنة، وجعلته حجة فيما بيني وبين الله.

وعدد أحاديث صحيح البخاري (2500) حديث تقريباً بدون تكرار، وعدد أحاديثه مع التكرار (7563).

وقد رتب البخاري صحيحه ترتيبًا مفيدا في كتب متنوعة، وعدد الكتب التي عقدها البخاري في صحيحه (97) كتابًا، بدأها بكتاب بدأ الوحي، فكتاب الإيمان، فكتاب العلم، ثم كتب العبادات من الوضوء والغسل .. إلخ، وتناول في تلك الكتب سائر أحكام الشرع العملية والاعتقادية، ومن الكتب التي عقدها: كتاب تفسير القرآن، وكتاب فضائل القرآن، وكتاب الأدب، وكتاب الدعوات، وكتاب الرقاق، ومما ذكره كتاب أحاديث الأنبياء، وكتاب المناقب، وكتاب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وضمنه: باب مناقب علي بن أبي طالب القرشي الهاشمي أبي الحسن رضي الله عنه، وباب مناقب قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وباب مناقب الحسن والحسين رضي الله عنهما، وباب مناقب فاطمة عليها السلام. وعقد كتاب المغازي لذكر سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وغزواته، ثم ذكر أخيرا: كتاب الفتن وكتاب الأحكام وكتاب التمني وكتاب أخبار الآحاد وكتاب الاعتصام بالكتاب والسنة وختم كتابه بكتاب التوحيد.

وكل كتاب في صحيح البخاري يتضمن أبوابا يذكر فيها البخاري بعض الآيات المناسبة للباب، ويروي في كل باب عددا من الأحاديث بإسناده، ويكرر غالبا الحديث الواحد في أكثر من باب ليستخرج منه بعض الأحكام الفقهية، وبعض الفوائد المستنبطة؛ ولذلك قال العلماء: فقه البخاري في تراجمه، أي: في الأبواب التي عقدها في صحيحه، فهي تدل على فقهه وحسن استنباطه، وقد يذكر البخاري في بعض الأبواب أقوالا لبعض الصحابة والتابعين.

قال البخاري: ما أدخلت في كتابي حديثاً حتى استخرت الله تعالى وصليت ركعتين وتيقنت صحته.

وهذا من البخاري لزيادة التأكد من صحة الأحاديث التي بَذَلَ جهده في اختيارها من أصح اﻷسانيد، وإلا فهو إمام الدنيا في حفظ السنة النبوية وتمييز صحيحها من سقيمها ومعرفة الرواة كما يُعلم ذلك من ترجمته.

وقد وضع الله القبول لكتاب صحيح البخاري بما لا نظير له في الكتب المصنفة، فتلقاه العلماء في مختلف البلدان وعلى مر الأعصار بالرواية والسماع، والنسخ والشرح، والحفظ والدرس، بما لا ترى مثله لأي كتاب آخر بعد كتاب الله.

قال الحافظ ابن كثير: أجمع العلماء على قبول صحيح البخاري وصحة ما فيه.

وقال النووي: اتفق العلماء رحمهم الله على أنَّ أصح الكتب بعد القرآن العزيز: الصحيحان البخاري ومسلم، وتلقتهما الأمة بالقبول، وكتاب البخاري أصحهما، وأكثرهما فوائد ومعارف ظاهرة وغامضة، وقد صحَّ أنَّ مسلماً كان ممن يستفيد من البخاري ويعترف بأنه ليس له نظير في علم الحديث.

وقد أحسن من قال:

صحيح البخـــــــاري لو أنصفــــوه ... لما خُــــطَّ إلا بماء الذهـــــب

هو الفرق بين الهدى والعمى ... هو السَّدُّ بين الفتى والعَطَب

ونختم ترجمة البخاري بما رواه رحمه الله في كتاب الإيمان من صحيحه في باب: حب الرسول صلى الله عليه وسلم من الإيمان:

قال الإمام البخاري: حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال: حدثنا ابن عُلية عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم، وحدثنا آدم بن أبي إياس قال: حدثنا شعبة عن قتادة عن أنس بن مالك قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين)).

توفي البخاري رحمه الله ليلة عيد الفطر في قرية خَرْتَنْك قرب سمرقند سنة 256 هجريةَ وعمره 62 عاما.

 

 

مسلم بن الحَجَّاج القُشَيري النَّيسابوري

قال الذهبي: هو الإمام الكبير، الحافظ، المجوِّد، الحجة، الصادق، أبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القُشَيري النَّيسابوري.

بدأ مسلم بسماع الحديث وكتابته وهو غلام مراهق، وحجَّ بعد بلوغه، وسمع من بعض علماء مكة، ثم رجع إلى وطنه نيسابور، ثم ارتحل إلى العراق، والحرمين، ومصر، فكتب الحديث عن أكابر علماء عصره، وبلغ عدد مشايخه 235 شيخا، ومن أشهر مشايخه الإمام البخاري، فقد أكثر مسلم من مجالسته حين استوطن البخاري نيسابور.

قال شيخه محمد بن بشار: حفاظ الدنيا أربعة: أبو زُرعة بالرَّي، ومسلم بنيسابور، وعبد الله الدارمي بسمرقند، ومحمد بن إسماعيل ببخارى.

وقد كان الحافظان الكبيران أبو زُرعة الرازي وأبو حاتم الرازي يُقدِّمان الإمام مسلما في معرفة الحديث الصحيح على مشايخ عصرهما.

قال النووي: أجمعوا على جلالة مسلم وإمامته، وعلو مرتبته، وحذقه في هذه الصنعة، وتقدمه فيها، وتضلعه منها، ومن أكبر الدلائل على جلالته، وإمامته، وورعه، وحذقه، وقعوده في علوم الحديث، واضطلاعه منها، وتفننه فيها، كتابه الصحيح، الذي لم يُوجد في كتاب قبله ولا بعده من حُسن الترتيب، وتلخيص طرق الحديث بغير زيادة ولا نقصان، والاحتراز من التحويل في الأسانيد عند اتفاقها من غير زيادة، وتنبيهه على ما في ألفاظ الرواة من اختلاف في متن أو إسناد ولو في حرف!

وللإمام مسلم مؤلفات كثيرة أشهرها كتابه الصحيح، ومن مؤلفاته المطبوعة: الكنى والأسماء، ذكر فيه أسماء وكنى (3800) راويا من رواة الحديث، وكتاب التمييز، ذكر فيه أوهام بعض المحدثين، وكتاب المنفردات والوحدان، ذكر فيه (1334) راويا لم يرو عنهم إلا راو واحد فقط، وهذا الكتاب يدل على سعة علم مسلم بأحوال الرواة، حيث ذكر فيه كل راوٍ لم يرو عنه إلا راو واحد، وليس هذا بالأمر الهين إلا على من كان حافظا كبيرا متقنا ذكيا كمسلم رحمه الله.

وقد بلغ عدد طلابه المشهورين الذين أخذوا عنه العلم 35 راويا.

نبذة تعريفية مختصرة بكتاب صحيح مسلم

اسم صحيح مسلم هو: المسند الصحيح المختصر بنقل العدل عن العدل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. 

مكث الإمام مسلم رحمه الله في تأليف كتابه الصحيح المختصر خمس عشرة سنة، قال محمد الماسرجسي: سمعت مسلما يقول: صنفت هذا المسند الصحيح من ثلاث مائة ألف حديث مسموعة.

 وقال مكي بن عبدان: سمعت مسلما يقول: عرضت كتابي هذا المسند على أبي زُرعة، فكل ما أشار علي في هذا الكتاب أن له علة وسببا تركته، وكل ما قال: إنه صحيح ليس له علة فهو الذي أخرجت، ولو أن أهل الحديث يكتبون الحديث مائتي سنة فمدارهم على هذا المسند.

وقال مسلم: ما وضعت في هذا المسند شيئا إلا بحجة، ولا أسقطت شيئا منه إلا بحجة.

وعدد أحاديث صحيح مسلم (3033) حديث.

وقد بدأ مسلم صحيحه بمقدمة مفيدة، وأول حديث في المقدمة رواه مسلم بإسناده عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تكذبوا عليَّ، فإنه من يكذب عليَّ يلِجُ النار))، وقد رتب مسلم أحاديث صحيحه في أكثر من خمسين كتابًا، بدأها بكتاب الإيمان، ثم الطهارة، إلى أن ذكر في أواخر صحيحه كتاب صفة القيامة والجنة والنار ثم كتاب الفتن وأشراط الساعة ثم كتاب الزهد والرقائق وأخيرا كتاب التفسير، وآخر حديث في صحيح مسلم في فضل حمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب وعُبيدة بن الحارث بن عبد المطلب رضي الله عنهم الذين بارزوا المشركين في غزوة بدر، وأنزل الله فيهم: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج: 19]، فبدأ مسلم كتابه بحديثٍ عن علي بن أبي طالب، وختمه بحديثٍ في فضله، وفي أثناء صحيحه ذكر كتاب فضائل الصحابة ثم ذكر أحاديث كثيرة في فضائل علي بن أبي طالب والحسن والحسين وأهل البيت.

ولمسلم طريقة متميزة في صحيحه، فهو يجمع أسانيد الحديث الواحد ويذكر متنه كاملا ورواياته بتفصيل في مكان واحد، مما يُقرِّب الفائدة للمتخصصين في الحديث.  

قال الإمام النووي في مقدمة شرحه لصحيح مسلم: ومن حقَّق نظره في صحيح مسلم رحمه الله واطَّلع على ما أودعه في أسانيده وترتيبه وحسن سياقه وبديع طريقته من نفائس التحقيق وجواهر التدقيق وأنواع الورع والاحتياط والتحري في الرواية وتلخيص الطرق واختصارها وضبط متفرقها وانتشارها وكثرة اطلاعه واتساع روايته وغير ذلك مما فيه من المحاسن والأعجوبات واللطائف الظاهرات والخفيَّات؛ علم أنَّه إمام لا يلحقه من بَعُد عصرُه، وقلَّ من يساويه بل يُدانيه من أهل وقته ودهره، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.

وقال الحافظ ابن حجر: حصل لمسلم في كتابه حظٌ عظيمٌ مفرِطٌ لم يحصل لأحد مثله، بحيث إن بعض الناس كان يُفضِّله على صحيح البخاري؛ وذلك لما اختص به من جمع الطرق، وجودة السياق، والمحافظة على أداء الألفاظ من غير تقطيع ولا رواية بمعنى.

ونختم ترجمة مسلم بحديث واحد من صحيحه وهو الحديث رقم (2673) مع ذكر أسانيد الإمام مسلم إلى هشام بن عروة بن الزبير بن العوام الذي تدور عليه أسانيد هذا الحديث:

قال الإمام مسلم: حدثنا قتيبة بن سعيد قال: حدثنا جرير عن هشام بن عروة عن أبيه عروة بن الزبير قال: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يترك عالما، اتخذ الناس رءوسا جهالا، فسُئِلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا)).

وذكر مسلم أسانيد أخرى لهذا الحديث، فقال: حدثنا أبو الربيع العتكي قال: حدثنا حماد بن زيد عن هشام بن عروة، وقال مسلم أيضا: حدثنا يحيى بن يحيى قال: أخبرنا عباد بن عباد وأبو معاوية عن هشام بن عروة، وقال مسلم أيضا: وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب قالا: حدثنا وكيع عن هشام بن عروة، وقال مسلم أيضا: وحدثنا أبو كريب قال: حدثنا ابن إدريس وأبو أسامة وابن نمير وعبدة عن هشام بن عروة، وقال مسلم أيضا: وحدثنا ابن أبي عمر قال: حدثنا سفيان بن عيينة عن هشام بن عروة، وقال مسلم أيضا: وحدثني محمد بن حاتم قال: حدثنا يحيى بن سعيد الأنصاري عن هشام بن عروة، وقال مسلم أيضا: وحدثني أبو بكر بن نافع قال: حدثنا عمر بن علي عن هشام بن عروة، وقال مسلم أيضا: وحدثنا عبد بن حميد قال: حدثنا يزيد بن هارون قال: أخبرنا شعبة بن الحجاج، كلهم عن هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم.

فهذا الحديث الواحد رواه مسلم من عشرة طرق، وكان أهل الحديث يعدون كل طريق حديثا، فهذا الحديث بهذه الطرق العشرة يُعتبر عند المحدثين عشرة أحاديث وليس حديثا واحدا؛ لأن كل إسناد عندهم حديث مستقل، وكانوا يرحلون من أجل رواية الحديث بإسناد آخر مع حفظهم للحديث بعدة أسانيد، فلم يكن أهل الحديث يكتفون برواية الحديث بإسناد واحد، بل يجمعون طرقه وأسانيده بقدر الطاقة، ثم يقارنون بين الروايات والأسانيد، حتى يتبين لهم أي خطأ في المتن أو في الإسناد.

وليس ما يذكره مسلم في صحيحه من أسانيد للحديث هي جميع أسانيد الحديث، بل هي بعضها، فقد ذكر مسلم في مقدمته أنه جعل كتابه مختصرا، فهو يذكر بعض الأسانيد وليس كل ما عنده من طرق للحديث، وقد ألَّف بعض تلاميذ مسلم وهو أبو عوانة الإسفراييني المتوفى سنة 316 هجرية كتاب المسند الصحيح المخرَّج على صحيح مسلم، وهو مطبوع في (20) مجلدا، وبلغت أحاديثه (11882)، يروي فيه أبو عوانة أحاديث صحيح مسلم من غير طريق مسلم، فيجتمع مع مسلم في شيخه أو من فوقه، مما يقوي الحديث بكثرة طرقه، وربما ساق أبو عوانة للحديث الذي في صحيح مسلم طرقا أخرى إلى الصحابي!!

فرحم الله المحدثين، وجزاهم الله عن المسلمين خير الجزاء، لحفظهم سنة نبينا صلى الله عليه وسلم.

توفي مسلم رحمه الله في نيسابور سنة 261 هجريةَ وعمره 57 عاما تقريبا.

 

 

أبو داود سليمان بن الأشعث الأزْدي السِّجِسْتاني

أصله عربي من قبيلة الأزد اليمنية، وسِجْستان إقليم كبير يقع الآن في الجنوب والجنوب الغربي لأفغانستان، ويمتد إلى بعض مناطق إيران، ويعرف الآن باسم سِيْستان، وقد فتح المسلمون إقليم سجستان في عهد الخليفتين الراشدَين عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان رضي الله عنهما، وقد استوطنها أحد أجداد أبي داود من اليمانيين أيام الفتح الإسلامي، فوُلد أبو داود فيها، ويُنسب إليها فيقال: السِّجِسْتاني، ويقال أيضا في نسبته: السِّجْزي.

رحل أبو داود رحلة واسعة لجمع الحديث النبوي من مشايخ عصره، وقد بلغ عدد شيوخه 470 شيخا، فكتب عنهم الكثير، حتى أنه كتب عن شيخٍ واحدٍ فقط نحو خمسين ألف حديث، وهو شيخه محمد بن بشار البصري، وكان أبو داود يحفظ غيبا مائة ألف حديث بأسانيدها، واستوطن البصرة لنشر العلم النبوي إلى أن توفي.

قال أبو عبد الله الحاكم: أبو داود إمام أهل الحديث في عصره بلا مدافعة، سمع الحديث بمصر والحجاز والشام والعراق وخراسان.

وقال الذهبي: الإمام، شيخ السنة، مقدَّم الحفاظ، أبو داود الأزْدي، السِّجْستاني، محدث البصرة.

وقال أبو بكر الخلال: أبو داود الإمام المقدَّم في زمانه، رجلٌ لم يسبقه إلى معرفته بتخريج العلوم وبصره بمواضعه أحد في زمانه.

وقال أحمد بن محمد بن ياسين: كان أبو داود أحد حفاظ الإسلام لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، في أعلى درجة النسك والعفاف، والصلاح والورع، من فرسان الحديث.

وقال أبو حاتم بن حبان: أبو داود أحد أئمة الدنيا فقها، وعلما وحفظا، ونسكا وورعا وإتقانا، جمع وصنَّف، وذب عن السنن.

وقال النووي: اتفق العلماء على الثناء على أبي داود، ووصفه بالحفظ التام، والعلم الوافر، والإتقان والورع والدين، والفهم الثاقب في الحديث وغيره.

وقال ابن تيمية: البخاري وأبو داود إمامان في الفقه من أهل الاجتهاد.

وقال الصاغاني: لِين لأبي داود السجستاني الحديث كما لِين لداود عليه السلام الحديد!

وقال الحافظ موسى بن هارون: ما رأيت أفضل من أبي داود.

نبذة تعريفية مختصرة بكتاب السنن لأبي داود

قال أبو بكر بن داسة: سمعت أبا داود يقول: كتبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس مائة ألف حديث، انتخبت منها ما ضمنته هذا الكتاب يعني: كتاب السنن، جمعت فيه أربعة آلاف حديث وثماني مائة حديث، ذكرت الصحيح، وما يشبهه ويقاربه، فإن كان فيه وهن شديد بينته.

وقد ألف أبو داود كتابه السنن وهو مرابط للجهاد في طرسوس في جنوب تركيا، وكانت ثغرا على حدود بلاد الروم، قال أبو داود: أقمت بطرسوس عشرين سنة، كتبت المسند، وكتبت أربعة آلاف حديث لمن وفقه الله.

وعدد أحاديث كتاب السنن لأبي داود (5274) حديثا كما في طبعة المحقق: محمد محيي الدين عبد الحميد، وأكثر أحاديث كتاب السنن لأبي داود في الأحكام الفقهية، وقد رتبه أبو داود في أكثر من 40 كتابا، أوله كتاب الطهارة، وآخره كتاب الأدب.

قال الإمام الخطابي: كتاب السنن لأبي داود كتاب شريف، لم يصنَّف في علم الدين كتابٌ مثله، وقد رُزِق القبول من الناس كافة، فصار حكما بين فرق العلماء وطبقات الفقهاء على اختلاف مذاهبهم، وقد جمع أبو داود في كتابه هذا من الحديث في أصول العلم، وأمهات السنن، وأحكام الفقه، ما لا نعلم متقدما سبقه إليه، ولا متأخرا لحقه فيه.

وقال الحافظ ابن أبي القراميد: خير كتاب أُلِّف في السنن كتاب أبي داود السجستاني.

وقال الإمام الغزالي: كتاب أبي داود كافٍ للمجتهد.

وقال الإمام القاسم بن يوسف التجيبي: هذا الكتاب هو كتاب الفقهاء أصحاب المسائل؛ لأنهم يجدون فيه ما يحتاجون إليه في كل باب من أبواب الفقه، مما يشهد لهم بصحة ما ذهبوا إليه، وليس يوجد في كتب السنة مثله في هذا الفن.

وقال الحافظ الذهبي: كان أبو داود مع إمامته في الحديث وفنونه من كبار الفقهاء، فكتابه يدل على ذلك، وهو من نجباء أصحاب الإمام أحمد، لازم مجلسه مدة، وسأله عن دقاق المسائل في الفروع والأصول.

وقال الحافظ زكريا الساجي: كتاب الله أصل الإسلام، وكتاب أبي داود عهد الإسلام.

وقد بلغ عدد طلاب أبي داود المشهورين 50 طالبا ممن كتب عنه الحديث، وأشهر من روى عنه كتاب السنن أربعة:

أبو علي اللؤلؤي، المتوفى سنة 333 هجرية، قرأ كتاب السنن على أبي داود مرات كثيرة في مدة عشرين سنة، وكان يُدعى ورَّاق أبي داود.

وأبو بكر بن داسه البصري التمار، المتوفى سنة 346 هجرية، وهو آخر من حدَّث الناس بكتاب السنن كاملا عن مؤلفه أبي داود. 

وأحمد بن الأعرابي، المتوفى سنة 340 هجرية.

وأبو الحسن علي بن العبد الوراق، المتوفى سنة 328 هجرية، سمع كتاب السنن من أبي داود ست مرات.

ولأبي داود كتاب المراسيل، ذكر فيه (544) من الأحاديث التي أرسلها التابعون عن النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة من غير ذكر من حدَّثهم بها، وهو كتاب عظيم في بابه، لم يفرده أحد بالتأليف غير أبي داود، وقد رتب تلك الأحاديث على الأبواب الفقهية، مثال ذلك:

قال أبو داود في كتاب المراسيل رقم (99): حدثنا مسدد عن هُشيم عن حُصين عن معاذ بن زهرة أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أفطر قال: ((اللهم لك صمت، وعلى رزقك أفطرت)). فهذا الحديث مرسل، والمرسل ضعيف عند أهل الحديث، فقد رواه التابعي معاذ بن زهرة عن النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة، ولم يذكر من حدَّثه به من الصحابة أو من التابعين، ومثل هذا يتوقف أهل الحديث في صحته، ويحكمون بضعفه على غالب الظن، ولا يجزمون بنسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك لا يجزمون بإنكاره، بل يتوقفون في تصحيحه إلا أن يجدوه مرويا من طريق آخر يصلح للشواهد فيحكموا له حينئذ بالصحة، فإن لم يوجد له إسناد آخر فهو ضعيف، وهذا من تثبت أهل الحديث وعدم تساهلهم، والثابت في الدعاء عند الفطر ما رواه أبو داود في سننه في باب القول عند الإفطار حديث رقم (2357) قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن يحيى قال: حدثنا علي بن الحسن قال: أخبرني الحسين بن واقد قال: حدثنا مروان بن سالم المقفع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أفطر قال: ((ذهب الظمأ، وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله)).

ولأبي داود كتاب الزهد، وهو كتاب مطبوع كثير الفوائد، ذكر فيه خمسمائة رواية فيها بعض أقوال وأخبار الزهاد من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، يرويها أبو داود بالأسانيد.

توفي أبو داود رحمه الله في البصرة سنة 275 هجرية وعمره 73 عاما، ودُفن إلى جانب قبر أمير المؤمنين في الحديث سفيان الثوري.

 

أحمد بن شعيب النَّسائي

قال الذهبي: الإمام، الحافظ، الثبت، شيخ الإسلام، ناقد الحديث، أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب الخراساني، النَّسائي، صاحب كتاب السنن، وُلد بنَسا [من مدن خراسان]، وطلب العلم في صغره، ورحل إلى خراسان [بلاد واسعة تشمل حاليا الشمال الشرقي من إيران وبعض أفغانستان]، والحجاز، ومصر، والعراق، والجزيرة، والشام، والثغور.

وممن رحل إليهم النسائي الحافظ الكبير قتيبة بن سعيد، رحل النسائي إليه وعمره خمسة عشر عاما، فأقام عنده ببغلان [من نواحي مدينة بلخ في أفغانستان] سنة وشهرين، فكتب عنه حديثا كثيرا.

قال الذهبي: كان النسائي من بحور العلم، مع الفهم، والإتقان، والبصر، ونقد الرجال، وحسن التأليف. ثم استوطن مصر، ورحل الحفاظ إليه، ولم يبق له نظير في هذا الشأن، وكان شيخا مهيبا، نضِر الوجه مع كبر سنه، ولم يكن أحد في رأس سنة ثلاثمائة أحفظ من النسائي، وهو أحذق بالحديث وعِلَله ورجاله من مسلم، ومن أبي داود، ومن الترمذي، وهو جارٍ في مضمار البخاري وأبي زُرعة الرازي.

قال أبو الحسن الدارقطني: أبو عبد الرحمن النسائي مقدَّم على كل من يُذكر بهذا العلم من أهل عصره، لا أقدِّم على النسائي أحدًا، وكان أفقه مشايخ مصر في عصره، وأعلمهم بالحديث والرجال، وأعرفهم بالصحيح والسقيم من الآثار، ولم يكن في الورع مثله.

وقال الحاكم: هو أحد الأئمة الحفاظ العلماء، لقي المشايخ الكبار.

وقد بلغ عدد شيوخ النسائي في الحديث 449 راويا، ولم يكن النسائي محدثا فقط، بل كان عالما بالقرآن، فقيها، قاضيا، وهو ممن أخذ القرآن عن أبي شعيب السوسي راوي قراءة أبي عمرو البصري أحد القراء السبعة، وتولى النسائي القضاء بمصر وحمص، وتبويبات كتابه السنن تدل على إمامته في الفقه، قال الحاكم: كلام النسائي على فقه الحديث كثير، ومن نظر في سننه تحير في حسن كلامه!

وقد بلغ عدد طلاب النسائي المشهورين 57 راويا، منهم: أبو جعفر الطحاوي، وأبو علي النيسابوري، وحمزة الكناني، وأبو جعفر النحاس النحوي، وأبو بكر أحمد بن محمد بن السني، والحافظ الكبير أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني صاحب المعاجم الثلاثة: الكبير والأوسط والصغير.

وكان النسائي ممن جمع بين العلم والعبادة، قال الحافظ محمد بن المظفر: سمعت مشايخنا بمصر يصفون اجتهاد النسائي في العبادة بالليل والنهار، وأنه خرج مع أمير مصر إلى طرسوس لفداء أسرى المسلمين من الروم، فوصف من شهامته، وإقامته السنن المأثورة في فداء المسلمين، واحترازه عن مجالس السلطان الذي خرج معه.

وكان النسائي كثير المحبة لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب كغيره من علماء الحديث، وصنف كتاب خصائص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وذكر أن سبب تأليفه أنه دخل دمشق فوجد كثيرا من أهلها يجهلون فضائل علي رضي الله عنه، فصنف كتاب الخصائص ورجى من الله أن يهديهم بسبب كتابه، وقد روى في كتاب خصائص أمير المؤمنين علي (194) رواية مما يرويه أهل الحديث بالأسانيد في فضائل علي رضي الله عنه.

وللنسائي كتب كثيرة مطبوعة، منها: السنن الكبرى، والسنن الصغرى، وكتاب تسمية فقهاء الأمصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم، وكتاب فضائل الصحابة، وكتاب خصائص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وكتاب الضعفاء والمتروكون، وكتاب المدلسين.

نبذة تعريفية مختصرة بكتاب السنن للنسائي   

كتاب السنن الصغرى للنسائي أحد كتب الحديث الستة المشهورة، وهو مختصر من كتاب السنن الكبرى، ويسمى المجتبى، وهو من تأليف النسائي نفسه، انتقاه من كتابه السنن الكبرى، وقيل: إن الذي انتقاه هو ابن السني تلميذ النسائي، وهو الراوي لكتاب السنن الصغرى عن النسائي، وكتاب السنن الصغرى مطبوع في 8 مجلدات، وعدد الأحاديث والآثار فيه (5758)، وفيه 51 كتابا، أولها كتاب الطهارة، وآخرها كتاب الأشربة، وهو أصح كتب السنن، وأكثرها حديثا صحيحا، وأقلها حديثا ضعيفا.

أما كتاب السنن الكبرى للنسائي فمطبوع في 10 مجلدات، وعدد الأحاديث والآثار فيه (11949)، وفيه 58 كتابا، أولها كتاب الطهارة، وآخرها كتاب الملائكة، وفيه بعض الكتب التي أُفردت بالطباعة مثل: كتاب خصائص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وكتاب عمل اليوم والليلة، وكتاب فضائل القرآن، فهذه الكتب ضمن كتاب السنن الكبرى، وقد روى السنن الكبرى عن النسائي عدة رواة ثقات من تلاميذه، أشهرهم: ابن الأحمر، وابن السني، وابن الصوفي، وعبدالكريم ابن النسائي.

ونختم ترجمة النسائي بحديث من كتابه السنن الصغرى، كتاب الاستعاذة، باب الاستعاذة من الشقاق، والنفاق، وسوء الأخلاق، حديث رقم (5470)، قال النسائي رحمه الله: أخبرنا قُتيبة قال: حدثنا خَلَف عن حفص عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو بهذه الدعوات: ((اللهم إني أعوذ بك من علمٍ لا ينفع، وقلبٍ لا يخشع، ودعاءٍ لا يُسمع، ونفسٍ لا تشبع))، ثم يقول: ((اللهم إني أعوذ بك من هؤلاء الأربع)).

توفي النسائي رحمه الله في فلسطين وهو متجه إلى الحج سنة 303 هجرية، وقيل: إنه وصل إلى مكة وهو مريض فمات بها، وعمره 88 عاما.

 

 

محمد بن عيسى التِّرْمِذي

قال الذهبي: هو أبو عيسى محمد بن عيسى بن سَوْرة الترمذي، الحافظ، العَلَم، الإمام، البارع، مصنف كتاب الجامع، وكتاب العِلل، وغير ذلك، عمي في كبره بعد رحلته وكتابته العلم.

بلغ عدد شيوخه 216، وأشهر مشايخه البخاري، وقد أكثر من الرواية عنه وسؤاله عن علل الأحاديث وأحوال الرواة، وقد شارك البخاري في الرواية عن بعض شيوخه.

قال ابن حبان في كتابه الثقات: كان أبو عيسى ممن جمع، وصنف، وحفظ، وذاكر.

وقال أبو سعد الإدريسي: كان أبو عيسى يُضرب به المثل في الحفظ.

وقال الحاكم: سمعت عمر بن عَلَّك الجوهري يقول: مات البخاري فلم يُخلِّف بخراسان مثل أبي عيسى الترمذي في العلم والحفظ، والورع والزهد، بكى حتى عمي، وبقي ضريرا سنين.

نبذة تعريفية مختصرة بكتاب السنن للترمذي

اسم كتاب الترمذي: الجامع الكبير، ويسمى جامع الترمذي، ويسمى أيضا سنن الترمذي، عدد أحاديثه (3956) حديثا، رتبه الترمذي على الأبواب الفقهية، فبدأه بأبواب الطهارة ثم أبواب الصلاة وبقية العبادات، إلى أن ذكر في أواخره أبواب فضائل القرآن وأبواب القراءات وأبواب تفسير القرآن وأبواب الدعوات ثم ختمه بأبواب المناقب، وذكر في المناقب فضل النبي صلى الله عليه وسلم، ومناقب أبي بكر الصديق، ومناقب عمر بن الخطاب، ومناقب عثمان بن عفان، ومناقب علي بن أبي طالب، ثم ذكر مناقب بقية العشرة المبشرين بالجنة، ومناقب الحسن بن علي بن أبي طالب والحسين بن علي بن أبي طالب، ومناقب أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، ومناقب غيرهم من الصحابة الكرام رضي الله عنهم أجمعين، وختم أبواب المناقب بباب فضل الشام واليمن.

قال الترمذي: صنفت هذا الكتاب وعرضته على علماء الحجاز والعراق وخراسان فرضوا به، ومَنْ كان هذا الكتاب في بيته فكأنما في بيته نبي يتكلم.

قال ابن الأثير: كتاب الترمذي أحسن الكتب، وأكثرها فائدة، وأحسنها ترتيبًا، وأقلها تكرارًا، وفيه ما ليس في غيره من ذكر المذاهب، ووجوه الاستدلال، وتبيين أنواع الحديث من الصحيح، والحسن، والغريب، وفيه جرح وتعديل، وفي آخره كتاب العلل، قد جمع فيه فوائد حسنة لا يخفى قدرها على من وقف عليها.

قال الذهبي: في كتاب جامع الترمذي علم نافع، وفوائد غزيرة، ورؤوس المسائل، وهو أحد أصول الإسلام، لولا ما كدَّره بأحاديث واهية، وكتابه قاضٍ له بإمامته وحفظه وفقهه، ولكنه يترخص في قبول الأحاديث الضعيفة ولا يُشدِّد.

وسنختم ترجمة الترمذي بثلاثة أحاديث من كتابه السنن ليعرف القارئ طريقة الترمذي في التصحيح والتضعيف وفي ذكر أقوال الفقهاء:

الحديث الأول: قال الترمذي (2660) في أبواب العلم باب ما جاء في تعظيم الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم: حدثنا إسماعيل بن موسى الفزاري ابن بنت السدي قال: حدثنا شريك بن عبد الله عن منصور بن المعتمر عن ربعي بن حراش عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تكذبوا عليَّ؛ فإنه من كذب عليَّ يلج في النار)). وفي الباب عن أبي بكر، وعمر، وعثمان، والزبير، وسعيد بن زيد، وعبد الله بن عمرو، وأنس، وجابر، وابن عباس، وأبي سعيد، وعمرو بن عبسة، وعقبة بن عامر، ومعاوية، وبريدة، وأبي موسى، وأبي أمامة، وعبد الله بن عمر، والمنقع، وأوس الثقفي. حديث عليٍّ حديث حسن صحيح، قال عبد الرحمن بن مهدي: منصور بن المعتمر أثبت أهل الكوفة. وقال وكيع: لم يكذب رِبْعي بن حِراش في الإسلام كذبة. انتهى كلام الترمذي بلفظه، ومعنى قول الترمذي: وفي الباب عن فلان وفلان، أن هذا الحديث رواه أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم أولئك الصحابة الذين عدَّد الترمذي أسماءهم، ولم يذكر رواياتهم اختصارا، فهذا الحديث أفاد الترمذي بأنه رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم عشرون صحابيا، وهذا يدل على سعة حفظ الترمذي، ومعرفته بشواهد الحديث ورواياته، وعلماء الحديث يروون كل حديث منها بالأسانيد، ومن أراد الاطلاع على أسانيدها ومتونها فليرجع إلى شرح سنن الترمذي للمباركفوري، أو إلى كتاب نزهة الألباب في قول الترمذي وفي الباب للشيخ المحدث حسن حيدر الوائلي الصنعاني، وهو مطبوع في ستة مجلدات.

الحديث الثاني: قال الترمذي (2916) في أبواب فضائل القرآن: حدثنا عبد الوهاب بن الحكم الوراق البغدادي قال: حدثنا عبد المجيد بن عبد العزيز عن ابن جُريج عن المطَّلب بن عبد الله بن حنطب عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عُرِضتْ عليَّ أجور أمتي حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد، وعُرِضت عليَّ ذنوب أمتي، فلم أر ذنبا أعظم من سورة من القرآن أو آية أُوتيها رجل ثم نسيها)). هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وذاكرت به محمد بن إسماعيل [البخاري] فلم يعرفه واستغربه، قال محمد [هو البخاري]: ولا أعرف للمطلب بن عبد الله بن حنطب سماعا من أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلا قوله: حدثني من شهد خطبة النبي صلى الله عليه وسلم. قال: وسمعت عبد الله بن عبد الرحمن [الدارمي] يقول: لا نعرف للمطلب سماعا من أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. قال عبد الله [الدارمي]: وأنكر علي بن المديني أن يكون المطلب سمع من أنس. انتهى.

فهذا الحديث رواه الترمذي وضعفه، ونقل تضعيفه عن الإمامين البخاري والدارمي، فقد تفرد بروايته المطلب عن أنس بن مالك، ولا يُعرف أن أحدا من أصحاب أنس رواه عن أنس، ولا يعرف المحدثون للمطلب سماعا من أنس بن مالك، وهذا مما يوجب التوقف في صحة الحديث، وأيضا توجد فيه علة أخرى، وهي أنه تفرد بروايته ابن جُريج عن المطلب، ولم يصرح ابن جريج بالسماع منه، بل قال: عن المطلب، فيُخشى تدليسه، ولهذا قال الترمذي: لا نعرفه إلا من هذا الوجه، واستغربه هو وشيخه البخاري؛ لأنه لا يُروى من طرق أخرى، فبسبب هذه العِلَل حكم المحدثون بضعف هذا الحديث، والله أعلم.  

الحديث الثالث: قال الترمذي (34) في أبواب الطهارة باب ما جاء أن مسح الرأس مرة: حدثنا قتيبة قال: حدثنا بكر بن مضر عن ابن عجلان عن عبد الله بن محمد بن عَقيل عن الرُّبَيِّع بنت معوِّذ ابن عفراء أنها رأت النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ، قالت: مسح رأسه، ومسح ما أقبل منه، وما أدبر، وصدغيه، وأذنيه مرة واحدة. وفي الباب عن علي بن أبي طالب، وجد طلحة بن مصرف. حديث الرُّبَيِّع حديث حسن صحيح، وقد روي من غير وجه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مسح برأسه مرة. والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم، وبه يقول: جعفر بن محمد [هو الملقب الصادق]، وسفيان الثوري، وابن المبارك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، رأوا مسح الرأس مرة واحدة. حدثنا محمد بن منصور قال: سمعت سفيان بن عيينة يقول: سألت جعفر بن محمد [الصادق] عن مسح الرأس أيجزئ مرة؟ فقال: إي والله.

توفي الترمذي رحمه الله في ترمذ سنة 279 هجرية وعمره 70 عاما تقريبا.

 

 

 

محمد بن يزيدَ ابنُ ماجَهْ القَزْوِيني

ماجَهْ: بفتح الجيم وهاء ساكنة، هو لقب والده يزيد، والقَزويِني نسبة إلى قَزوين، وهي مدينة تقع في الشمال الغربي من طهران عاصمة إيران، وفي شمالها يقع بحر قزوين.

بدأ ابن ماجه بكتابة الحديث من صغره، وسافر في طلب الحديث إلى أكابر علماء عصره، فارتحل إلى الرَّي (طهران) وإلى نيسابور، وإلى العراق، ومكة، والشام، ومصر، وقد بلغ عدد شيوخه في الحديث 318 شيخا، ولقي في سفره كثيرا من الفقهاء والقراء المشهورين، فاستفاد منهم علما غزيرا.

قال الذهبي: أبو عبد الله بن ماجه القزويني الحافظ، الكبير، الحجة، المفسر، مصنف السنن، والتاريخ، والتفسير، حافظ قزوين في عصره، كان ناقدا صادقا، واسع العلم.

وقال أبو يعلى الخليلي: هو ثقةٌ كبير، محتجٌ به، له معرفة بالحديث وحفظ.

وقال المزي: ابن ماجه القزويني الحافظ، صاحب كتاب السنن، ذو التصانيف النافعة، والرحلة الواسعة.

وقال ابن الأثير: كان عاقلا إماما عالما.

وقال عبد الكريم الرافعي في كتابه أخبار قزوين: ابن ماجه إمام من أئمة المسلمين، كبيرٌ، متقنٌ، مقبولٌ بالاتفاق، صنف التفسير والتاريخ والسنن، ويقرن سننه بالصحيحين وسنن أبي داود والنسائي وجامع الترمذي.

وقد شارك ابن ماجه البخاري ومسلما في كثير من شيوخهما كمحمد بن بشار الملقب بُنْدار، ومحمد بن المثنى، وأبي بكر بن أبي شيبة، وأبي كُريب محمد بن العلاء الهمداني، ومحمد بن عبد الله بن نُمير، وغيرهم.

نبذة تعريفية مختصرة بكتاب السنن لابن ماجه

ألف ابن ماجه كتابا في الحديث أسماه كتاب السُّنن، وعرضه على الحافظ الكبير أبي زرعة الرازي فنظر فيه، وأثنى عليه، وعدد أحاديث سنن ابن ماجه (4341) حديثا، وقد رتبه ابن ماجه على 37 كتابا، وكل كتاب يتضمن أبوابا كثيرة، قال أبو الحسن القطان: في كتاب السنن لابن ماجه ألف وخمس مائة باب. وقد بدأ ابن ماجه كتابه السنن بأحاديث في اتباع السنة النبوية وفي الإيمان وفضائل الصحابة والعلم، ثم ذكر كتاب الطهارة وسننها ثم الصلاة إلى أن ختم كتابه بكتاب الزهد.

قال الحافظ ابن طاهر: كتاب ابن ماجه من نظر فيه علم مزيَّة الرجل من حسن الترتيب وغزارة الأبواب.

وقال الحافظ ابن كثير: ابن ماجه صاحب السنن المشهورة، الدالة على علمه وعمله، وتبحره واطلاعه، واتباعه للسنة في الأصول والفروع، وكتابه مفيد، قوي التبويب في الفقه.

وقال الحافظ ابن حجر: كتابه السنن جامعٌ جيد، كثير الأبواب والغرائب.

وقد استوعب ابن ماجه في كتابه أهم الأحاديث النبوية في العقيدة والعبادات والمعاملات والأدب والزهد، لكنه لم يكتف برواية الأحاديث الصحيحة فقط كما فعل البخاري ومسلم في كتابيهما الصحيحين، بل يروي الأحاديث الصحيحة والضعيفة والواهية، وهو يرويها بالأسانيد التي سمعها من شيوخه، فهو وغيره من المحدثين كانوا في عصر تدوين السنة النبوية، فكان لا بد أن يكتبوا كل ما يُروى بالأسانيد، ومن أسند لك فقد أحالك، وكتابتهم لجميع الأحاديث الصحيحة والضعيفة من محاسنهم، حتى تضمن الأمة حفظ السنة النبوية، ولا يخفى على أهل الحديث المتخصصين التمييز بين الأحاديث الصحيحة والضعيفة عند النظر في أسانيدها ومتونها وجمع طرقها، وبعض الأحاديث المروية بأسانيد ضعيفة ينجبر ضعفها بورودها من طرق أخرى، فيحكم المحدثون بصحتها، وفي معرفة الأحاديث الضعيفة فوائد كثيرة، منها معرفة أدلة الفقهاء في بعض المسائل الاجتهادية المختلَف فيها، فيعرف الباحث عند المقارنة بين الأقوال دليل كل قول، ويعرف سبب ضعف الحديث الضعيف بالنظر في إسناده الذي حفظه لنا علماء الحديث في كتبهم.

ونختم الترجمة بذكر حديث صحيح رواه ابن ماجه في كتاب الزهد في باب ذكر الذنوب، حديث رقم (4245)، قال رحمه الله: حدثنا عيسى بن يونس الرملي قال: حدثنا عقبة بن علقمة بن حَدِيج المعافري عن أرطاة بن المنذر عن أبي عامر الألهاني عن ثوبان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لأعْلَمَنَّ أقواما من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بِيضًا، فيجعلها الله عز وجل هباء منثورا!))، قال ثوبان: يا رسول الله صِفْهم لنا، جلِّهم لنا، أن لا نكون منهم، ونحن لا نعلم! قال: ((أما إنهم إخوانكم، ومن جِلْدتكم، ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها)).

توفي ابن ماجه رحمه الله في قزوين سنة 273 هجرية وعمره 64 عاما.

 

 

 

محمد بن علي بن جميل المطري

دكتوراه في الدراسات الإسلامية وإمام وخطيب في صنعاء اليمن

  • 0
  • 0
  • 0

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً