ركام الأوهام!
العلم الشرعي ليس مجرد معارف صماء، ولا معلومات متراكمة! وإنما هو عبادة شريفة من جملة القربات، وروحٌ تسري في النفس، ورحمة تَصِلُ الخلق بالحق، ونور يهدي به الله من يشاء من عباده إلى صراط مستقيم!
رأيت بعضهم في أوائل سِنيِّ الطلب يُسلِمُ عقله لشباب أغمار لم تنضج تجربتهم، فيجلسونه بمهارة على موائد البغي، ويديرون له كؤوس الغيبة، ويعلمونه فنون نهش الأعراض، ويسوِّغون له الإيغال في لحوم أهل العلم، فأدركتني الشفقة على هذا الفتى الواقف فوق ركام الأوهام، ففي غدٍ القريب سيعض أصابع الندم، ولكن بعد فوات زهرة العمر، وذلك حين يدرك مدى جناية هؤلاء على نشأته الأولى!
كان أيوب السختياني يقول: إن من سعادة الحَدَث والأعجمي أن يوفقهما الله لعالم من أهل السنة.
قلت: ومن بؤس الفتى والأعجمي أن يستفتح أحدهما طريق العلم بإفناء الطاقة وإرخاء السمع لمن يستحلي ثلب الأكابر، فإنه لا يلبث إلا أن يجعل لسانَ هذا الفتى مِقراضَ أعراض، وقلبَه مستودع أمراض، وجوارحَه عاطلة عن حلية العمل!
ثم سرح خاطري بعيدًا مع تجربة حكاها ابن الجوزي مع مشايخه الذين جالسهم، ومن الذين تحقق له الانتفاع الحقيقي بعلمهم، وذلك رغم كونهم أقل علمًا من غيرهم!
يقول أبو الفرج:
(لقيت مشايخ أحوالهم مختلفةٌ، يتفاوتون في مقاديرهم في العلم، وكان أنفعهم لي في صحبةٍ العاملُ منهم بعلمه، وإن كان غيره أعلمَ منه.
• ولقيت جماعةً من أهل الحديث يحفظون ويعرفون، ولكنهم كانوا يتسامحون في غيبةٍ يخرجونها مخرج جرحٍ وتعديلٍ، ويأخذون على قراءة الحديث أجرًا، ويُسرعون بالجواب لئلّا ينكسر الجاه، وإن وقع خطأ!
• ولقيت عبدالوهَّاب الأنماطي؛ فكان على قانون السلف، لم يُسْمَع في مجلِسهِ غيبةٌ، ولا كان يطلبُ أجرًا على إسماع الحديث، وكنتُ إذا قرأتُ عليه أحاديث الرقائق بكى، واتَّصل بكاؤه!
• فكان -وأنا صغير السنِّ حينئذٍ– يعملُ بكاؤه في قلبي، ويبني قواعد.
• ولقيت أبا منصور الجواليقي؛ فكان كثير الصمت، شديد التحرِّي فيما يقول، متقناً محقِّقًا، ورُبَّما سُئل المسألة الظاهرة، التي يبادر بجوابها بعض غلمانه فيتوقَّف فيها حتى يتيقَّن، وكان كثير الصوم والصمت.
• فانتفعت بهذين الرجلين أكثر من انتفاعي بغيرهما؛ ففهمتُ من هذه الحالة: أنَّ الدليل بالفعل أرشد من الدليل بالقول.
فالله الله في العمل بالعلم فإنه الأصل الأكبر، والمسكين كل المسكين: من ضاع عمره في علمٍ لم يعمل به؛ ففاته لذات الدنيا، وخيرات الآخرة؛ فقدم مفلساً مع قوَّة الحجَّة عليه).
فعليك بما يعود عليك بالنفع في علمك وإيمانك، ولا تخدعنّك ركام الأوهام عن رؤية حقائق الأمور، فالعلم الشرعي ليس مجرد معارف صماء، ولا معلومات متراكمة! وإنما هو عبادة شريفة من جملة القربات، وروحٌ تسري في النفس، ورحمة تَصِلُ الخلق بالحق، ونور يهدي به الله من يشاء من عباده إلى صراط مستقيم!
________________________________
الكاتب: د.سليمان العبودي
- التصنيف: