إلى ابن العشرين: رسالة من على بوابة الثلاثين للمسافر القادم
يا صديقي أنت الآن في مرحلة بناء العادات وليس في مرحلة الطباع، هذه الكلمة قد تُستوعب من رجل شارف على السبعين وليس ممن لم يطرق العشرين.
منذ فترة وأنا أعزم على كتابة رسالة لابن العشرين، وحتى أكون أكثر دقة أعني رسالة لنبيه ذكي في العشرين وما قبلها بقليل أو بعدها بقليل. هذه الأيام سوف تمضى وهذا العمر سيرحل.
أقولك لك: عندما تطرق باب الثلاثين سترى كل شيء قد تغيّر ليس لأنه تغير في ذاته بل لأنك أنت من سيتغير وإن ظننت غير ذلك. هؤلاء الأصدقاء من حولك الذين يملؤون حياتك بطعمها حلوه ومره لن يبق لك منهم إلا القليل، فهمك للعلاقات والصداقات سيتبدل، هذه الأفكار في ذهنك عن الحياة ستتلاشى، مفاهيمك ستختلف، هذه الأشياء التي تراها من أولوياتك في الحياة ربما ستختفي ويحل محلها أشياء جديدة لم تكن تحسب لها حسابا.
أترى هؤلاء “ المجرمين “ الذي تسمع عنهم كل يوم؟ لقد كانوا يسيرون بأحلام كأحلامك، وهذا الفقير الذي اتكأت على ظهره الدنيا كان له قائمة من الأمنيات لا تنتهي وهاهي تتضاءل أمام عينيه كل يوم، وهذا البائس الوحيد الخالي من الأهل والأصدقاء والناس كان له حياة ممتلئة بهؤلاء وغيرهم، وهذا المريض الذي يصعب عليه حتى النَفس كان له ملعب في آخر الحارة كجميع الأولاد.
هذه المقابر ممتلئة بأحلام وأمنيات لم يُكتب لها أن تتحقق، وإن الراحلين رحلوا وأيديهم تفيض بقوائم من الطلبات قصر عنها رصيد العمر.
الدين:
مهما حاولت هذه المادية وحاول المادييون أن يقولوا لك خلاف ذلك .. اجعل الدين وإيمانك بالله هو محور الأشياء لديك، أعد تعريفك للأشياء بناء على تعريف القرآن لها ما استطعت. سترى أن كثيرا مما يراه الناس كبيرا، صغيرا ضئيلا في عينيك مع إيمانك بالله. اجعل رحلتك في هذه الحياة متعلقة بخالق الحياة ومبدع نواميسها .. أنت في عالم يتضاءل فيه الإيمان فإذا رأيته كذلك فاجعل الإيمان يتمدد في قلبك ويتوسع. خصص لنفسك لحظات خالية من كل شيء تجلس فيها مع القرآن، تقرأه بتسليم مطلق.. دع القرآن ينساب إلى روحك ويملؤك بمعانيه.
وإن اصابتك لوثة من ظن أو شك فاقرأ “قصة الإيمان بين العلم والفلسفة والقرآن” للجسر، “واقرأ أفي الله شك؟” للمرزوقي، واقرأ رحلتي من الشك إلى اليقين لمصطفى محمود، واقرأ مقالات العلامة ابن عقيل الظاهري. وقبل ذلك اجعل القرآن وفهمه الدواء لصدرك المتعب. وتيقن أن معظم الشكوك إنما تأتي من الجهل فزود نفسك بالعلم ولا تظن بنفسك أنك وعيت العلم كله.
وإن سألت كيف تتعامل مع التساؤلات التي تأتيك والتي تراها؟
كل التساؤلات المطروحة اليوم مما يقدح في الدين وعظمته هي تساؤلات وأشياء قديمة، وكل ما تحتاجه هو أن تبحث عن الإجابات لدى أهل العلم والحكمة. ولن تجد شبهة تنتشر اليوم إلا ولها مثيل في الماضي. والساعي الحثيث للحق لن يضيعه الله. فإذا اشغلتك شبهة أو شك فابحث واسأل واجعل الحق نصب عينيك وحاول أن تنسى الانتصار لنفسك أو لما تحب وانس الناس كذلك ، إن كنت فعلا ساع لحق أو يهمك الفهم الصحيح للدين .. وإن كان غير ذلك ورأيت نفسك مشغولا بالفكرة السائدة أو ما يقوله لك الإعلام والناس في المجالس ومواقع التواصل فإن هذا الكلام ليس لك.
العلاقات:
الصداقة من أجمل العلاقات الإنسانية .. وربما تكون في ذروتها نشوء واتساعا في أوائل العشرين وما قبلها بقليل. سترى فترات من عمرك تأخذك الصداقات فيها من كل شيء. وفي ضجيج هذا الانطلاق لا تنس والديك أبدا، قدم رضاهما على كل شيء ما استطعت .. قدم رضاهما على موعد مع الأصحاب قد لا يتكرر، على سفرة معدة بعناية، .. والله لتجدن أثر الرضى في حياتك وفي نفسك وفي مالك. وستحفك الدعوات أينما ذهبت. قد ترى آراءهما عجيبة، وربما يزعجك توقيت بعض الطلبات، وربما مع اطلاعك وقراءتك ستنصدم ببعض الآراء ..
مهلا يا صاحبي.. إذا رأيت أن النقاش حول أمر ما، يزعجهما أو يعكر صفوهما فتوقف ما استعطت. مارس قدراتك في النقاش أينما أردت ولكن ليس مع والديك .. ستقول ولكن أبي مختلف ومتحجر أو أمي مختلفة .. نعم يكون ذلك حقا، لكن تذكر أنهما شخصان مختلفان عن الناس وأن القوانين تتغير في حضرتهما ولن يضيع الله أجرك وصبرك.
مع البهجة بالصدقة والانتشاء بالصحبة .. ربما تجد نفسك تعلق أمالا كبيرة على الناس من حولك، وأحب أن أقول لك: لا تعلق آمالك بأحد من الناس ما استطعت. توقع من الناس ما تحب وما لاتحب.. وهؤلاء من حولك وأحب الناس إليك من أصدقاء وأصفياء ممن لا يخلو يوم من اتصال أو لقاء بهم، سيأتي عليك أيام وليس حولك منهم أحد .. فلا تجزع لبعد أحد أو وطن نفسك على ذلك.. وقد أفلح من علق كل آماله بالله وحده.. ومن يستطيع!
الزواج ليس علاقة حب حالمة وليس قصة مستنسخة من مسلسل تركي أو مكسيكي. الزواج رحلة طويلة فيها من الجمال والصعوبة والمرارة والحلاوة والمسؤولية والالتزام، وهو ميثاق غليظ كما سماه الله. وإذا أردت زواجا مباركا فانس عالم المسلسلات وأوهامها فكلها كذب ووهم، واعمل على اصلاح نفسك في دينك وصحتك وأخلاقك ما استطعت. لن تجد زوجة كاملة ولن تجدين زوجا كاملا، وكفى بالإنسان كمالا أن تقل مساؤه وعيوبه.
أنت في عالم يتكاثر فيه الناس بالألقاب والملابس والمقتنيات .. فإن استطعت أنت وشريك حياتك أن تغمرا الحياة بالمعاني الكبيرة والقرب من الله والتذاكر والتواصي وتعريف الأشياء كما ينبغي فتلك هي السعادة والفوز.. أما التكاثر في الممتلكات والأموال فمهما بلغ حظك من الدنيا فستجد من هو أكثر حظا منك.
الثقافة:
إن كنت ممن يشغله عالم الأفكار ويشعر بالحيرة من هذه الصراعات التي لا تنتهي، وربما شاركت بحماس في مواقع التواصل حول قضايا فكرية وشرعية مختلفة ..وربما تغرقك كثرة الآراء والاختلاف الذي لا ينتهي. فأرجوك توقف عن هذا وعد لبناء نفسك أنت وبناء معرفتك ولا تنشغل بالخلاف، وعد لأصول الأشياء. مواقع التواصل ونقاشاتها ستمنحك القدرة على الدخول في جمهور، تماما كتشجيع فريق معين دون أن يكون لديك القدرة على التمييز المعرفي والنقد .. قل لنفسك دائما أن الحقيقة هي ما تريد أنت أن تصل إليه وليس ما تريد أن يظن الآخرين أنك وصلت إليه.
هذه المرحلة من عمرك ليست للانشغال بما يقول الناس عن آرائك فأنت في مرحلة بناء الآراء وبناء المعرفة .. اقرأ بوعي وبتنظيم وأقول لك: لن تستطيع أن يكون لك حكما صحيحا أو قريبا من الصحيح ما لم يكن لديك قدرا من العلم الشرعي وفهما لأصول التشريع. ولن تعدم من يدلك على طريق لبناء ذاتك إذا عزمت!
قبل أن تفهم أي ثقافة أخرى افهم ثقافتك وملامح هويتك:
اقرأ للجاحظ، ولابن المقفع، وابن قتيبه وغيرهم من الأقدمين. اقرأ للطنطاوي ، المنفلوطي ، الرافعي، المازني وطه حسين وغيرهم من الآخرين. ارجوك اقرأ “رسالة في الطريق إلى ثقافتنا “ لمحمود شاكر وهو كتاب يجدر بالكبير والصغير أن يقرأه. اقرأ في الأدب والشعر العربي واسع لفهمه، احفظ الجميل من الشعر، تنعم بجمال هذه اللغة العظيمة واسع لفهم اسرارها. وإن كنت تجد صعوبة في قراءة ما أكتب الآن أو فهمه فأرجوك ابدأ الآن بالقراءة اليومية فلا يوجد حلول قصيرة في هذه الحياة.
المال:
المال أمره عظيم عند الناس وربما أدركت هذا أو لم تدرك بعد. فإن استطعت أن تستغني عن ما في أيدي الناس -كل الناس- ما استطعت فافعل. وستجد أنه مما ابتلي به الناس هذا الزمان سهولة طلب المال ثم المماطلة في رده بعجز أو تساهل. فإن استطعت تأدية حقوق الناس حتى أقرب الأصدقاء إليك في أقرب فرصة ولو ضيقت على نفسك فافعل.. ولا تخجل من السؤال عن حقك كما يجب بتيسير وسماحة.
الصحة:
الأكل:
من الأشياء التي نغفل عنها جميعا ونغفل تأثيرها علينا رغم بداهتها أن الأيام تمشي بسرعة ومعنى ذلك أن ما تفعله اليوم ثم غدا ثم اليوم الذي يليه سيصنع أثره بعد سنة وربما أقل أو أكثر. أن يكون أكل السكر والحلويات والوجبات السريعة ضمن جدولك اليومي يعني أن أبشرك بصحة مهترئة وسمنة وصعوبة في الحركة وأمراض مزمنة لا تنتهي. وأن تخفف من كل هذا وتأكل بحكمة وتكثر من الخضروات والفواكه وتقلل السكريات وتتحرك كل يوم بقدر جيد معناه أن تقلل من السمنة والأمراض المزمنة وصعوبة الحركة.
أسنانك:
اهتم بأسنانك وتعاهدها بالتنظيف ومراجعة الطبيب إن احتجت لذلك .. لا يمر عليك يوم دون سواك أو فرشاة. أجعلها عادة لا تنقطع أو فابشر بالالتهابات والتسوسات وربما تفكك الأسنان.
الرياضة:
تحرك كل يوم ما استطعت، إن لم تستطع المشي فقم بالتمارين المنزلية .. جرب ما تحب وربما يعجبك تمرين السبع دقائق HIIT إن كنت مشغولا جدا. ستعرف أهمية أن تتحرك وأن تكون نشيطا عندما تطرق باب الثلاثين .. فلا يصعب عليك بعض ما يصعب على الكثيرين غيرك. ستكون بنفس أكثر انشراحا وبجسد أكثر نشاطا.
إن كانت عاداتك السابقة قد فعلت فعلها ووجدت أن وزنك ليس كما ينبغى وأن حركتك قليلة فابدأ من الآن: غير عاداتك، اجعل المشي أو الرياضة جزء لا يتجزء من يومك .. ولن ترى الأثر في يوم أو يومين .. سترى الأثر بعد سنة أو سنتين.
التقنية:
اهرب من هذا “الجوال” ما استطعت، استخدمه بحكمة وإلا كان أثره عليك في صحتك ونفسيتك وعقلك أكبر مما تصور. سينمّي فيك الكسل والبلادة والتذمر والرغبة في الوصول لكل شيء بسرعة، سيعلمك كيف تكون مستهلكا أحمقا ومعتمدا ومشغولا بما لا يستحق.
سيعلمك أن البقاء ساعتين على السناب شات لمتابعة ما يحدث في زوايا العالم أهم من نصف ساعة تقرأ فيها من القرآن أو من كتاب أو عشر دقائق تفكر فيها بلا مشتتات.
سيحولك إلى مدمن متلهف للإشعارات على حساب بناء نفسك وذاتك، وعلى حساب صحتك وعقلك. ستقول لك برامج التواصل: أن يبقى يومك مليئا بالإشعارات والريتويت أهم من أن تتعلم كيف تبرمج أو تصمم أو تكتب أو تصنع شيئا مختلفا.
ستعلم وأنت على باب الثلاثين وربما بعدها أنك مسلوب من كل قيمة حقيقية وأن هذا الأشياء أخذت منك ولم تعطك إلا البهجة اللحظية التي تسلب منك الامتلاء والزهو العاقل الذي تمنحه إياك المعرفة!
تعلم التصميم والبرمجة واحترف الطباعة السريعة ودع غيرك ينشغل بمتابعة حسابات المشاهير وما يلبسون وما يقتنون. ستجد نفسك غنيا بالأشياء الثمينة حين يرى غيرك أنفسهم أغنياء بالشتات والشعور بالنقص.
عاداتك:
خذ هذه القاعدة وضعها أمام عينيك: “ لا يوجد طرق مختصرة في هذه الحياة”.
- لا يوجد طريق مختصر لتخفيف الوزن.
- لا يوجد طريق مختصر لتعلم اللغة الإنجليزية.
- لا يوجد طريق مختصر لبناء جسم رياضي “ معتدل” ( أنت لا تحتاج إلى مدعمات بروتين لبناء جسم صحي).
- لايوجد طريق مختصر لبناء معرفة رصينة.
صادف أني كنت أتحدث مع ابن صديق لي عمره في الثامنة عشر عن تخفيف الوزن فقلت له إنه ليس أمرا صعبا لكنه يحتاج إلى عمل يومي. فقال لي: “ مشكلتي أن طبعي ما أقدر أسوي شيء بنفسي لازم أحد يقول لي أسوي كذا”.
يا صديقي أنت الآن في مرحلة بناء العادات وليس في مرحلة الطباع، هذه الكلمة قد تُستوعب من رجل شارف على السبعين وليس ممن لم يطرق العشرين. دع هذه القوانين والطباع الوهمية جانبا وانطلق .. أنت في عمر لم تترسخ فيه القوانين بعد، أنت في عمر الانطلاق والمرونة، خشونة المفاصل يصعب أن تصيب ركبتيك فكيف تصيب خشونة الأفكار عقلك الغض!
الدراسة:
لا تصدق من يقول لك أن المعدل الدراسي غير مهم. صدقني .. ستندم على كل فرصة ضاعت عليك في لهو وقد كنت قادرا على أن تستثمرها في درس أو قراءة أو تعلم ينفعك في دينك ودنياك. ستجد حولك الآن الكثير من الفارغين ممن يحضك على تساهل أو يدفعك لإهمال، لكن ستجد نفسك خاليا من الناس حين تواجه عالما قاسيا لا يعترف إلا بالمتميز ومن لديه ”أوراقا ثبوتية“ تؤكد تميزه رضيت بهذا أم لم ترض! ..
سواء كنت طالبا في الثانوية أو الجامعة أو أقل من ذلك أو أكثر .. ضع في يقينك أن تميزك يفتح أمامك الأبواب حتى لو كانت أحلامك وآمالك محدودة هذه اللحظة. أن تواجه العالم وأمامك أكبر عدد من الخيارات بسبب تميزك خير من أن تعض أصابع الحسرة وأنت تضع قدميك في مكان ما ظننت يوما أنك سترضى بمثله .. ويداك توكي وفوك ينفخ فأحسن الأمرين!
أخيرا:
هذه أفكار من على بوابة الثلاثين .. لم أجدها قبل مجموعة في مكان واحد، بعضها مما اعتادت نفسي عليه وبعضا مما أغالبها عليه. وعلينا البذل والأعمار بيد الله.
_________________________________________
الكاتب: محمد عبدالله الشهري
- التصنيف: