الراجح في حديث الافتراق إلى سبعين فرقة

منذ 11 ساعة

«تفرَّقت اليهود على إحدى وسبعين أو اثنتين وسبعين فرقة، والنصارى مثل ذلك، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة»

 

أصح ما ورد في حديث الافتراق حديث محمد بن عمرو بن علقمة عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تفرَّقت اليهود على إحدى وسبعين أو اثنتين وسبعين فرقة، والنصارى مثل ذلك، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة» .

رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وأحمد بن حنبل وغيرهم، وصححه الترمذي، وحسنه شيخنا مقبل الوادعي رحمه الله في كتابه (الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين) (1317).

وقد جاء هذا الحديث من طرق أخرى كلها فيها ضعف، وقد عد العلامة محمد بن جعفر الكتاني رحمه الله هذا الحديث من الأحاديث المتواترة في كتابه (نظم المتناثر من الحديث المتواتر) رقم (18)، وجاء في بعض تلك الروايات زيادات في آخره كقوله: (كلها في النار إلا واحدة)، أو من هي يا رسول الله؟ قال: (هي الجماعة)، أو (هي ما أنا عليه اليوم وأصحابي)، وكل هذه الزيادات في أسانيدها ضعف، وقد صححها بمجموعها بعض المحدثين رحمهم الله، والله أعلم.

وللنظر في جميع روايات الحديث، وبيان ما فيها من ضعف وعلل، يُنظر كتاب (المفصَّل في تخريج حديث افتراق الأمة) للشيخ على الشحوذ، ورسالة: (حديث الافتراق بين القبول والرد) لحاكم المطيري، والبحثان موجودان في برنامج المكتبة الشاملة الذهبية، والبحث الأول يرجح صاحبه فيه صحة الحديث، والبحث الثاني يرجح صاحبه فيه ضعف الحديث، وفي كلا البحثين فوائد نفيسة.

قال الشوكاني رحمه الله في تفسيره (فتح القدير) (2/ 68): (أما زيادة كونها في النار إلا واحدة، فقد ضعفها جماعة من المحدثين، بل قال ابن حزم: إنها موضوعة)، وممن ضعف هذه الزيادة: العلامة محمد بن إبراهيم الوزير رحمه الله في كتابه (العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم) (1/ 186) و (3/ 172)، وقد رجح العلامة ابن الأمير الصنعاني رحمه الله صحتها في رسالته (افتراق الأمة إلى نيف وسبعين فرقة)، وصححها أيضا الألباني رحمه الله في (السلسلة الصحيحة) (204)، ورد على كلام ابن الوزير والشوكاني، ولا حرج على من ترجح له أحد القولين، فتعليل الأحاديث مبني على غلبة الظن كما قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في (فتح الباري) (1/ 585): (تعليل الأئمة للأحاديث مبني على غلبة الظن).

والذي تطمئن إليه النفس صحة هذا الحديث من غير ذكر أي زيادة في آخره، وإن كان تفسير الفرقة الناجية بالجماعة، وبما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه صحيح المعنى، وإن لم يكن هذا التفسير من قول النبي عليه الصلاة والسلام فهو من قول الصحابة أو التابعين، ولا شك أن البدع شر الأمور، وقد حذَّرنا منها النبي صلى الله عليه وسلم أشد التحذير، وأخبر أن كل محدثة بدعة، وأن كل بدعة ضلالة، وصح عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (كل ضلالة في النار) رواه المروزي في كتاب (السنة) (79) والبيهقي في كتاب (الأسماء والصفات) (413)، بل قد قال الله سبحانه في كتابه: {{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}} [الأنعام: 159]، وتكفي هذه الآية الكريمة في الزجر عن جميع البدع، والتحذير الشديد لأهل البدع والأهواء المختلفة، والحث على إقامة الدين الذي رضيه الله لعباده، وعدم التفرق فيه، كما وصى الله بذلك عباده فقال سبحانه: {{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}} [الأنعام: 153].

هذا، وإنَّ من عقيدة أهل السنة والجماعة أن من دخل النار من أهل البدع الموحِّدين فمآلهم إلى الجنة برحمة الله أرحم الراحمين، كما قال الله سبحانه: {{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا}} [النساء: 116]، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « (( «والذي نفس محمد بيده، إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة» ))» [رواه البخاري (6642) ومسلم (221) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه] .  

وما أحسن قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه ((منهاج السنة النبوية)) (5/ 239 - 241): (المتأوِّل الذي قصده متابعة الرسول لا يكفر، بل ولا يفسق إذا اجتهد فأخطأ، وهذا مشهور عند الناس في المسائل العملية، وأما مسائل العقائد فكثير من الناس كفَّر المخطئين فيها، وهذا القول لا يُعرف عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا عن أحد من أئمة المسلمين، وإنما هو في الأصل من أقوال أهل البدع، الذين يبتدعون بدعة ويُكفِّرون من خالفهم، كالخوارج والمعتزلة والجهمية، ... وإذا لم يكونوا في نفس الأمر كفارا لم يكونوا منافقين، فيكونون من المؤمنين، فيُستغفر لهم، ويُترحم عليهم، وإذا قال المؤمن: {{رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}} [الحشر: 10] يقصد كل من سبقه من قرون الأمة بالإيمان، وإن كان قد أخطأ في تأويل تأوله فخالف السنة، أو أذنب ذنبا، فإنه من إخوانه الذين سبقوه بالإيمان، فيدخل في العموم، وإن كان من الثنتين والسبعين فرقة، فإنه ما من فرقة إلا وفيها خلق كثير ليسوا كفارا، بل مؤمنين فيهم ضلال وذنب يستحقون به الوعيد، كما يستحقه عصاة المؤمنين، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يخرجهم من الإسلام، بل جعلهم من أمته، ولم يقل: إنهم يُخلَّدون في النار، فهذا أصل عظيم ينبغي مراعاته).

اللهم اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم، وارزقنا طاعتك، وطاعة رسولك، ووفقنا للاعتصام بكتابك وسنة رسولك صلى الله عليه وسلم، والحمد لله رب العالمين.

محمد بن علي بن جميل المطري

دكتوراه في الدراسات الإسلامية وإمام وخطيب في صنعاء اليمن

  • 0
  • 0
  • 71

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً