رتِّب أعداءك!

منذ 4 ساعات

على العاقل أن يُرتّب خصومه على مراتب: فينظر إلى أشدّهم عداوة وأعظمهم خطراً، فيقدّمه في الحذر والمواجهة، ثم إلى من هو دونه ضرراً، فيعامل كلّاً بما يليق بقدره.

من تمام العقل، وكمال الحكمة، وصحيح التدبير، أن يُرتِّب المرء أعداءه كما يُرتِّب أصدقاءه؛ فإنّ الأصدقاء ليسوا سواء: فهذا صديقُ سرّاءٍ وضرّاء، يثبت معك في الرخاء والشدة، وذاك صديقُ سرّاءٍ دون ضرّاء، لا تراه إلّا في أيام اليسر، وثالثٌ لا يتجاوز بصحبته حدود المؤانسة، فلا يُغني عند الملمّات، ولا يُواسي عند الشدائد.

وكذلك الخصوم ليسوا على مرتبةٍ واحدة: فمنهم من يتربّص بك الدوائر، يودّ لو استأصلك من الجذور، واجتثّك من الوجود اجتثاثاً.

ومنهم من لا يريد القضاء عليك بالكلية، وإنما يسعى إلى كسرك، وإيقاف مسيرك، وتعويقك عن بلوغ غايتك.

ومنهم من غايته إضعافك والتضييق عليك، لا استئصالك ولا تحطيمك ولا منعك من الوصول، بل مجرد تأخير وصولك. فوضع هؤلاء جميعاً في سلّةٍ واحدة، والتعامل معهم بالمنهج ذاته، خطأٌ بيّنٌ، وخللٌ عظيم.

وتتضاعف خطورة هذا الخلل داخل الصفّ المسلم، حين يغيب الوعي بهذه الحقيقة؛ فتجد المرء ـ أو يجد أخاه ـ قد اصطفّ إلى جانب عدوّه وعدوّ أخيه، لا لشيءٍ إلا لأنّ العداوة بينه وبين أخيه قد تضخّمت جدا في نفسه حتى أعمت بصره وبصيرته، فغفل عن تنزيل حكم الشرعة في هذا الموقف، وعن رؤية المشهد الكلّي، وعن إدراك موازين القوى، ومقتضيات المصلحة، والضرورات التي توجب ترتيب الأولويات.

ومن هنا كان لزاماً على العاقل أن يُرتّب خصومه على مراتب: فينظر إلى أشدّهم عداوة وأعظمهم خطراً، فيقدّمه في الحذر والمواجهة، ثم إلى من هو دونه ضرراً، فيعامل كلّاً بما يليق بقدره.

ويراعي في ذلك عدّة معايير: شدّة العداوة وضعفها، مقدار الضرر وسعته، البعد عن الملّة أو القرب منها، شدّة القوة أو وهنها، ثم حاله هو: قوّةً كان أم ضعفاً، وحدةً كان أم فرقةً، وبخاصة في حالة كون الأعداء متكالبون عليه من كلّ أفقٍ وحدبٍ وصوب.

بل حتى في حال القوة والتمكّن، يبقى واجب العدل قائماً لا يسقط؛ فلا يسوّي المرء بين الخصوم جميعاً، ولا يُنزِلهم منزلةً واحدة، ولا يستعمل معهم أسلوباً واحداً في المواجهة والتعرية أو في المداراة والتقريب. بل يعطي كلَّ ذي حقٍّ حقَّه، ويضع كلَّ خصمٍ فيه موضعه، مسترشداً بالعدل الذي قامت به السماوات والأرض.

نسأل الله أن يهدينا جميعا سواء السبيل، وأن يرزقنا الحكمة، وحسن البصيرة، وأن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن.
وهو الهادي

_______________________________________
الكاتب: د.فيصل بن علي البعداني

  • 1
  • 0
  • 43

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً