تفسير قوله تعالى: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ ....

منذ 15 ساعة

تفسير قوله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} [الملك: 16]

تفسير قوله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} [الملك: 16]

أي: أأمنتم - أيها المشركون - الله الذي فوق السماء أن يخسف بكم الأرض عقوبة لكم على كفركم بالله؟ فإذا الأرض حين يخسف الله بكم تضطرب ذهابا وإيابا حتى تهلككم.

يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/ 391)، ((تفسير ابن جرير)) (23/ 129)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (5/ 14)، ((الهداية)) لمكي بن أبي طالب (12/ 7600)، ((الأسماء والصفات)) للبيهقي (2/ 236)، ((تفسير الألوسي)) (15/ 17، 18)، ((تفسير القنوجي)) (14/ 240)، ((تفسير السعدي)) (ص: 877).

بعض الآيات الدالة على علو الله على خلقه:

  1. {{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}} [الأعراف: 54].
  2. {{يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ}} [النحل: 50].
  3. {{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}} [طه: 5].
  4. {{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ}} [فاطر: 10].
  5. {{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}} [الأعلى: 1].

بعض الأحاديث والآثار الدالة على علو الله على خلقه:

  1. عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء؟!» . [رواه البخاري (4351) ومسلم (1064)] .
  2. عن معاوية بن الحكم السُّلمي رضي الله عنه « أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل جاريته التي لطمها: ((أين الله؟)) قالت: في السماء، قال: ((من أنا؟)) قالت: أنت رسول الله، قال: ((أعتقها، فإنها مؤمنة))» . [رواه مسلم (537)] .
  3. عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «((الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء))» . [ رواه أبو داود (4941) والترمذي (1924) وصححه هو والألباني] .  
  4. عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: « (ما بين كل سماء إلى أخرى مسيرة خمسمائة عام، وما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام، وما بين السماء السابعة إلى الكرسي مسيرة خمسمائة عام، وما بين الكرسي إلى الماء مسيرة خمسمائة عام، والعرش على الماء، والله على العرش، ويعلم أعمالكم)» . [ رواه ابن خزيمة في ((التوحيد)) (1/ 242)، والطبراني في ((المعجم الكبير)) (8987)، وأبو الشيخ الأصبهاني في ((العظمة)) (2/ 565)، والبيهقي في ((الأسماء والصفات)) (851)، وغيرهم، بإسناد حسن.]

بعض أقوال العلماء في إثبات علو الله:

  1. قال أبو حاتم وأبو زرعة الرازيان رحمهما الله: أدركنا العلماء في جميع الأمصار، حجازا وعراقا، وشاما ويمنا، فكان من مذهبهم: أن الله عز وجل على عرشه بائن من خلقه كما وصف نفسه في كتابه, وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بلا كيف، أحاط بكل شيء علما, { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}) ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) للالكائي (1/ 198).
  2. قال أبو الحسن الأشعري: أجمعوا على أنه عز وجل فوق سماواته على عرشه دون أرضه، وقد دل على ذلك بقوله: {{أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ}} [الملك: 16]. ((رسالة إلى أهل الثغر بباب الأبواب)) (ص: 131).
  3. نقل النووي عن الأرموي رحمهما الله كلاما طويلا في العقيدة مقرا له، وفيه: نؤمن بأن الله على عرشه كما أخبر في كتابه العزيز، ولا نقول: هو في كل مكان، بل هو في السماء، وعلمه في كل مكان، لايخلو منه مكان، كما قال: {{أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ}} [الملك:16] وكما جاء في حديث الإسراء، ثم قال النووي: هذا آخر ما أردنا ذكره من هذا المختصر من معتقد مصنفه، مما ذكره في كتابه غاية المرام في مسألة الكلام للشيخ أبي العباس أحمد بن الحسن الأرموي الشافعي، وهو الذي عليه الجمهور من السلف والخلف. ((جزء فيه ذكر اعتقاد السلف في الحروف والأصوات)) للنووي (ص: 68، 69).
  4. قال ابن تيمية رحمه الله: كتاب الله من أوله إلى آخره، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من أولها إلى آخرها، ثم عامة كلام الصحابة والتابعين، ثم كلام سائر الأئمة مملوء بما هو إما نص وإما ظاهر في أن الله سبحانه فوق كل شيء، وعليٌّ على كل شيء، وأنه فوق العرش، وأنه فوق السماء. ((الفتوى الحموية)) (ص: 201).
  5. قال الذهبي رحمه الله: روى يحيى بن يحيى التميمي وجعفر بن عبد الله وطائفة قالوا: جاء رجل إلى مالك فقال: يا أبا عبد الله {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] كيف استوى؟ قال: فما رأيت مالكا وجد من شيء كموجدته من مقالته، وعلاه الرُّحَضاء يعني: العَرَق، وأطرق القوم، فسُرِّي عن مالك وقال: الكيف غير معقول، والاستواء منه غير مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وإني أخاف أن تكون ضالا. وأُمِر به فأُخرج. هذا ثابت عن مالك، وتقدم نحوه عن ربيعة شيخ مالك، وهو قول أهل السنة قاطبة، أن كيفية الاستواء لا نعقلها، بل نجهلها، وأن استواءه معلوم كما أخبر في كتابه، وأنه كما يليق به، لا نعمق، ولا نتحذلق، ولا نخوض في لوازم ذلك نفيا ولا إثباتا، بل نسكت، ونقف كما وقف السلف، ونعلم أنه لو كان له تأويل لبادر إلى بيانه الصحابة والتابعون، ولما وسعهم إقراره وإمراره والسكوت عنه، ونعلم يقينا مع ذلك أن الله جل جلاله لا مِثْل له في صفاته، ولا في استوائه. ((العلو للعلي الغفار)) (ص: 139).
  6. قال علامة اليمن السيد محمد بن إبراهيم الوزير رحمه الله: قوله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} (في) هنا بمعنى فوق، كقوله: {لَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71]. ولا يحيط بالله شيء بالإجماع، وهي في الفوقية حقيقة لا مجاز، وآيات الاستواء توضح ذلك. ((العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم)) (5/ 92).
  7. قال قاضي قضاة اليمن محمد بن علي الشوكاني رحمه الله: الحق الذي لا شك فيه ولا شبهة هو ما كان عليه خير القرون ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، وقد كانوا رحمهم الله وأرشدنا إلى الاقتداء بهم والاهتداء بهديهم يمرون أدلة الصفات على ظاهرها، ولا يتكلفون علم ما لا يعلمون، ولا يتأولون، وهذا المعلوم من أقوالهم وأفعالهم، والمتقرر من مذاهبهم، لا يشك فيه شاك، ولا ينكره منكر، ولا يجادل فيه مجادل. ((التحف في مذاهب السلف)) (ص: 17).

إجماع الصحابة والتابعين على أن الله في السماء مستو على عرشه كما يليق بجلاله:

قال ابن قدامة المقدسي رحمه الله المتوفى سنة 620 هجرية: (الله تعالى وصف نفسه بالعلو في السماء، ووصفه بذلك محمد خاتم الأنبياء، وأجمع على ذلك جميع العلماء من الصحابة الأتقياء، والأئمة من الفقهاء، وتواترت الأخبار بذلك على وجه حصل به اليقين، وجمع الله تعالى عليه قلوب المسلمين، وجعله مغروزا في طباع الخلق أجمعين) ((إثبات صفة العلو)) (ص: 63). ويُنظر: ((الرد على الجهمية)) لأحمد بن حنبل (ص: 146)، ((التوحيد)) لابن خزيمة (1/ 254 - 289)، ((الإبانة)) لأبي الحسن الأشعري (ص: 105، 106)، ((رسالة إلى أهل الثغر)) لأبي الحسن الأشعري (ص: 130، 131)، ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) لللالكائي (3/ 429)، ((رسالة في إثبات الاستواء)) للجويني (ص: 33)، ((التمهيد)) لابن عبد البر (7/ 129)، ((شرح السنة)) للبغوي (1/ 168 - 171)، ((الانتصار في الرد على المعتزلة)) لابن أبي الخير العِمراني (2/ 607 - 625)، ((جزء فيه ذكر اعتقاد السلف)) للنووي (ص: 68)، ((الحموية)) لابن تيمية (ص: 201)، ((العلو)) للذهبي (ص: 596)، ((اجتماع الجيوش الإسلامية)) لابن القيم (2/ 95 - 331)، ((شرح الطحاوية)) لابن أبي العز الحنفي (2/ 375 - 394)، ((العواصم والقواصم)) لابن الوزير (4/ 148) و (5/ 92).

تنبيه: لاحظ أن أكثر العلماء المذكورين آنفا الذين يثبتون علو الله على خلقه وأنه في السماء مستو على عرشه كانوا قبل شيخ الإسلام ابن تيمية المتوفى سنة 728 هجرية، وقد تم ترتيبهم على حسب وفياتهم، فأحمد بن حنبل توفي سنة 241 هـ، وابن خزيمة سنة 311 هـ، والأشعري 324 هـ، واللالكائي سنة 418 هـ، وعبد الله بن يوسف الجويني سنة 438 هـ، وابن عبد البر سنة 463 هـ، والبغوي 516 هـ، وابن أبي الخير العِمراني سنة 558 هـ، والنووي سنة 676 هـ، فبعض الناس قد يظن أن إثبات علو الله جاء به ابن تيمية، وإنما هو ناقل لكلام العلماء، متبع لما في كتاب الله وسنة رسوله، قال ابن تيمية رحمه الله: الذين نقلوا إجماع السلف أو إجماع أهل السنة أو إجماع الصحابة والتابعين على أن الله فوق العرش، بائن من خلقه، لا يحصيهم إلا الله. ((بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية)) (5/ 69).

واعلم أن علماء أهل السنة والجماعة لا يقولون: إن الله داخل السماء، ولا أنه في مكان محصور فيها، بل يقولون: الله فوق السماء، مستو على عرشه، كما أخبر في كتابه، قال ابن تيمية: (من توهم أن مقتضى هذه الآية أن يكون الله في داخل السموات، فهو جاهل ضال بالاتفاق) ((التدمرية)) (ص: 85). ويُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (3/ 426، 427)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/ 18 - 32). 

قال ابن عبد البر: (أهل السنة مجموعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة، والإيمان بها، وحملها على الحقيقة لا على المجاز، إلا أنهم لا يكيفون شيئا من ذلك، ولا يحدون فيه صفة محصورة، وأما أهل البدع والجهمية والمعتزلة كلها والخوارج فكلهم ينكرها، ولا يحمل شيئا منها على الحقيقة) ((التمهيد)) (7/ 145). وينظر: ((سنن الترمذي)) (3/ 41)، ((التبصير في معالم الدين)) للطبري (ص: 132 - 147)، ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) للالكائي (3/ 457)، ((ذم التأويل)) للمقدسي (ص: 11، 39، 40)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (13/ 294، 295)، ((الصواعق المرسلة)) لابن القيم (1/ 212 - 214)، ((منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات)) للشنقيطي (ص: 38)، ((القواعد المثلى)) لابن عثيمين (ص: 34)، ((صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة)) لعلوي السقاف (ص: 273).

ومن العجائب أن كثيرا من المفسرين المتأخرين يفسرون قوله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} بقولهم: من في السماء قدرته وسلطانه، وبعضهم يقول: من في السماء ليس هو الله، بل هو جبريل عليه الصلاة والسلام! انظر مثلا: تفسير الواحدي وتفسير ابن عطية وتفسير القرطبي وتفسير البيضاوي وتفسير الجلالين وتفسير ابن عاشور، عفا الله عنهم جميعا فيما أخطأوا فيه، ونفعنا بعلومهم الصحيحة التي هي غالب كتبهم، وغفر لنا ولهم.

وأعجب من هذا أن ابن نجيم الحنفي عفا الله عنه كفَّر من يقول: الله في السماء حتى وإن كان يُنزِّه الله عن المكان!! قال في كتابه البحر الرائق شرح كنز الدقائق (ص: 81): يكفر بإثبات المكان لله تعالى، فإن قال: الله في السماء، فإن قصد حكاية ما جاء في ظاهر الأخبار لا يكفر، وإن أراد المكان كفر، وإن لم يكن له نية كفر عند الأكثر، وهو الأصح، وعليه الفتوى!!!

وقال أحمد الصاوي عفا الله عنه في حاشيته على تفسير الجلالين: من جملة أبواب الكفر الأخذ بظواهر الكتاب والسنة!! قاله في تفسير سورة البقرة آية 121، وكرر قوله هذا في تفسير سورة آل عمران آية 7، وفي تفسير سورة الكهف آية 24.

وقد أخذ الصاوي هذا القول المنكر من كتب أهل الكلام المشتملة على الكثير من المباحث الفلسفية، والبدع الكلامية، فانظر مثلا: حاشية الدسوقي على أم البراهين (ص: 219).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه العظيم بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (1/ 9، 10): أكثر الطالبين للعلم والدين، ليس لهم قصد من غير الحق المبين، لكن كثرت في هذا الباب الشبه والمقالات، واستولت على القلوب أنواع الضلالات، حتى صار القول الذي لا يشك من أوتي العلم والإيمان، أنه مخالف للقرآن والبرهان، بل لا يشك في أنه كفر بما جاء به الرسول من رب العالمين، قد جهله كثير من أعيان الفضلاء، فظنوا أنه من محض العلم والإيمان، بل لا يشكـون في أنه مقتضى صريح العقل والعيان، ولا يظنون أنه مخالف لقواطع البرهان، .. ولهذا كان السلف والأئمة يُكفِّرون الجهمية في الإطلاق والتعميم، وأما المعين منهم فقد يدعون له، ويستغفرون له؛ لكونه غير عالم بالصراط المستقيم، وقد يكون العلم والإيمان ظاهرا لقوم دون آخرين، وفي بعض الأمكنة والأزمنة دون بعض بحسب ظهور دين المرسلين.

وقال ابن تيمية أيضا في كتابه منهاج السنة النبوية (5/239): إن المتأول الذي قصد متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم لا يُكفَّر ولا يُفسَّق إذا اجتهد فأخطأ، وهذا مشهور عند الناس في المسائل العملية، وأما مسائل العقائد فكثير من الناس كفّر المخطئين فيها، وهذا القول لا يُعرف عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا عن أحد من أئمة المسلمين، وإنما هو في الأصل من أقوال أهل البدع الذين يبتدعون بدعة ويُكفِّرون من خالفهم.

وقال ابن تيمية رحمه الله في معرض رده على بعض أهل البدع والضلال في كتابه النافع درء تعارض العقل والنقل (2/102 - 103) : ثم إنه ما من هؤلاء إلا من له مساع مشكورة، وحسنات مبرورة، وله في الرد على كثير من أهل الإلحاد والبدع، والانتصار لكثير من أهل السنة والدين؛ ما لا يخفى على من عرف أحوالهم، وتكلم فيهم بعلم وصدق وعدل وإنصاف.. وخير الأمور أوسطها.. والله يتقبل من جميع عباده المؤمنين الحسنات، ويتجاوز لهم عن السيئات: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10].

ونختم البحث بكلام مفيد للعلامة القاسمي في تفسيره، قال رحمه الله: يتوهم كثير أن القول بالعلو والاستواء يلزم منهما القول بالتجسيم، وقد رُمي بذلك كثير من المحدثين، وممن رماهم بذلك الجلال الدواني في شرح العقائد العضدية حيث قال- عفا الله عنه-: وأكثر المجسمة هم الظاهريون المتبعون لظاهر الكتاب والسنة، وأكثرهم المحدثون، ولابن تيمية أبي العباس وأصحابه ميل عظيم إلى إثبات الجهة، .. هذا مع علو كعبه في العلوم العقلية والنقلية، كما يشهد به من تتبع تصانيفه. وتعقبه غير واحد: منهم: الشيخ إبراهيم الكوراني في حاشيته عليه قال: إن ابن تيمية ليس قائلا بالتجسيم، فقد صرح بأن الله تعالى ليس جسما، في رسالة تكلم فيها على حديث النزول. بل هو على مذهب السلف قائل بأن الله تعالى فوق العرش حقيقة، مع نفي اللوازم، ونقل عليه إجماع السلف، صرح به في الرسالة القدرية - انتهى-. ومنهم: الشهاب الألوسي المفسر، فإنه كتب على كلام الدواني ما نصه: حاشا لله تعالى أن يكون ابن تيمية من المجسمة، بل هو أبرأ الناس منهم. نعم يقول بالفوقية، وذلك مذهب السلف، وهو بمعزل عن التجسيم. وجلال الدين وأضرابه أجهل الناس بالأحاديث، وكلام السلف الصالح، كما لا يخفى على العارف المنصف.

وأقول: إن كل من رمى مثل هذا الإمام بالتجسيم فقد افترى وما درى، إلا أن عذره أنه لم ينقب عن غرر كلامه في فتاويه التي أوضح فيها الحق، وأنار بها مذهب السلف قاطبة، وهاك شذرة من درره. قال رحمه الله في بعض فتاويه: والأصل في هذا الباب أن كل ما ثبت في كتاب الله تعالى أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم وجب التصديق به، مثل علو الرب، واستوائه على عرشه، ونحو ذلك. وأما الألفاظ المبتدعة في النفي والإثبات، مثل قول القائل: هو في جهة، أو ليس في جهة، وهو متحيز، أو ليس بمتحيز، ونحو ذلك من الألفاظ التي تنازع فيها الناس، وليس مع أحدهم نص، لا عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا عن الصحابة رضي الله عنهم والتابعين لهم بإحسان، ولا أئمة المسلمين- هؤلاء لم يقل أحد منهم: إن الله تعالى في جهة، ولا قال: ليس هو في جهة، ولا قال: هو متحيز، ولا قال: ليس بمتحيز، فهذه الألفاظ ليست منصوصة في الكتاب ولا السنة ولا الإجماع، والناطقون بها قد يريدون معنى صحيحا، فإن يريدوا معنى صحيحا يوافق الكتاب والسنة كان ذلك مقبولا منهم، وإن أرادوا معنى فاسدا يخالف الكتاب والسنة كان ذلك المعنى مردودا عليهم. فإذا قال القائل: إن الله تعالى في جهة، قيل: ما تريد بذلك؟ أتريد بذلك أنه سبحانه في جهة موجودة تحصره وتحيط به، مثل أن يكون في جوف السموات، أم تريد بالجهة أمرا عدميا، وهو ما فوق العالم؟ فإن أردت الجهة الوجودية، وجعلت الله تعالى محصورا في المخلوقات، فهذا باطل، وإن أردت بالجهة العدمية، وأردت الله تعالى وحده فوق المخلوقات، بائن عنها، فهذا حق، وليس في ذلك أن شيئا من المخلوقات حصره، ولا أحاط به، ولا علا عليه، بل هو العالي عليها، المحيط بها، وقد قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67]، .. ومن قال: إن الله تعالى ليس في جهة، قيل له: ما تريد بذلك؟ فإن أراد بذلك أنه ليس فوق السموات ربٌ يعبد، ولا على العرش إله، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم لم يُعرج به إلى الله تعالى، فهذا فرعوني معطل، جاحد لرب العالمين. وإن كان يعتقد أنه مقر به، فهو جاهل متناقض في كلامه. وإن قال: مرادي بقولي: ليس في جهة أنه لا تحيط به المخلوقات فقد أصاب في هذا المعنى. انتهى باختصار من تفسير القاسمي المسمى محاسن التأويل (5/ 82 - 84). وينظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (5/ 298، 299)، منهاج السنة النبوية لابن تيمية (2/ 558، 559) بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية لابن تيمية (3/ 610 - 617).

محمد بن علي بن جميل المطري

دكتوراه في الدراسات الإسلامية وإمام وخطيب في صنعاء اليمن

  • 0
  • 0
  • 65

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً