أحكام سلس البول
** سلس البول هو علة يكون فيه استمرار نزول البول نزولاً يستغرق جميع الوقت.
{بسم الله الرحمن الرحيم}
** سلس البول هو علة يكون فيه استمرار نزول البول نزولاً يستغرق جميع الوقت.
** مريض سلس البول وسلس الريح وسلس الغائط ملحق بالمستحاضة عند جمهور الفقهاء، فمن كان حدثه دائما مستمرا، كصاحب سلس البول والريح، يتوضأ لوقت كل صلاة، ولو كان قد توضأ للصلاة التي قبلها قريبا، ويصلي بوضوئه ما شاء من الفروض والنوافل، حتى يدخل وقت الصلاة الأخرى.
وذلك لما في الصحيحين عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ «جَاءَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَبِي حُبَيْشٍ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي امْرَأَةٌ أُسْتَحَاضُ فَلَا أَطْهُرُ أَفَأَدَعُ الصَّلَاةَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (لَا إِنَّمَا ذَلِكِ عِرْقٌ وَلَيْسَ بِحَيْضٍ فَإِذَا أَقْبَلَتْ حَيْضَتُكِ فَدَعِي الصَّلَاةَ وَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ ثُمَّ صَلِّي قَالَ: وَقَالَ أَبِي [أي: عروة بن الزبير] ثُمَّ تَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ حَتَّى يَجِيءَ ذَلِكَ الْوَقْتُ)» [البخاري ومسلم]
** لكن إن علم أن البول ينقطع عنه في وقت يتسع لطهارته وصلاته وجب عليه تأخير الصلاة إلى زمن الانقطاع؛ لأنه يمكنه أن يأتي بالصلاة مع انقطاع الحدث, فكأنه غير معذور. وتبطل صلاته إذا توضأ وصلى مع نزول الحدث.
فعند البعض يستمر السلس زمنا بعد البول ثم ينقطع، بحيث يمكن لصاحبه أن يتطهر ويصلي في الوقت من غير سلس، كمن عرف من عادته أن السلس يستمر ربع ساعة –مثلا- بعد البول ثم ينقطع، ففي هذه الحال، لا يجوز لصاحب هذا السلس أن يدخل في الصلاة إلا بعد انقطاع السلس، ثم يستنجي ويتوضأ.
** وإذا عرف أن السلس ينتهي: فلا يجوز له أن يصلي وهو معه طلبا لفضل الجماعة، وإنما عليه أن ينتظر حتى ينتهي ويستنجيء بعده، ويتوضأ ويصلي صلاته ولو فاتته الجماعة.
قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: "المصاب بسلس البول له حالان:
الأولى: إذا كان مستمرّاً عنده بحيث لا يتوقف، فكلما تجمَّع شيء بالمثانة نزل: فهذا يتوضأ إذا دخل الوقت ويتحفظ بشيء على فرجه، ويصلِّي ولا يضرُّه ما خرج.
الثانية: إذا كان يتوقف بعد بوله ولو بعد عشر دقائق أو ربع ساعة: فهذا ينتظر حتى يتوقف ثم يتوضأ ويصلِّي، ولو فاتته صلاة الجماعة" انتهى
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: "فمن لم يمكنه حفظ الطهارة مقدار الصلاة، فإنه يتوضأ ويصلي، ولا يضره ما خرج منه في الصلاة، ولا ينتقض وضوؤه بذلك باتفاق الأئمة، وأكثر ما عليه: أن يتوضأ لكل صلاة". [مجموع الفتاوى]
** صاحب السلس إذا توضأ قبل الوقت ولم يخرج منه شيء لم تبطل طهارته، هذا إضافة إلى أن المالكية لا يجب عندهم الوضوء لوقت كل صلاة بالنسبة لصاحب السلس، ولكن يستحب له فقط إن لازمه السلس أكثر الوقت ولم يحصل ناقض آخر.
والخارج المعتاد الذي ينقض الوضوء عند المالكية ـ هو البول والغائط ونحوهما، إذا كان خارجا على وجه الصحة، ففي «الفواكه الدواني» في بيان ما ينقض الوضوء: "يَجِبُ لِمَا يَخْرُجُ عَلَى وَفْقِ الْعَادَةِ مِنْ أَحَدِ الْمَخْرَجَيْنِ الْمُعْتَادَيْنِ ـ وَهُمَا الْقُبُلُ وَالدُّبُرُ ـ عَلَى وَجْهِ الصِّحَّةِ، قال في شرح هذه القيود: وَقَيَّدْنَا بِقَوْلِنَا عَلَى وَجْهِ الصِّحَّةِ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ الْخَارِجِ مِنْ الْقُبُلِ، أَوْ الدُّبُرِ عَلَى وَجْهِ السَّلَسِ الْمُلَازِمِ لِصَاحِبِهِ ـ وَلَوْ نِصْفَ الزَّمَنِ ـ فَإِنَّهُ لَا يَنْقُضُ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ مِنْهُ الْوُضُوءُ". انتهى.
** ليس للمستحاضة أن تتوضأ قبل الوقت لتصلي بعده، سواء كان ذلك لإدراك الجماعة أو غيرها لأن طهارتها ستنتقض بدخول الوقت الجديد.
** غير أننا ننبه على أن هذا الحكم متعلق باستمرار الحدث، وخروج الخارج، لكن لو قُدر أن مرض سلس البول توضأ، ثم لم يخرج منه شيء حتى دخل وقت الصلاة الأخرى، لم يلزمه الوضوء، وهو على وضوئه الأول.
فقول الفقهاء: يتوضأ لوقت كل صلاة، مقيد بما إذا خرج منه شيء.
قال البهوتي -رحمه الله- في «الروض المربع»: "(والمستحاضة ونحوها) ممن به سلس بول أو مذي أو ريح ... (تتوضأ لـ) دخول (وقت كل صلاة) إن خرج شيء (وتصلي) ما دام الوقت (فروضا ونوافل)، فإن لم يخرج شيء لم يجب الوضوء" انتهى.
** وإن كان خارج المنزل، وقد انتقضت طهارته بدخول الوقت، وأردك الصلاة فإنه يلزمه إعادة الوضوء بعد غسل المحل، وشده بما يمنع خروج الخارج قدر الإمكان.
** وتطهير الملابس الداخلية يكون بغسلها، وإن خصص لصلاته ثيابا طاهرة يحملها معه كان أرفق به وأيسر، وإن شق عليه غسل الملابس أو تبديلها فيصلي على حاله.
قال الشيخ ابن باز -رحمه الله-: "المريض المصاب بسلس البول ولم يبرأ بمعالجته عليه أن يتوضأ لكل صلاة بعد دخول وقتها، ويغسل ما يصيب بدنه، ويجعل للصلاة ثوبا طاهرا إن لم يشق عليه ذلك، وإلا عفي عنه لقول الله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] وقوله: {{يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}} [البقرة:18]، وقوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) ويحتاط لنفسه احتياطا يمنع انتشار البول في ثوبه أو جسمه أو مكان صلاته.
** ويجب عليه إذا أراد الصلاة أن يغير ملابسه المصابة بالنجس أو يطهرها إن أمكن ذلك ويغسل المحل جيداً، ويشد عليه خرقة أو نحوها مما يمنع نزول الحدث وانتشاره فإن أصيبت ملابسه بشيء من البول بعد التحفظ منه صحت صلاته لأن هذا من النجس المعفو عنه لمشقة الاحتراز عنه.
فإن أصيبت ملابسه بنجس وتعذر عليه تغيير ملابسه أو تطهيرها صلى وصحت صلاته لأن اشتراط الطهارة مقيد بالاستطاعة.
أما إن كان قد فرط في التحفظ من النجاسة حتى تنجس ثوبه ولم يستطيع تطهيره ولم يجد غيره فإن عليه أن يصلي في الوقت ثم عليه أن يعيد هذه الصلاة بعد تطهير ثوبه.
** يجوز للمستحاضة أن تصلي القيام بوضوء العشاء، ولها أن تصلي التراويح بوضوء العشاء، ولو امتدت صلاة التراويح إلى ما بعد نصف الليل.
سئل الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: هل يجوز للمرأة المستحاضة أن تصلي قيام الليل إذا انقضى نصف الليل بوضوء العشاء؟
فأجاب -رحمه الله-: "هذه المسألة محل خلاف، فذهب بعض أهل العلم إلى أنه إذا انقضى نصف الليل وجب عليها أن تجدد الوضوء، وقيل: لا يلزمها أن تجدد الوضوء، وهو الراجح".
إذن جمهور أهل العلم إلى أنه يجب على المصاب بسلس البول أن يتطهر لكل صلاة بالاستنجاء والتحفظ والوضوء، ثم لا يضره ما يخرج بعد ذلك حتى يدخل وقت الصلاة الأخرى، أو ينتقض وضوءه بناقض آخر.
فإن لم يخرج منه شيء حتى دخل وقت الصلاة الأخرى فلا يحتاج إلى طهارة جديدة، ولا يضره ما خرج منه بعد دخول وقت الصلاة الثانية.
قال شمس الدين بن قدامة -رحمه الله-: "ويجب على كل واحد من هؤلاء- من به سلس البول والمذي والريح ونحوهم- الوضوء لوقت كل صلاة، إلا أن لا يخرج منه شيء. وهو قول الشافعي، وأصحاب الرأي.
وقال مالك: لا يجب الوضوء على المستحاضة. وروي ذلك عن عكرمة، وربيعة. واستحب مالك لمن به سلس البول أن يتوضأ لكل صلاة، إلا أن يؤذيه البرد، فإن آذاه فأرجو أن لا يكون عليه ضيق" [الشرح الكبير]
وجاء في «الموسوعة الفقهية الكويتية»: "ومن به رعاف دائم: يتوضأ لوقت كل صلاة، ويصلي به ما شاء من الفرائض والنوافل، هذا عند الحنفية والحنابلة إن خرج منه الدم، أما إن لم يخرج منه شيء فلا يتوضأ عندهم" انتهى.
وذهب المالكية -كما سبق نقله عن "الشرح الكبير"، إلى أنه لا يلزمه الوضوء لكل صلاة إلا بحصول ناقض غير الحدث الدائم، وهو اختيار الشيخ ابن عثيمين رحمه الله، في آخر قوليه.
قال ابن عبد البر -رحمه الله-: "والوضوء عليها -المستحاضة وصاحب السلس ونحوهم- عند الإمام مالك استحباب، على ما ذكرنا عنه؛ لأنه لا يرفع الحدث الدائم، فوجه الأمر به الاستحباب" انتهى من «التمهيد»
قال الشيخ أبو عمر الدبيان -حفظه الله-: "وهذا القول هو الراجح عندي، لأن الآثار في الباب لم تثبت عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من جهة، ولأن هذا القول موافق لقواعد الشريعة من جهة أخرى كما سبق بيانه، وفيه تيسير على المبتلى من النساء ومن به سلس بول، وقد أفتى به جماعة من أهل العلم على رأسهم الإمام مالك وربيعة وعكرمة وأيوب وطائفة، كما سبق ذكره عنهم، وذكر ابن المنذر أن القياس يقتضيه، وهل الشرع كله إلا على وفق القياس، وصرح الحافظ ابن رجب بأنه لم يصح في أمر المستحاضة بالوضوء لكل صلاة حديث". [«موسوعة أحكام الطهارة» للدبيان]
وجاء في تعليق محقِّقي «الشرح الممتع» للشيخ ابن عثيمين: "هذا ما كان يراه شيخُنا -رحمه الله- سابقًا، ثم إنَّه رجَعَ عن ذلك، وقال: إنَّ المستحاضةَ ونحوها ممَّن حدَثُه دائِمٌ، لا يجِبُ عليه الوضوءُ لكلِّ صلاةٍ، بل يُستحَبُّ... وأمَّا رطوبةُ فرْجِ المرأة فالقَولُ بوجوبِ الوُضوءِ منها أضعفُ مِن القَولِ بوُجوبِه في الاستحاضةِ؛ لأنَّ الاستحاضةَ ورد فيها حديثٌ، بخلافِ رُطوبةِ فرْج المرأة، مع كثرة ذلك من النِّساءِ، والله أعلم" [الشرح الممتع]
وقال ابن رجب في فتح الباري: "قلت: والصواب: أن لفظة (الوضوء) مدرجة في الحديث مِن قول عروة.
قالَ ابن عبد البر: والوضوء عليها عند مالك على الاستحباب دونَ الوجوب.
قالَ: وقد احتج بعض أصحابنا على سقوط الوضوء بقول رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (فإذا ذهب قدرها فاغتسلي وصلي)، ولم يذكر وضوءاً.
قالَ: وممن قالَ بأن الوضوء على المستحاضة غير واجب: ربيعة، وعكرمة، ومالك، وأيوب، وطائفة. [فتح الباري لابن رجب]
لكن في شرح أبي داود للعيني: فإن قيل: قوله: (ثم توضئي لكل صلاة) من كلام عروة قلنا: بل هو من كلام النبي -عليه السلام- ولكن الراوي علقه، إذ لو كان من كلام عروة لقال: ثم تتوضأ لكل صلاة. فلما قال: (توضئي) شاكل ما قبله في اللفظ، وأيضاً فقد رواه الترمذي فلم يجعله من كلام عروة ولفظه: "وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وتوضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت " وصحّحه [انتهى]
وفي سنن الترمذي: قَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ فِي حَدِيثِهِ: وَقَالَ: تَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلاَةٍ حَتَّى يَجِيءَ ذَلِكَ الوَقْتُ. وَفِي البَابِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ. حَدِيثُ عَائِشَةَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَهُوَ قَوْلُ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَالتَّابِعِينَ.
وَبِهِ يَقُولُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَمَالِكٌ، وَابْنُ الْمُبَارَكِ، وَالشَّافِعِيُّ: أَنَّ الْمُسْتَحَاضَةَ إِذَا جَاوَزَتْ أَيَّامَ أَقْرَائِهَا اغْتَسَلَتْ وَتَوَضَّأَتْ لِكُلِّ صَلاَةٍ.
وبناء عليه:
فعلى قول الجمهور: إن دخل وقت الصلاة الأخرى، دون أن يخرج منه شيء من البول: فطهارته باقية لتلك الصلاة، ولا يضره ما خرج في وقتها بعد أن دخل وهو على طهارة. لكن صاحب السلس يتوضأ لكل صلاة.
وعلى القول الثاني: لا يلزم الوضوء عند كل صلاة أصلا، ولو استمر نزول البول؛ إلا أن يحصل ناقض آخر.
** في الصلوات التي يشق فيها الوضوء بعد دخول وقتها كالجمعة والعيد فيجوز له الوضوء قبل دخول وقتها بيسير.
سئلت «اللجنة الدائمة» عن رجل تخرج منه غازات باستمرار، فكيف يتوضأ ويصلي؟ فأجابت اللجنة :
إذا كان حالك ما ذكر وأن الغازات مستمرة معك فعليك الوضوء لكل صلاة بعد دخول الوقت ولا يضرك ما يخرجك منك بعد ذلك. وأما الجمعة فتوضأ لها قبل دخول الخطيب في الوقت الذي يمكنك من سماع الخطبة وأداء الصلاة .[فتاوى اللجنة الدائمة]
** فمن كان به سلس بول متقطع، وكان لا ينقطع إلا بعد فوات صلاة الجمعة فإنه يصلي الجمعة ويكون معذورا؛ لأن صلاة الجمعة تفوت بفواتها مع الإمام ولا يمكن تأخيرها، كما يمكن تأخير صلاة الظهر.
** لمريض سلس البول جمع الصلاة، فإذا شق عليه الوضوء وغسل الثياب لكل صلاة فإنه يجوز له الجمع بين صلاتي الظهر والعصر، فيصليهما بوضوء واحد في وقت إحداهما، وكذلك الجمع بين صلاتي المغرب والعشاء. سواء كان داخل البيت أو خارجه.
وقد رخص النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- للمرأة المستحاضة أن تجمع بين الصلاتين. [صححه الألباني في صحيح أبي داود]
قال ابن تيمية :"ويجمع من لا يمكنه إكمال الطهارة في الوقتين إلا بحرج، كالمستحاضة، وأمثال ذلك من الصور" [مجموع فتاوى ابن تيمية]
وقال أيضا في «مجموع الفتاوى»: "ويجمع المريض والمستحاضة".
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: "يجوز الجمع للمستحاضة بين الظهرين (الظهر والعصر) والعشاءين (المغرب والعشاء) لمشقة الوضوء عليها لكل صلاة" [الشرح الممتع]
والأصل في جواز ذلك ما روى أبو داود، والنسائي عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: " اسْتُحِيضَتِ امْرَأَةٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأُمِرَتْ أَنْ تُعَجِّلَ الْعَصْرَ وَتُؤَخِّرَ الظُّهْرَ وَتَغْتَسِلَ لَهُمَا غُسْلًا، وَأَنْ تُؤُخِّرَ الْمَغْرِبَ وَتُعَجِّلَ الْعِشَاءَ وَتَغْتَسِلَ لَهُمَا غُسْلًا، وَتَغْتَسِلَ لِصَلَاةِ الصُّبْحِ غُسْلًا " والحديث صححه الألباني في "صحيح أبي داود".
ولم يشترط الفقهاء للجمع أن تغتسل، لكن اشترطوا وجود المشقة في أداء الصلاة في وقتها.
قال في "كشاف القناع": "(يجوز) الجمع (بين الظهر والعصر) في وقت إحداهما (و) بين (العشاءين في وقت إحداهما) فهذه الأربع هي التي تجمع: الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء في وقت إحداهما، أما الأولى، ويسمى جمع التقديم، أو الثانية، ويقال له جمع التأخير في ثمان حالات إحداها (لمسافر يقصر(...
والحالة الثانية (المريض يلحقه بتركه) أي الجمع (مشقة وضعف) لأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جمع من غير خوف ولا مطر .
وفي رواية من غير خوف ولا سفر رواهما مسلم من حديث ابن عباس، ولا عذر بعد ذلك إلا المرض.
وقد ثبت جواز الجمع للمستحاضة، وهي نوع مرض، واحتج أحمد بأن المرض أشد من السفر، واحتجم بعد الغروب ثم تعشى، ثم جمع بينهما .
وقال ابن عثيمين رحمه الله: "وأما جواز جمعها بين الصلاتين لمشقة الوضوء لكل صلاة فهو جائز، يجوز أن تجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء إذا كان يشق عليها أن تتوضأ لكل صلاة، أما إذا كان لا يشق عليها، فإن الواجب أن تصلي كل صلاة في وقتها" [اللقاء الشهري]
وقال الشيخ ابن باز -رحمه الله-: " إذا أصابه السلس -وهو البول المستمر- يتوضأ لكل صلاة، ويصلي كل صلاة في وقتها، مثل المستحاضة التي معها الدم الدائم، تتوضأ لكل صلاة وتصلي، ولا تسقط عنها ولا عن صاحب السلس الصلاة .
ولهما الجمع إذا شق عليهما الأمر، لكن الرجل ينبغي عليه ألا يجمع حتى يصلي مع الجماعة، أما المرأة إذا جمعت لحاجة فلا بأس؛ لأن الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رخص لحمنة رضي الله عنها أن تجمع" [فتاوى نور على الدرب]
وعُلم من هذا: أن شرط الجمع: حصول المشقة في الوضوء لكل صلاة في وقتها، وأما إذا لم توجد مشقة: فلا يجوز الجمع.
** والمشقة في المستحاضة قد تأتي من تغيير العصابة (الفوطة) وغسل المحل، مع أنه لا يلزمها التجديد والتغيير إلا إذا فرطت في شدها.
وأما صاحبة الإفرازات، فلا يلزمها العصب؛ لأن الإفرازات طاهرة ولا يضرها لو أصابت بدنها أو ثوبها، فالمشقة منتفية غالبا، إلا إذا كانت في السوق أو في سفر ونحوه، فلينتبه إلى هذا.
** الواجب على المستحاضة ومن به سلس البول أن يتحفظ من النجاسة حتى لا تنتشر، فيجعل قطعة قماش أو حفاظة تمنع انتشار النجاسة إلى بدنه وثيابه ويلزمه عند كل صلاة أن يغسل بدنه من النجاسة، ويغير القماش أو الحفاظة.
** آخر وقت صلاة العصر اصفرار الشمس، ويمتد وقتها في حق المضطر كالمريض ونحوه إلى أن تغرب الشمس. وصاحب السلس مريض صاحب عذر، فيجوز له تأخير صلاة العصر إلى اصفرار الشمس إذا لم ينقطع البول قبل ذلك.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "لا يجوز تأخير صلاة العصر إلى اصفرار الشمس إلا لعذر"
** اختلف العلماء في طهارة المستحاضة ونحوها: هل تبطل بخروج الوقت، أم بدخول الوقت الآخر؟ وثمرة ذلك تظهر فيمن توضأت لصلاة الصبح، فهل لها أن تصلي بوضوئها هذا صلاة الضحى وصلاة العيدين أم لا؟
فمن قال: إن طهارتها تبطل بخروج الوقت، منعها من ذلك، لأنها بطلوع الشمس قد انتقضت طهارتها.
ومن قال: إن طهارتها تبطل بدخول الوقت الآخر، أجاز لها أن تصلي الضحى والعيدين بوضوء الصبح لأن طهارتها باقية إلى دخول وقت الظهر والقولان في مذهب الإمام أبي حنيفة وأحمد.
وعند الشافعية ينتقض وضوؤها بمجرد أداء أي فرض، ولو لم يخرج الوقت أو يدخل.
فعلى القول الأول: طهارة المستحاضة تنتقض بخروج الوقت- فإذا انقضى نصف الليل، فقد انتقضت طهارتها، وليس لها أن تصلي قيام الليل حينئذ إلا بوضوء جديد . وكذلك ليس لها أن تصلي الضحى والعيدين بوضوء الصبح، إذا صلت الصبح في وقته
وأما إن توضأت بعد طلوع الشمس وصلت الصبح، فالذي يظهر أن لها أن تصلي الضحى بوضوئها هذا، لأنه لم يخرج وقت بعد وضوئها، وهذا مذهب أبي حنيفة ومحمد بن الحسن.
وعلى القول الثاني: وهو أن طهارة المستحاضة تبطل بدخول الوقت التالي فلها أن تصلي قيام الليل بوضوء العشاء ما لم يدخل وقت الفجر، ولها أن تصلي الضحى بوضوء الصبح، لأن طهارتها باقية إلى الظهر، وهذا القول أولى.. والأحوط أن تتوضأ
** صاحب الحدث الدائم كالمستحاضة، إذا كان في صلاة، وخرج الوقت وهو فيها: بطل وضوؤه، فبطلت صلاته، وعليه أن يتوضأ، ويستأنف الصلاة من أولها.
وهذا مذهب الشافعية والحنابلة وأبي حنيفة ومحمد بن الحسن.
قال الكاساني -رحمه الله- في «بدائع الصنائع»: "ولو توضأت مستحاضة، ودمها سائل، أو سال بعد الوضوء، قبل خروج الوقت، ثم خرج الوقت وهي في الصلاة: فعليها أن تستقبل؛ لأن طهارتها تنتقض بخروج الوقت، لِما بينا.
فإذا خرج الوقتُ قبل الخروج من الصلاة: انتقضت طهارتها، فتنتقض صلاتها. ولا تبني، لأنها صارت محدثة عند خروج الوقت من حين درور الدم، كالمتيمم إذا وجد الماء قبل الفراغ من الصلاة" انتهى.
وقال البهوتي -رحمه الله- في «كشاف القناع»: (وتبطل طهارتها بخروج الوقت أيضا) أي: كما تبطل بدخوله. هذا ظاهر كلامه في الكافي والشرح في غير موضع، كالتيمم.
وقال المجد في شرحه: ظاهر كلام أحمد أن طهارة المستحاضة تبطل بدخول الوقت، دون خروجه، وقال أبو يعلى تبطل بكل واحد منهما" انتهى.
وجاء في «الموسوعة الفقهية»: وينتقض الوضوء بخروج الوقت عند الشافعية، والحنابلة، وأبي حنيفة ومحمد. وينتقض عند زفر بدخول الوقت. وبأيهما عند أبي يوسف.
أما المالكية: فعندهم أن الوضوء لا ينتقض، وهو (أي الوضوء) غير واجب، ولا مستحب، لمن لازمه الحدث كُلَّ الوقت، ومستحب فقط لمن لازمه الحدثُ أكثرَ الوقت، أو نصفه. وقيل: إن لازمه نصفه وجب الوضوء لكل صلاة" انتهى
والقول بأن خروج الوقت ناقض للوضوء في حق المستحاضة ونحوها، مقيد بما لو خرج شيء. فإذا لم يخرج شيء: فهي باقية على وضوئها الأول، ولها أن تصلي به الفريضة التالية، ولا تبطل صلاتها لو خرج الوقت وهي فيها.
والفرق بين من قال: يبطل الوضوء بخروج الوقت، ومن قال: يبطل بدخول الوقت، يظهر أثره في صلاة الصبح، فيبطل الوضوء بطلوع الشمس على القول الأول، وأما على القول الثاني فلا يبطل إلا بدخول وقت الظهر، فلها أن تصلي الضحى والعيدين بوضوئها للصبح.
ثالثا: القول بعدم النقض بخروج الوقت، وهو مذهب المالكية، قول قوي معتبر.
وكذلك القول بأنه لا يجب على المستحاضة الوضوء لوقت كل الصلاة، وأنه لا ينتقض وضوء صاحب الحدث الدائم إلا بناقض آخر، غير الحدث الدائم.
** بالنسبة لصلاة الضحى: من العلماء من قال إنها مؤقتة، فلا بدَّ من الوضوء لها بعد دخول وقتها وهو الممتد من طلوع الشمس بنحو ربع ساعة إلى قبيل الظهر بالمقدار نفسه .
وسئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :هل يجوز لتلك المرأة أن تصلي صلاة الضحى بوضوء الفجر؟ فأجاب :
لا يصح ذلك؛ لأن صلاة الضحى مؤقتة، فلا بدَّ من الوضوء لها بعد دخول وقتها؛ لأن هذه المرأة كالمستحاضة، وقد أمر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المستحاضة أن تتوضأ لكل صلاة .
والظاهر أن الشيخ اعتبر الضحى صلاة مؤقتة، يلزم لها الوضوء عند دخول وقتها.
** يقول مريضة سلس: في الحج وصلت إلى الحرم في غير وقت صلاة وتوضأت وشرعت في الطواف، وأثناء الطواف دخل وقت الصلاة فصليت بدون تجديد الوضوء، نظرا لشدة الزحام، ثم أكملت الطواف والسعي فهل فعلي هذا صحيح؟
أما السعي فلا تشترط له الطهارة، فلو سعيت وأنت على غير طهارة فإن سعيك صحيح .أما إذا تيقنت خروج شيء بعد وضوئك، فكان عليك أن تتوضئي بعد دخول الوقت الجديد، ليصح طوافك وصلاتك. فإذا لم تفعلي فإن طوافك لا يصح عند كثير من أهل العلم.
وذهب بعضهم إلى أن الطواف لا يشترط له الطهارة من الحدث الأصغر، وأن من طاف بغير وضوء صح طوافه، وهذا مذهب الحنفية، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية ورجحه الشيخ ابن عثيمين رحمهما الله، وعلى هذا القول، طوافك صحيح، وحجك صحيح، ولا يلزمك شيء، لكن يلزمك إعادة الصلاة التي صليتها دون أن تتوضئي.
** وإذا أراد صاحب السلس دخول المسجد, فإنه يتحفظ بخرقة, أو نحوها, لئلا تصل النجاسة لفراش المسجد. أما إذا خشي تلويث فراش المسجد, فإنه معذور في التخلف عن الصلاة في المسجد.
جاء في «المغني» لابن قدامة: فأما المستحاضة، ومن به سلس البول، فلهم اللبث في المسجد والعبور إذا أمنوا تلويث المسجد. فإن خاف تلويث المسجد، فليس له العبور؛ فإن المسجد يصان عن هذا، كما يصان عن البول فيه. اهـ
** إذا كان المريض بالسلس يتيقّن أنه لو صلّى في بيته، لم يلحقه السلس؛ فيصلّي بطهارة صحيحة؛ فإنه يفعل هذا، وتسقط عنه الجماعة حينئذ؛ لأن الصلاة بطهارة متيقّنة مقدّمة على الجماعة، و "الفضيلة المتعلقة بنفس العبادة أولى من المتعلقة بمكانها" كما في الأشباه والنظائر للسيوطي
وأما إن كان السلس يلحقه بكل حال، ولكنه يزيد إذا ذهب للمسجد؛ فلا فائدة من صلاته في البيت -والحال هذه-، بل يفعل ما يفعله صاحب السلس من التحفّظ، والوضوء بعد دخول الوقت.
وعليه أن يذهب لصلاة الجمعة، ولا تسقط عنه الجمعة للسلس، ويسعه أن يتوضأ قبل الزوال؛ عملًا بقول الحنابلة القائلين: إن وقت الجمعة يدخل بارتفاع الشمس، وكذا طهارته صحيحة عند المالكية، القائلين: إن الحدث الدائم لا ينقض الطهارة، وهو قول قويّ، يسع العمل به
وقد نص العلماء على أن الطهارة الصحيحة شرط يقدم على بعض أركان الصلاة كالقيام فتقديمه على صلاة الجماعة أولى، قال النووي في «شرح المهذب»: قال البغوي: لو كان سلس البول بحيث لو صلى قائماً سال بوله ولو صلى قاعداً استمسك فكيف يصلي؟ فيه وجهان: (أصحهما): قاعداً حفظاً للطهارة ولا إعادة عليه على الوجهين، وهذان الوجهان في فتاوى القاضي حسين، قال القفال: يصلي قائماً، وقال القاضي حسين: يصلي قاعداً. انتهى.
** الإفرازات التي تخرج من رحم المرأة ناقضة للوضوء في قول الجماهير، وهي طاهرة على الراجح، ومن كانت مبتلاة بدوام خروجها فحكمها حكم صاحب السلس.
** من به حدث دائم كسلس البول ونحوه يلزمه الاستنجاء وتطهير المحل، ثم شده بخرقة أو نحوها دفعا لانتشار النجاسة في الثوب إلا أن يتضرر بالشد، ثم يتوضأ بعد دخول وقت الصلاة، فإذا بطل وضوؤه لزمه إعادة الغسل والتعصيب كما نص على ذلك بعض الفقهاء، وهذا هو الأصح عند الشافعية.
قال النووي في «المنهاج»: ويجب الوضوء لكل فرض وكذا تجديد العصابة في الأصح. انتهى.
وبين النووي في «شرح المهذب» أن هذا الخلاف بين الشافعية في تجديد العصابة لكل فرض يجري فيما إذا أحدثت المستحاضة وفي معناها صاحب السلس بعد الوضوء وقبل الصلاة.
قال -رحمه الله-: قال البغوي والرافعي وهذا الخلاف جار فيما إذا انتقض وضوءها قبل الصلاة واحتاجت إلى وضوء آخر بأن خرج منها ريح فيلزمها تجديد الوضوء وفى تجديد الاحتياط بالشد الخلاف ولو انتقض وضوءها بالبول وجب تجديد العصابة بلا خلاف لظهور النجاسة. انتهى.
ونص بعض الفقهاء على أن إعادة الغسل والعصب لا تلزم لفعل كل صلاة دفعا للمشقة.
جاء في «الروض المربع» مع حاشيته لابن قاسم: (والمستحاضة ونحوها) ممن به سلس البول أو مذي أو ريح أو جرح لا يرقأ دمه أو رعاف دائم (تغسل فرجها) لإزالة ما عليه من الخبث (وتعصبه) عصبا يمنع الخارج حسب الإمكان، وذلك ما لم تتأذ بالشد ويحرقها اجتماع الدم فلا، لما فيه من الضرر. فإن لم يمكن عصبه كالباسور صلى على حسب حاله ولا يلزم إعادتهما لكل صلاة ما لم يفرط أي لا يلزم إعادة الغسل والعصب عند فعل كل صلاة، لأن الحدث مع غلبته لا يمكنه التحرز منه، فإن فرط أعادهما. انتهى بتصرف.
قال صاحب «كشاف القناع»: ولا يلزم إعادة غسل، ولا إعادة تعصيب لكل صلاة حيث لا تفريط في الشدّ، لأن الحدث مع غلبته وقوته لا يمكن التحرز منه، قالت عائشة: اعتكفت مع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- امرأة من أزواجه، فكانت ترى الدم والطست تحتها، وهي تصلي. رواه البخاري. اهـ.
ففي وجوب إعادة التعصيب والتحفظ لكل صلاة خلافا بين القائلين بوجوب وضوء المعذور لكل صلاة، وقد رجح الحنابلة أن ذلك لا يلزم
وعليه فإعادة غسل الموضع والتحفظ أولى بلا شك، فإن شق ذلك عليه فلا حرج في إعادة الوضوء دون تجديد الغسل والشد على ما مر.
وعليه فالشخص المصاب بسلس البول ونحوه بحيث يلازمه في جميع أوقات الصلاة فإن عليه أن يتوضأ لكل صلاة مفروضة ويقوم بغسل محل الحدث غسلاً جيداً ويشد عليه خرقة أو حفاظة أو نحوها مع كامل التحفظ من البول قدر الإمكان،
فإذا جاء وقت الصلاة الأخرى غير الخرقة أو غسلها من النجاسة، لحديث أم سلمة في شأن المرأة المستحاضة، أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال لها: فلتغتسل ثم لتستثفر بثوب ثم لتصل. رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه.
ولا يلزمه تغيير الحفاظة إلا عند الطهارة للصلاة المفروضة أو حصول حدث آخر غير الحدث الدائم كالنوم وغيره من النواقض، ولو كان يريد صلاة نفل كالضحى والوتر إذا نسي تغيير الحفاظة التي يلزم تغييرها وصلى بها فلا إعادة عليه على الراجح من أقوال أهل العلم، وإذا نزع الخرقة فلا يجوز له إعادتها والصلاة فيها إلا بعد تنظيفها ويكفي في ذلك الماء إذا زالت أوصاف النجاسة، أما إذا لم تزل إلا بالصابون فيجب حينئذ.
وذهب بعض أهل العلم كالمالكية إلى أنه لا يلزمه الوضوء لكل صلاة ولا غسل موضع النجاسة دفعاً للحرج والمشقة، قال الدردير -رحمه الله- وهو من المالكية شارحاً قول خليل بن إسحاق في مختصره: (وعفي عما يعسر كسلس لازم) يعفى عن كل ما يعسر التحرز عنه من النجاسات بالنسبة للصلاة ودخول المسجد... والمراد بالسلس: ما خرج بنفسه من غير اختيار من الأحداث كالبول والمذي والمني والغائط يسيل من المخرج بنفسه، فيعفى عنه ولا يجب غسله للضرورة إذا لازم كل يوم ولو مرة اهـ.
وفي هذا المذهب من اليسر والسهولة ورفع الحرج ما لا يخفى، ولا حرج عليك في الأخذ به.
** حكم الموالاة بين الاستنجاء والوضوء وبينهما وبين الصلاة لصاحب السلس: صاحب السلس لا يجزئه غسل محل الحدث, والتحفّظ بخرقة قبل دخول وقت الفريضة، بل يكون ذلك مثل الوضوء، يكون لكل فريضة بعد دخول وقتها فأوجب ذلك الشافعية لكن لم يوجبه الحنابلة.
فلقد اشترط الشافعية الموالاة بين الاستنجاء، والوضوء، والصلاة، بالنسبة لصاحب السلس، إذا كان السلس غير حدث ريح.
ومذهب الشافعية كما ذكره الخطيب في «مغني المحتاج»: وَبَعْدَ مَا ذُكِرَ تُبَادِرُ بِهَا ـ أَيْ بِالصَّلَاةِ ـ وُجُوبًا تَقْلِيلًا لِلْحَدَثِ، لِأَنَّهُ يَتَكَرَّرُ مِنْهَا وَهِيَ مُسْتَغْنِيَةٌ عَنْهُ بِالْمُبَادَرَةِ، بِخِلَافِ الْمُتَيَمِّمِ السَّلِيمِ لِانْتِفَاءِ مَا ذُكِرَ، أَمَّا غَيْرُ السَّلِيمِ فَالْحُكْمُ فِيهِ كَمَا هُنَا، فَلَوْ أَخَّرَتْ لِمَصْلَحَةِ الصَّلَاةِ كَسَتْرٍ لِعَوْرَةٍ وَأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ وَانْتِظَارِ جَمَاعَةٍ وَاجْتِهَادٍ فِي قِبْلَةٍ وَذَهَابٍ إلَى مَسْجِدٍ وَتَحْصِيلِ سُتْرَةٍ لَمْ يَضُرَّ، لِأَنَّهَا لَا تُعَدُّ بِذَلِكَ مُقَصِّرَةً، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَصِحُّ التَّمْثِيلُ بِأَذَانِ الْمَرْأَةِ مَعَ أَنَّهُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ لَهَا؟ أُجِيبَ بِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْإِجَابَةِ وَبِأَنَّ تَأْخِيرَهَا لِلْأَذَانِ لَا يَسْتَلْزِمُ أَذَانَهَا، وَلَوْ اعْتَادَتْ الِانْقِطَاعَ بِقَدْرِ مَا يَسَعُ الْوُضُوءَ وَالصَّلَاةَ، فَانْقَطَعَ وَجَبَ عَلَيْهَا الْمُبَادَرَةُ وَلَا يَجُوزُ لَهَا التَّأْخِيرُ لِجَمَاعَةٍ وَلَا لِغَيْرِهَا، وَإِلَّا بِأَنْ أَخَّرَتْ لَا لِمَصْلَحَةِ الصَّلَاةِ كَأَكْلٍ وَشُرْبٍ وَغَزْلٍ وَحَدِيثٍ فَيَضُرُّ التَّأْخِيرُ عَلَى الصَّحِيحِ فَيَبْطُلُ وُضُوؤهَا فَتَجِبُ إعَادَتُهُ وَإِعَادَةُ الِاحْتِيَاطِ لِتَكَرُّرِ الْحَدَثِ وَالنَّجَسِ مَعَ اسْتِغْنَائِهَا عَنْ احْتِمَالِ ذَلِكَ بِقُدْرَتِهَا عَلَى الْمُبَادَرَةِ، وَالثَّانِي: لَا يَضُرُّ كَالْمُتَيَمِّمِ، قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ: وَحَيْثُ أَوْجَبْنَا الْمُبَادَرَةَ، قَالَ الْإِمَامُ: ذَهَبَ ذَاهِبُونَ مِنْ أَئِمَّتِنَا إلَى الْمُبَالَغَةِ وَاغْتَفَرَ آخَرُونَ الْفَصْلَ الْيَسِيرَ، وَضَبَطَهُ بِقَدْرِ مَا بَيْنَ صَلَاتَيْ الْجَمْعِ. اهـ.
جاء في كتاب «نهاية الزين في إرشاد المبتدئين»، وهو شافعي أثناء الحديث عن شروط الوضوء: (ودخول وقت)، أو ظن دخوله (لدائم حدث)، كسلس بول، وهو الذي يتقاطر بوله دائما، ويشترط له -أيضا- تقدم الاستنجاء على الوضوء؛ لأنه يشترط لطهره تقدم إزالة النجاسة، وتقدم التحفظ مثل الحشو، والعصب، والموالاة بين الاستنجاء، والتحفظ، والموالاة بينهما، وبين الوضوء، ويستثنى من ذلك ما إذا كان السلس بالريح، فلا يشترط الموالاة بين ذلك، والموالاة بين أفعاله، وأما الموالاة بين الوضوء، والصلاة، فشرط لجواز فعل الصلاة به، لا شرط لصحته، كما قاله الرشيدي. اهـ.
وفي «حاشية البجيرمي على الخطيب الشافعي»: قوله: (وبين الوضوء)، وكذا بين الوضوء، والصلاة أيضا، وهذا في سلس نحو البول، كالمذي، أما سلس الريح، فالواجب عليه الموالاة بين أفعال الوضوء، وبين الصلاة، لا بين الاستنجاء، وبين الوضوء. اهـ
وذهب بعض أهل العلم إلى أن صاحب السلس لا يجب عليه تجديد الاستنجاء، ولا التعصيب عند كل صلاة، فمن باب أولى أنه يجوز له أن يستنجي قبل دخول الوقت، ويتوضأ بعده.
فالحنابلة الواجب عندهم أن تتوضأ بعد دخول وقت الصلاة ثم تصلي ما شاءت من فرض ونفل، ولا يجب عندهم تجديد الغسل, والتعصيب لكل فريضة؛ لما في ذلك من المشقة.
ففي «شرح العمدة» لشيخ الإسلام ابن تيمية: ويجب إعادة غسل الدم والتعصيب لوقت كل صلاة؛ كالوضوء في أحد الوجهين، سواء ظهر الدم في ظهر العصابة، أو كان بباطنها، والآخر: لا يجب، وهو أقوى؛ لأن في غسل العصائب كل وقت، وتجفيفه، أو إبداله بطاهر؛ مشقة كبيرة؛ بخلاف الوضوء، ولأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما أمرها بالوضوء لكل صلاة، لم يذكر غسل الدم، وعصب الفرج.
مع أن بعض أهل العلم -كالمالكية- يقولون: إن صاحب السلس لا يلزمه الوضوء لكل صلاة، ولا غسل موضع النجاسة.
** لا حرج على الذي يأخذ بقول المالكية في مسلة السلس لأن الأخذ برخص العلماء عند الحاجة مع كون ذلك ليس دأبا للمكلف ولا ديدنا له مما سوغه كثير من العلماء ولم يعدوه من تتبع الرخص المذموم شرعا.
وهذه المسألة من مسائل الاجتهاد قطعا، فإن أمر المستحاضة بالوضوء لكل صلاة قد ضعفه بعض الأئمة ـ كمسلم صاحب الصحيح وغيرهـ وإن خالفهم غيرهم فأثبتوها، ومن ثم، فالعمل بقول الجمهور أحوط وأبرأ للذمة. ولكن لا حرج في العمل بقول المالكية عند الحاجة والمشقة الشديدة، كما أسلفنا.
** لا شك أن الطهارة من النجاسة في بدن المصلي وثوبه شرط لصحة الصلاة في قول أكثر أهل العلم، منهم: ابن عباس، وسعيد بن المسيب، وقتادة، ومالك، والشافعي، وأصحاب الرأي.
ومن الأدلة على ذلك: قوله تعالى: {وثيابك فطهر} [المدثر:4] وحديث أسماء رضي الله عنها -قالت: سئل رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن دم الحيض يكون في الثوب؟ فقال: (اقرصيه وصلي فيه) وفي رواية: (فإن رأت فيه دماً فلتقرصه بشيء من ماء، ولتنضح ما لم تر، وتصلي فيه) [أبو داود].
ولا شك أن النجاسة المؤثرة هي التي لا يعفى عنها، أما إن كانت مما يعفى عنه، فلا حرج على المرء أن يصلي بها مثل: أثر الاستنجاء (اليسير) وأثر الدم…الخ.
أما بخصوص من صلى وعلى ثوبه نجاسة -لا يعفى عنها- فإن صلى وهو عالم بها، فلا تصح صلاته، لأنه خالف أمر الله ورسوله، فوجب عليه إعادة الصلاة.
وإن صلى وهو متلبس بالنجاسة على الثوب، لكن جهلها حتى فرغ من الصلاة، ففي هذه المسألة ثلاثة أقوال:
أحدها: لا تفسد صلاته. وهو قول: ابن عمر، وعطاء، وسعيد ابن المسيب، وسالم، ومجاهد، والشعبي، والزهري، وإسحاق، وابن المنذر، والشافعي في قول، وأحمد في رواية، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية.
والثاني: يعيد الصلاة وهو قول: أبي قلابة، والشافعي في الأصح، والإمام أحمد في رواية، وعليها المذهب، لأنها طهارة مشترطة للصلاة، فلم تسقط بجهلها، كطهارة الحدث.
والقول الثالث: قول ربيعة ومالك: أنه يعيد ما كان في الوقت ولا يعيد بعده.
أما إذا كان يعلم بوجود النجاسة، وفي نيته إزالتها، ولكنه نسي وصلى، ثم تذكر بعد ذلك ففي وجوب الإعادة عليه خلاف بين العلماء.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فلو صلى وببدنه أو ثيابه نجاسة، ولم يعلم بها إلا بعد الصلاة، لم تجب عليه الإعادة في أصح قولي العلماء، وهو مذهب مالك وغيره، وأحمد في أقوى الروايتين، وسواء كان علمها ثم نسيها، أو جهلها ابتداء، لما تقدم من أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صلى في نعليه، ثم خلعهما في أثناء الصلاة، لما أخبره جبريل أن بهما أذى، ومضى في صلاته، ولم يستأنفها، مع كون ذلك موجوداً في أول الصلاة، لكن لم يعلم به، فتكلفه للخلع في أثنائها، مع أنه لولا الحاجة لكان عبثاً أو مكروها يدل على أنه مأمور به من اجتناب النجاسة مع العلم، ومضيه يدل على العفو عنها في حال عدم العلم بها) [مجموع الفتاوى] وعلى هذا فالراجح - والله أعلم - أنه لا تجب الإعادة في المسألتين
** شعور المرء بخروج المني، أو البول، أو المذي: إن كان هذا الشعور مجرد شك؛ فإنه لا يلزمه البحث ولا التفقد، وإنما يكفيه أن يبني على الأصل، وهو أنه لم يخرج منه شيء، فإن اليقين لا يزول بمجرد الشك، وقد شُكِيَ إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: الرجل، يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة، قال: لا ينصرف، حتى يسمع صوتًا، أو يجد ريحًا. والحديث متفق عليه، ويتأكد هذا في حق من كان مبتلى بكثرة الشكوك.
ففي البخاري ومسلم عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ عَنْ عَمِّهِ أَنَّهُ شَكَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الرَّجُلُ الَّذِي يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَجِدُ الشَّيْءَ فِي الصَّلَاةِ فَقَالَ: (لَا يَنْفَتِلْ أَوْ لَا يَنْصَرِفْ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا)
وفي مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إِذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ فِي بَطْنِهِ شَيْئًا فَأَشْكَلَ عَلَيْهِ أَخَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ أَمْ لَا فَلَا يَخْرُجَنَّ مِنْ الْمَسْجِدِ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا).
** المني طاهرٌ، وخروجه بسبب المرض لا يجب فيه الغسل، فإذا خرج بغير لذة -كخروجه لمرض، أو برد-؛ فإنه لا يجب عليه الغسل، ويُكتفى فيه بالوضوء عند إرادة الصلاة، وما تشترط له الطهارة.
أما المذي، والبول، نجسان، وخروجهما ناقض للوضوء، كما أن خروج المني ناقض للوضوء، لكن إذا بلغ خروج البول، أو المذي، أو المني حدَّ السلس؛ لم يلزمه الوضوء كلما خرج، ويكفيه حينئذ الوضوء عند دخول الوقت، فتتوضأ لكل صلاة بعد دخول وقتها، وتصلي الفريضة، وما تشاء من النوافل، ولا يلزمك إعادة الوضوء في الوقت.
جمع وترتيب
د/ خالد سعد النجار
- التصنيف: