ترك الصحابة لبعض المشروع

منذ يوم

فائدة: الصحابة والتابعون كانوا أحيانا يتركون بعض ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من السنة ليبينوا للناس أنه غير واجب، أو لكون الأمر واسعا، أو لكونه من خلاف التنوع، ولنأخذ بعض الأمثلة:

فائدة: الصحابة والتابعون كانوا أحيانا يتركون بعض ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من السنة ليبينوا للناس أنه غير واجب، أو لكون الأمر واسعا، أو لكونه من خلاف التنوع، ولنأخذ بعض الأمثلة:

المثال الأول: عن محمد بن المنكدر أن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما صلى بالناس في إزار واحد، وثيابه موضوعة على المشجب، فقال له قائل: تصلي في إزار واحد؟، فقال: (إنما صنعت ذلك ليراني أحمق مثلك، وأينا كان له ثوبان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم؟!) رواه البخاري (352)، وروى مسلم (3006) عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت قال: خرجت أنا وأبي نطلب العلم في هذا الحي من الأنصار، حتى أتينا جابر بن عبد الله في مسجده، وهو يصلي في ثوب واحد مشتملا به، فتخطيت القوم حتى جلست بينه وبين القبلة، فقلت: يرحمك الله أتصلي في ثوب واحد ورداؤك إلى جنبك؟! فقال: (أردت أن يدخل علي الأحمق مثلك، فيراني كيف أصنع، فيصنع مثله).

المثال الثاني: قال ابن عبد البر في ((التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد)) (23/ 194، 195): "روى الشعبي عن أبي سريحة الغفاري قال: رأيت أبا بكر وعمر وما يضحيان. وقال ابن عمر في الضحية: ليست بحتم، ولكنها سنة ومعروف. وقال أبو مسعود الأنصاري: إني لأدع الأضحى وأنا موسر مخافة أن يرى جيراني أنها حتم علي. وقال عكرمة: كان ابن عباس يبعثني يوم الأضحى بدرهمين أشتري له لحما ويقول: من لقيت فقل: هذه أضحية ابن عباس. وهذا محمله عند أهل العلم لئلا يعتقد فيها للمواظبة عليها أنها واجبة فرضا، وكانوا أئمة يقتدي بهم من بعدهم ممن ينظر في دينه إليهم؛ لأنهم الواسطة بين النبي وبين أمته، فساغ لهم من الاجتهاد في ذلك ما لا يسوغ اليوم لغيرهم، والأصل في هذا الباب أن الضحية سنة مؤكدة؛ لأن رسول الله فعلها وواظب عليها أو ندب أمته إليها، وحسبك أن من فقهاء المسلمين من يراها فرضا لأمر رسول الله المضحي قبل وقتها بإعادتها".

المثال الثالث: روى البخاري في أول كتابه ((رفع اليدين في الصلاة)) (1) عن عبيد الله بن أبي رافع عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كان يرفع يديه إذا كبر للصلاة حذو منكبيه, وإذا أراد أن يركع, وإذا رفع رأسه من الركوع, وإذا قام من الركعتين فعل مثل ذلك)، وروى البخاري (735) ومسلم (390) عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام للصلاة رفع يديه حتى تكونا حذو منكبيه، ثم كبر، فإذا أراد أن يركع فعل مثل ذلك، وإذا رفع من الركوع فعل مثل ذلك، ولا يفعله حين يرفع رأسه من السجود)، فرفع اليدين في الصلاة سنة ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد روى ابن أبي شيبة (2454) عن الأسود بن يزيد النخعي قال: (صليت مع عمر، فلم يرفع يديه في شيء من صلاته إلا حين افتتح الصلاة)، وروى البخاري في كتابه رفع اليدين (38) بإسناد صحيح عن نافع أن ابن عمر كان يكبر بيديه حين يستفتح، وحين يركع, وحين يقول: سمع الله لمن حمده, وحين يرفع رأسه من الركوع, وحين يستوي قائما، وقال ابن أبي شيبة (2452): حدثنا أبو بكر بن عياش، عن حصين، عن مجاهد قال: (ما رأيت ابن عمر يرفع يديه إلا في أول ما يفتتح). إسناده حسن.

ففي هذه الآثار أن عمر وابن عمر رضي الله عنهما رفعا أيديهما في القيام من الركوع، وثبت أيضا أنهما لم يرفعا أيديهما، فالأمر واسع، وإن كان رفع اليدين من السنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم.

المثال الرابع: روى البخاري (743) ومسلم (399) واللفظ لمسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، وعمر، وعثمان، فلم أسمع أحدا منهم يقرأ {بسم الله الرحمن الرحيم} [الفاتحة: 1]).

ورواه عبد الرزاق الصنعاني (2598) فقال: عن معمر، عن قتادة، وحميد، وأبان، عن أنس قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم، وأبا بكر، وعمر، وعثمان يقرءون {الحمد لله رب العالمين} [الفاتحة: 2].

وروى عبد الرزاق الصنعاني (2621) عن معمر قال: سمعت أيوب يسأل عاصم بن أبي النجود: ما سمعت في قراءة: {بسم الله الرحمن الرحيم} [الفاتحة: 1]؟ قال: أخبرني أبو وائل أنه سمع عمر بن الخطاب يفتتح {الحمد لله رب العالمين} [الفاتحة: 2].

ومع ثبوت هذه السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان بعض الصحابة والتابعين يجهرون بالبسملة، ويرون الأمر واسعا في ذلك، قال عبد الرزاق الصنعاني (2608): عن ابن جريج قال: أخبرني نافع: أن ابن عمر كان لا يدع بسم الله الرحمن الرحيم، يفتتح القراءة بـ {بسم الله الرحمن الرحيم} [الفاتحة: 1]. وهذا إسناد رجاله كلهم ثقات على شرط البخاري ومسلم.

وقال عبد الرزاق الصنعاني (2610): عن معمر، عن أيوب، عن عمرو بن دينار: أن ابن عباس كان يستفتح الصلاة بـ {بسم الله الرحمن الرحيم} [الفاتحة: 1]. وهذا إسناد صحيح.

وقال عبد الرزاق (2614): عن الثوري، عن عاصم بن أبي النجود، عن سعيد بن جبير: أنه كان يجهر بـ {بسم الله الرحمن الرحيم} [الفاتحة: 1] في كل ركعة. وهذا إسناد حسن.

وتأمل هذا الأثر الصحيح الذي يدل على التوسعة في أمر الجهر والإسرار بالبسملة في الصلاة، قال عبد الرزاق الصنعاني (2620): عن معمر، عن أيوب، عن عمرو بن دينار: أن ابن عباس وابن عمر كانا يفتتحان بـ {بسم الله الرحمن الرحيم} [الفاتحة: 1]، قال عبد الرزاق: وصلى بنا معمر فاستفتح: {الحمد لله رب العالمين} [الفاتحة: 2].

قال ابن القيم رحمه الله في ((زاد المعاد في هدي خير العباد)) (1/ 264 - 266): "الإنصاف الذي يرتضيه العالم المنصف، أنه صلى الله عليه وسلم جهر وأسر، وكان إسراره أكثر من جهره".

وقال ابن الأمير الصنعاني رحمه الله في ((سبل السلام)) (1/ 257): "الأقرب أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بها تارة جهرا، وتارة يخفيها".

وأختم هذه الرسالة بكلام نفيس عن ابن تيمية، قال رحمه الله: "قاعدة في صفات العبادات الظاهرة التي حصل فيها تنازع بين الأمة في الرواية والرأي، مثل: الأذان، والجهر بالبسملة، والقنوت في الفجر، والتسليم في الصلاة، ورفع الأيدي فيها، ووضع الأكف فوق الأكف، ونحو ذلك، فإن التنازع في هذه العبادات الظاهرة أوجب أنواعاً من الفساد الذي يكرهه الله ورسوله وعباده المؤمنون:

أحدها: جهل كثير من الناس أو أكثرهم بالأمر المشروع.

الثاني: ظلم كثير من الأمة أو أكثرهم بعضهم لبعض وبغيهم عليهم.

الثالث: اتباع الظن وما تهوى الأنفس.

الرابع: التفرق والاختلاف المخالف للاجتماع والائتلاف حتى يصير بعضهم يبغض بعضاً ويعاديه، ويحب بعضاً ويواليه على غير ذات الله، وحتى يفضي الأمر ببعضهم إلى الطعن واللعن والهمز واللمز، وببعضهم إلى الاقتتال بالأيدي والسلاح، وببعضهم إلى المهاجرة والمقاطعة حتى لا يصلي بعضهم خلف بعض؛ وهذا كله من أعظم الأمور التي حرمها الله ورسوله، والاجتماع والائتلاف من أعظم الأمور التي أوجبها الله ورسوله، قال الله - تعالى -: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103]، وهذا الأصل العظيم، وهو الاعتصام بحبل الله جميعاً وأن لا يُتفرق؛ هو من أعظم أصول الإسلام، ومما عظمت به وصية النبي صلى الله عليه وسلم كقوله صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: صلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول: تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين). ثم قال: عامة هذه التنازعات إنما في أمور مستحبات ومكروهات لا في واجبات ومحرمات" اهـ مختصراً من مجموع الفتاوى لابن تيمية (22/356 - 368).

محمد بن علي بن جميل المطري

دكتوراه في الدراسات الإسلامية وإمام وخطيب في صنعاء اليمن

  • 0
  • 0
  • 85

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً