حينما ينسج فكرك الحياة
"إياك أن تجعل مفتاح حزنك وفرحك وهمك وانشراح صدرك بيد أحد، وكن أنت من يتحكم بمشاعرك وهمومك وأفراحك وأحزانك".
يا سائلي عن النجاح:
اعلم أن النجاح ـ يا صاحبي ـ ليس وصفةً تُحفظ، ولا مهارةً تُكتسب فحسب؛ إنما هو أسلوب حياة، وطريقة تفكير، ومعراج صبرٍ يتصاعد مع الأيام والليالي.
ومما يُمهّد الطريق نحوه؛ أن تُحكم طريقتك في النظر، وصنعتك في التفكير، وميزانك الذي تقيم به الأشياء.
أجل، إن الحياة ليست إلا أفكارًا تتحرك، فما أشرق منها كان نورًا وسرورًا، وما أظلم منها كان شقاءً وهمًّا، وهي التي تصوغ لحظاتها في سعادة أو شقاء، وتلون مشاهدها بالضياء أو الكدر.
وما وجودنا إلا ثمرة ما يعتمل في صدورنا من خواطر، فإن سمت الأفكار؛ سمت الحياة، وإن خَبَت؛ خبت معها النفوس.
أقول ذلك وأنا أستعيد في هذا المقام وصيةً جليلة من شيخي إذ قال لي يومًا: "إياك أن تجعل مفتاح حزنك وفرحك وهمك وانشراح صدرك بيد أحد، وكن أنت من يتحكم بمشاعرك وهمومك وأفراحك وأحزانك". ثم أردفها بعبارة تختصر الطريق: "اجعل جهاز التحكم بيدك أنت، ولا تجعله بيد الآخرين".
نعم، إن تلك الوصية على قصرها كانت من أخصب ما علق بذاكرتي، وما زلت أفيء إلى ظلالها كلما غشيتني الهموم، فأجد فيها برد اليقين، وسكينة العقل.
وأنت لو نظرت في أحوال الناس لرأيت عجبًا من سلطان الآخرين عليهم؛ كلمة مُغرضة تُلقى؛ فتهدم صفاءهم، أو موقف عابر يقلب نهارهم ليلًا.
وترى الواحد منهم إذا مسّه من الآخرين شيء، انقلب ذلك على خُلقه ونفسه، فأظلمت سماءه واضطربت مشاعره، وربما تعطّلت أعماله، وانحسرت علاقاته، وما ذاك إلا لضعف في النفس، وخور في العزيمة، إذ سلّموا قيادَ أرواحهم للغير، ورضوا أن يكونوا أسرى لظلال العابرين.
ومن ضعف الشخصية، وقلة رباطة الجأش: أن نسمح لغيرنا أن يرسموا لنا وجوه الفرح والحزن، وأن يخطّوا بأيديهم فصول مشاعرنا ومشاريعنا.
والعاقل حقًا من أدرك قصر العمر، فلا يزيده قِصرًا بالانغماس في الهموم، ولا يسلّم قياده لخيالات سوداء ومواقف عفا عليها الزمن، ولم يستهلكه في اجترار الماضي، ولا في تضخيم الحوادث الصغار حتى تغدو جبالًا.
دعْ المواقف السيئة تموت في قبرها، ولا تستدعها لتذيق نفسك بها موتًا جديدًا كل يوم، فالماضي قد انقضى، ومن الحكمة أن يُدفن ما مات منه، لا أن يُستحضر كمدًا، فما أعجب أولئك الذين يحلبون من ضرع الأمس هموم اليوم وغدًا!
وخلاصة القول ومربطه: لا تجعل للآخرين أثرًا يزلزل قلبك، ولا تفتح لهم بابًا على دخيلة نفسك؛ بل ضع لكل أمر حدَّه وقيمته، وقدِّر الأمور بقيمتها الصحيحة، بلا تهويل ولا تضخيم.
وتذكر دومًا أن الحياة غالية، وأشرف من أن تُنفق في مثل هذه الأباطيل. فلا تبددها في سفاسف الأمور، واشغلها بما يسرك أن تلقى الله به إذا أسدل ستار العمر، ووُضعت في لحدك، وخُلّيت بينك وبين عملك.
هنالك ستتمنى تسبيحةً أو ركعةً أو صدقةً أو دمعةَ إخلاصٍ بين يدي ربك. وقد أحسن الرافعي بقوله : "ودقيقة باقية من العمر هي أمل كبير في رحمة الله".
ويا لها من كلمة خالدة لا يزال صداها يعمل فيّ، وهذه الدقيقة بين يديك الآن، فاملأها بما يرضي الله، ولا تهدِرها بما لا ينفع.
فالحمد لله ما زلنا في فسحة الإمكان، فلنرِ الله من أنفسنا خيرًا، ولنجعل لفكرنا سلطانًا ينسج حياة تليق بكرامة الروح وسمو الغاية.
________________________________________
الكاتب: طلال الحسان
- التصنيف: