إنما الضَّوابِط عَصا الأعمى!
"... ولم يُحْسِن الحافظُ في عدم قَبُول تحسين الترمذيِّ، فإن مَبْناه على القواعد لا غير، وحُكم الترمذيِّ يُبنى على الذوق والوِجْدَان الصحيح. وإنَّ هذا هو العلم، وإنَّما الضوابطُ عَصا الأعمى".
"... ولم يُحْسِن الحافظُ في عدم قَبُول تحسين الترمذيِّ، فإن مَبْناه على القواعد لا غير، وحُكم الترمذيِّ يُبنى على الذوق والوِجْدَان الصحيح. وإنَّ هذا هو العلم، وإنَّما الضوابطُ عَصا الأعمى".
فيض الباري، للكَشْمِيري (٦/ ٢١٦)..
ربما يظن المطلع على هذه العبارة أنها مبالغة من العلامة الكشميري لزجر المشتغلين بعلم الحديث عن الافتتان بأحكام المتأخرين من المحدثين والانصراف عن علوم من تقدمهم من نقاد المحدثين وحفاظهم من الأئمة المتقدمين ..
ولكن الأمر ليس كذلك فإن العلامة الكشميري في كلمته العميقة هاته إنما ينهى عن الإيغال في تجريد علوم الحديث عن واقع الصنعة عند الحذاق من المحدثين الذين لم يكن من شأنهم طرد قواعد الصنعة طردا أعمى مجردا عن القرائن المحتفة بالنص والتي ربما أوجبت العدول عن مقتضى القواعد إلى ما دلت عليه قرائن الحال مما يستوجب في الناقد البصير تيقظا لتلكم القرائن وملكة نافذة وذوقا عاليا حتى يكون حكمه بثبوت النص أو عدمه دقيقا مستوعبا ..
وأحسب أن هذا ليس قاصرا على علم الحديث وصنعته فحسب بل هذا واقع العلوم كلها فالفقيه الحاذق مثلا لا يتعامل مع قواعد الفقه وأصوله معاملة الرياضي مع قواعد الحساب بل إني لأحسب أن أهل العلوم التجريبية لا يتعاملون مع قواعدهم تعاملا تجريديا دون تحسب لبعض العوامل التي تؤثر في واقعهم الذي يعالجونه بل يجعلون لهذه العوامل اعتبارا وربما كانت بعض العوامل مانعة من جريان تلكم القواعد فالحاذق إذن لا يجعل حكمه حكما تجريديا لا وجود له إلا في ذهنه بحجة أن هذا هو ما تقتضيه قواعد العلم بل يدقق النظر في واقعه ويستوعبه استيعابا تاما متبصرا بما يمكن أن يمنع جريان تلك القواعد على ظاهرها فلا يقصر نظره على مجرد تطبيق القواعد دون اعتبار لما قد يعرض لتلكم القواعد من قرائن أو موانع تحول دون طرد تلكم القواعد طردا ساذجا يشبه إلى حد كبير طرد الظاهرية للألفاظ دون التفات لمعانيها التي سيقت الألفاظ لها فهذا النوع من التعامل مع النصوص في طرد ألفاظها أو طرد معانيها وعللها هو بالفعل عصا الأعمى كما عبر العلامة الكشميري فالعلم الصحيح لا يوقف عليه بتجريد القواعد عن الوقائع بل يوقف عليه بالحذق التام الذي يتوسل بالقواعد ويستهدي بها ولكنه لا يكتفي بطردها طردا ساذجا أعمى متجردا عن ما يقتضيه النظر الصحيح المستوعب للواقع بقرائنه وعوامله المؤثرة فيه .. فتأمل هذا الكلام فإنه جدير بالتأمل ..
- التصنيف: