قراءة في حديث (أنت ومالك لأبيك)
القول الثاني: ذهب جمهور الفقهاء (أبو حنيفة، ومالك، والشافعي) إلى أنه ليس للوالد أن يأخذ من مال ولده إلَّا بقدر حاجته، وذهب بعضهم إلى تضعيف الحديث، ومَن صححه منهم لم يأخذ بظاهره، وادعى الإمام ابن حزم أنه منسوخ
وردت آيات قرآنيـة وأحاديث نبـوية كثيرة تؤكـد وتذكِّر بحق الوالـدين على الأبنـاء، ويكفي أن الله عز وجل قرن حقهما بحقه، فقال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَاناً} [الإسراء: 23].
ولا خلاف بين الفقهاء على أن الوالدين إذا كانا معسرين فإن نفقتهما - من طَعام وكِساء ومَسكن ودواء وما إلى ذلك من الضروريات - واجبة على ولدهما إذا كان ذلك في وُسْعه. وهنا سؤال: كيف نفهم قول النبي صلى الله عليه وسلم «أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ»؟ وهل مطلق هذه الإضافة يدل على أَنَّ الوَلَدَ كالمملوك لوالده، وللوالد أن يأخذ من مال ولده ما شاء؟
في السطور التالية عرض مقتضب لأقوال الأئمة في هذا الحديث سنداً ومتناً، مع بيان الراجح من تلك الأقوال. أولاً: لفظ الحديث قال الإمام أحمد: «حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ بَابٍ، عَنْ حَجَّاجٍ ابن أرطاة، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُخَاصِمُ أَبَاهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّ هَذَا قَدِ اجْتَاحَ مَالِي؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : «أَنْتَ، وَمَالُكَ لِأَبِيكَ»[1]. ومعنى: اجتاح مالي؛ أي: استأصله، وأتى عليه أخذاً وإنفاقاً.
وللحديث روايات متقاربة المعنى عن عائشة، وجابر، وابن مسعود، وسمرة، وعبد الله بن عمر، وعمرو بن العاص. وأخرجه الشافعي والبيهقي وابن أبي شيبة عن مُحَمَّدِ بْنِ المنْكَدِرِ مُرْسلاً. ثانياً: هل الحديث صحيح أم ضعيف؟ اختلف أهل العلم في تصحيح هذا الحديث وتضعيفه؛ فقد صححه جماعة من الأئمة كابن القطان وابن الملقن والبوصيري والألباني وشعيب الأرنؤوط وعبد القادر الأرنؤوط، وقال الحافظ ابن حجر: «فمجموع طُرُقِهِ لا تَحُطُّهُ عن القوة وجواز الاحتجاج به فَتَعَيَّنَ تَأْوِيلُهُ»[2]، وقال الشوكاني: «وبمجموع هذه الطرق ينتهض للاحتجاج»[3].
في حين ضعَّفه بعض أهل العلم، فقال الإمام الشافعي: «لا يَثبت عن النبي. وقال البيهقي: قد روي من أوجه أُخَر موصولاً لا يثبت مثلها، وأخطأ مَنْ وَصَلَهُ عَنْ جَابِرٍ. ومثل ذلك قاله ابن أبي حاتم عن أبيه، وقال الدَّارَقُطْنِيُّ: رُوِيَ مَوْصُولاً ومُرْسَلاً والمرْسَلُ أَصَحُّ»[4].
وقال الإمام القرطبي: «حديث واهٍ، ولو صَحَّ لَمْ تَكُنْ فيه حُجَّةٌ»[5]. ثالثاً: حكم أخذ الوالد من مال ولده اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين: القول الأول: أن يد الوالد مبسوطة في مال ولده يأخذ ما شاء، وهو قول الحنابلة وجماعة من العلماء منهم شيخ الإسلام ابن تيمية والصنعاني والشوكاني[6]. قال ابن قدامة المقدسي: «وللأب أن يأخذ من مال ولده ما شاء، ويتملكه، مع حاجة الأب إلى ما يأخذه، ومع عدمها، صغيراً كان الولد أو كبيراً، بشرطين: أحدهما: أن لا يجحف بالابن، ولا يضر به، ولا يأخذ شيئاً تعلقت به حاجته. الثاني: أن لا يأخذ من مال ولده فيعطيه الآخر»[7].
وذكر العلَّامة الصنعاني أسماء سبعة من الصحابة، وثمانية من التابعين، قالوا بظاهر الحديث، وأن مال الولد لأبيه، يتصرف فيه كيف شاء، كما يتصرف فيما يملكه، وكل ما جاز له في مال نفسه من الإنفاق وغيره جاز له في مال ولده[8]. وأدلتهم في ذلك الحديث الذي معنا بالإضافة إلى أدلة أخرى، أهمها: - أن الله جعل الولد موهوباً لأبيه، فقال: {وَوَهَبْنَا لَهُ إسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} [الأنعام: 84]. وقال: {وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى} [الأنبياء: 90]. وقال زكريا: {فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا} [مريم: ٥]. وقال إبراهيم: {الْـحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إسْمَاعِيلَ وَإسْحَاقَ} [إبراهيم: 39].
وما كان موهوباً له، كان له أخذ ماله، كعبده. ويجاب عنه بأن النصوص المذكورة وما في معناها لا علاقة لها بالمسألة محلِّ البحث، فهذه النصوص جاءت لبيان أن الله تعالى هو الوهَّاب، بمعنى أَنَّه يُعْطِي كُلّاً على قدر اسـتحقاقِه، فهو سبحانه الـمُتفضِّل بالعطـاء بلا عِوَض، والمانح الفضل بلا غَرَض. أما الهِبَة في الفقه فعقد يُمَلِّك به الواهبُ الموهُوبَ له مالاً مُعيَّناً بلا عوض، ولها أحكامها المعروفة والمبثوثة في كتب الفقه الإسلامي. كما أن المسألة محلَّ البحث ليس لها علاقة مباشرة بأبواب الهبات، ومما يؤكد ذلك أن كثيراً من العلماء ناقشوها في أبواب أخرى غير الهبات، فابن عبد البر ناقشها في باب (ما لا حد فيه)، وناقشها الإمام السرخسي في باب (ادعاء الولد) وفي (كتاب الديات)، أما ابن رشد الحفيد في كتابه بداية المجتهد ونهاية المقتصد، فلم يُشِر عند شرحه لكتاب الهبات لا إلى المسألة ولا إلى الآيات المذكورة. - ما روته عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم» [9].
وظاهر الحديث جواز الأكل من مال الولد مطلقاً، إلا أن جمهور العلماء حملوه على الجواز عند الحاجة. - قوله تعالى: {وَلا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ} [النور: 61]. قال الحافظ ابن كثير: «وتضمن هذا بيوت الأبناء؛ لأنه لم ينص عليهم. ولهذا استدل بهذا من ذهب إلى أن مال الولد بمنزلة مال أبيه»[10]. وقال السعدي: «{أَن تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ} [النور: 61] أي: بيوت أولادكم... وفيها دليل على أن الأب يجوز له أن يأخذ ويتملك من مال ولده ما لا يضره، لأن الله سمى بيته بيتاً للإنسان»[11].
ويُجاب عن هذا الاستدلال بما نقله الإمام القرطبي في تفسيره قال: «وعارض بعضهم هذا القول فقال: هذا تَحَكُّمٌ على كتاب الله تعالى؛ بل الأولى في الظاهر ألا يكون الابن مُخَالِفاً لهؤلاء، وليس الاحتجاج بما رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنت ومالك لأبيك» بِقَوِيٍّ لِوَهْي هذا الحديث، وأَنَّهُ لَوْ صَحَّ لَمْ تَكُنْ فِيهِ حُجَّةٌ، إذ قد يكون النبي صلى الله عليه وسلم عَلِمَ أَنَّ مَالَ ذلك المخاطب لأبيه.
وقد قيل: إن المعنى: أنت لأبيك، ومالك مبتدأ، أي ومالك لك. والقاطع لهذا التوارث بين الأب والابن[12]. القول الثاني: ذهب جمهور الفقهاء (أبو حنيفة، ومالك، والشافعي) إلى أنه ليس للوالد أن يأخذ من مال ولده إلَّا بقدر حاجته، وذهب بعضهم إلى تضعيف الحديث، ومَن صححه منهم لم يأخذ بظاهره، وادعى الإمام ابن حزم أنه منسوخ، وفيما يلي طائفة من أقوالهم: قال الإمام الشافعي: «لا يَثبت عن النبي، فإن الله لـمَّا فرض للأب ميراثه من ابنه فجعله كوارث غيره، وقد يكون أنقص حظاً من كثير من الورثة: دلَّ ذلك على أن ابنه مالك للمال دونه»[13].
وقال الخطابي معنى الحديث: «إذا احتاج إلى مالك أخذ منك قدر الحاجة، كما يأخذ من مال نفسه، وإذا لم يكن لك مال وكان لك كسْب لزمك أن تكتسب وتنفق عليه، فأما أن يكون أراد به إباحةَ ماله حتى يجتاحه ويأتي عليه، لا على هذا الوجه، فلا أعلم أحداً ذهب إليه من الفقهاء....
- التصنيف: