ثمرات أنصاف الحلول

منذ 18 ساعة

إن أنصاف الحلول ليست ترفًا، ولا هروبًا، بل هي أحيانًا قمّة الوعي، ولبُّ الفقه بالحياة، وتلك هي سِمَة الكبار، الذين لم ينكسروا، ولم يتعجرفوا، بل فقط نضجوا.

 يا صاحبي..

كلما تَقدّم بك العمر خطوة، واتسع صدرك للحياة شِبْرًا، ازداد يقينك أنّ هذه الدنيا ليست ساحةً مثالية تُدار بقوانين الرياضيات، ولا هي خشبةَ مسرحٍ لا يُسمح فيها إلا بالنصّ الكامل والأداء الكامل، بل هي حياة؛ والحياة ظلٌّ مائل، وخُطا متعثّرة، وهموم لا تستأذن، ورضا منقوص، وسعادة مشوبة.

في بدايات العمر، كان القلبُ يرفض المهادنة، وكان العقل لا يعرف التدرّج، وكانت الأحكام تُطلَق دفعةً واحدة: إمّا بياضًا ناصعًا، أو سوادًا قاتمًا، فإذا كبُر المرء، ونضجت فيه التجربة، وأوشكت النار أن تهدأ تحت الرماد، أدرك أن الحياة لا تمضي على صراطٍ مستقيم من الخيارات المثالية، بل على جسورٍ متقطّعة من التنازل الجميل، والرضا الجزئي، والسعي المُجتزَأ.

ومن أبهى شواهد هذا المعنى في سيرة النبوة: صلح الحديبية؛ ذلك الصلح الذي قبله النبي صلى الله عليه وسلم، رغم ما فيه من ظاهر الإجحاف للمسلمين، ولقد تنازل فيه النبي عن كتابة “رسول الله” في الوثيقة، وقَبِل أن يعود عن العمرة التي أحرم لأجلها، ويردّ من جاءه مسلمًا من قريش، ولا يُردّ إليه من ارتدّ عن الإسلام إليهم! وكلّها كانت ـ في موازين ذلك الزمن ـ أنصاف حلول بدت كأنها انكسار.

لكن الأيام أثبتت أن الحديبية كانت فتحًا مبينًا، فتحًا لم يكن بالسيف، بل بالحكمة النبوية، فتحًا لم يكن في مرمى البصر، بل في مدى البصيرة، ولقد علّمنا الحبيب في هذا الموقف العظيم أن الرضا بأنصاف الحلول، حين تكون المآلات مرعيّة، هو عينُ القيادة، ولبّ التوكل.

وكان يظنّ المرء في مطالع الشباب، أن العلاقات لا بد أن تكون كما كتبها الشعراء: صفاءً لا يعكّره غبار، ووفاءً لا يخونه تردّد، ثم إذا كبر وعركته الحياة، أدرك أن العلاقة التي تشوبها شوائب، ثم تصفو، ثم تعود فتضطرب، لكنها تبقى؛ هي خيرٌ من القطيعة المجلّلة بالنقاء.

وكان يظن أن راحته النفسية مشروطة بأن يُرتّب فوضاه كلها: يقفل ملفات الماضي، ويسوّي كل خصومة، ويُرضي كل من خاصمه، ثم أدرك أن بعض الأبواب خُلقت لتُغلق دون وداع، وأن بعض الندوب لا تلتئم، لكنها لا تنزف.. وكفى بها علاجًا.

وترى نفسك يومًا تقف عند مفترق قرار، فترغب في المشروع الكامل، والخطّة المحكمة، واليقين التام، ثم تتذكّر أن نصفَ خطوةٍ في طريق الحق، خيرٌ من انتظار الوضوح الكامل، وهكذا تمضي بمشروعٍ ناقص، لكنه قائم، وبحلمٍ غير مكتمل، لكنه يُثمِر.

في صغر سنك، تؤمن أن الحق لا يكون إلا أبيضَ ناصعًا، وأن الخير لا يُقبَل إلا كاملًا، وأن الصواب لا يُطاق إلا إذا اكتمل على عينك ووفق تصوّرك، ثم تكبر، ويشتد عود التجربة فيك، وتكتشف أن أنصاف الحلول، في كثير من الأحيان، هي الحلول الكاملة.

وترى الصديق الذي لا يُحسن التعبير، ولا يعرف أن يواسيك بالكلام، لكنه يجيء في أشد اللحظات، صامتًا، حاضرًا بفعله؛ فتدرك أنه نصف صديقٍ في البيان، لكنه صديق كاملٌ في الوفاء.

حتى في الإيمان، تظنّ أول أمرك أن المؤمن لا بد أن يكون في يقين أبي بكر، وفي زهد الحسن، وفي دمعة الفُضيل، ثم تدرك بعد مشقة أن الناجين ليسوا الكاملين فحسب، بل أولئك المذنبين الذين لم يُغلقوا أبواب التوبة، الذين مشَوا إلى الله وإن عرجت خُطاهم، الذين اختاروا المضيَّ بنصف طريق بدل التيه الكامل.

هكذا تُعلِّمك الأيام أن “الوسط” ليس خيانةً للمبدأ، بل انحناءة نُبلٍ في مهبّ رياح الضرورة، وأن “التنازل” ليس ضعفًا، بل بُعدُ نظرٍ يختصر الطريق، وأن “القبول الناقص” هو في بعض المواطن، أرقى صور الامتنان.

نعم، إن أنصاف الحلول ليست ترفًا، ولا هروبًا، بل هي أحيانًا قمّة الوعي، ولبُّ الفقه بالحياة، وتلك هي سِمَة الكبار، الذين لم ينكسروا، ولم يتعجرفوا، بل فقط نضجوا.

وفي نهاية الأمر، الركنُ الذي احتمى فيه الناجون، لم يكن قصرًا متكاملَ الزينة، بل كان كِسرةَ بابٍ فُتحت لهم، فدخلوا منها، وبكوا على العتبة، وانتظروا النور.

وهذا يكفي.

  • 1
  • 0
  • 81

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً