عدم التعارض بين الأمر بتدبر القرآن وفهمه كما فهمه السلف
وقد وصف الله أصحاب نبيه بأنهم أهل العلم، قال الله سبحانه: {﴿بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾}
القرآن كلام الله أنزله بالحق، وهو قول فصل وليس بالهزل، قال الله سبحانه: ﴿إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ * وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ﴾ [الطارق:13-14]، وقال تعالى: {﴿وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ } [فصلت:41-42 ]، ولكلام الله معنى يريده الله، ويعرف مراد الله بما بينه هو في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم أو بينه أصحاب رسوله الذين هم أعلم الناس بالقرآن؛ لأنهم عاصروا التنزيل، وعرفوا أسباب النزول، والقرآن الكريم نزل بلغتهم العربية، فتفسيرهم وتفسير تابعيهم الذين أخذوا العلم عنهم مقدَّم على تفسير غيرهم.
وقد وصف الله أصحاب نبيه بأنهم أهل العلم، قال الله سبحانه: {﴿بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾} [العنكبوت: 49]، وقال عن المنافقين {: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا﴾} [محمد: 16]، وكيف لا يكون أصحاب النبي كذلك ومعلمهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟!
وقد أمرنا الله في كتابه الكريم بأن نؤمن كإيمانهم، وأن نقتدي بهم، فقال الله تعالى: {﴿فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا﴾} [البقرة:137]، فأخبرنا الله بأن مَنْ آمن بمثل ما آمنوا به فقد اهتدى، وقال سبحانه: {﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾} [التوبة:100]، فمن أراد الجنة فليتبعهم في علمهم وعملهم وأخلاقهم، وقد أخبر الله عن المنافقين أنهم يصفون الصحابة بسفاهة الرأي ويحتقرونهم، قال الله عز وجل: {﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ } [البقرة: 13] قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره (1/ 182): "يعنون - لعنهم الله - أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، رضي الله عنهم، قاله أبو العالية والسدي في تفسيره، بسنده عن ابن عباس وابن مسعود وغير واحد من الصحابة، وبه يقول الربيع بن أنس، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم، يقولون: أنصير نحن وهؤلاء بمنزلة واحدة، وعلى طريقة واحدة وهم سفهاء؟!!".
وقال ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين (4/117): "لا ريب أن أقوال الصحابة في التفسير أصوب من أقوال من بعدهم، .. فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين لهم معاني القرآن وفسره لهم كما وصفه تعالى بقوله: {﴿لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ } [النحل: 44]، فبين لهم القرآن بيانا شافيا كافيا، وكان إذا أشكل على أحد منهم معنى سأله عنه، فأوضحه له" انتهى باختصار.
والقرآن الكريم كتاب مجيد، وسيع المعاني عظيمها، كثير الوجوه، كثير البركات، والمجد: سعة الأوصاف وعظمتها، فقد احتوى القرآن على ما يحتاجه الأولون والآخرون، وهو أعظم من أن يحيط بجميع معانيه عالِمٌ ومفسِّرٌ واحد أو علماء زمن معين، فإن من عظمة القرآن أنه لا تنقضي عجائبه، وهو يهدي للتي هي أقوم في كل زمان ومكان، كما قال الله تعالى: { ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾} [الإسراء:9 ] أي: لأحسن الخصال في كل شيء، سواء للأفراد والأسر والمجتمعات والدول، وقال الله سبحانه: { ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾} [النحل:89]، فكل ما نحتاج إليه في ديننا بينه الله لنا في كتابه العظيم نصا أو دلالة أو استنباطا، علمه من علمه، وجهله من جهله.
ويجوز الاستنباط من القرآن الحكيم بشرطين هما:
الشرط الأول: أن يحتمل المعنى المستنبط ظاهر لفظ القرآن، بما يوافق قواعد اللغة العربية في الإفراد والتركيب.
الشرط الثاني: أن لا يخالف المعنى المستنبط صريح القرآن أو السنة الصحيحة، فإن القرآن حق يصدق بعضه بعضا، والسنة حق توافق القرآن ولا تخالفه، فمن أتى باستنباط أو معنى جديد يخالف ما قرره القرآن أو السنة الصحيحة فإنه خطأ يقينا لا يُقبل بحال، وأما إن أتى باستنباط أو معنى جديد يحتمله لفظ القرآن ولا يخالف ما قرره القرآن أو السنة الصحيحة فإنه يُقبل؛ لأن القرآن الكريم حمَّال أوجه، وهذا من عظمته، فالآية الواحدة قد تُفسَّر بأكثر من قول إن كانت تلك الأقوال صحيحة المعاني، ويحتملها اللفظ القرآني بما يوافق قواعد اللغة العربية التي أنزل الله القرآن بها.
وقد بين أهل العلم بطلان تفسير الذين يحرفون معاني القرآن بما يوافق أهواءهم؛ لأنها تخالف ما قرره الله في آيات أخرى أو تخالف ما ثبت في سنة النبي صلى الله عليه وسلم أو تخالف ما أجمع عليه السلف الصالح.
وإن من أسباب الضلال تكلف الاستنباط واتباع المتشابه لرد المحكم، وهذه طريقة أهل الزيغ والأهواء كما قال الله سبحانه: {﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ * رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ * رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾} [آل عمران: 7-9].
روى البخاري (4547) ومسلم (2665) عن عائشة رضي الله عنها قالت: « تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾ إلى قوله: ﴿وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم))» .
قال ابن عثيمين رحمه الله في كتابه أصول في التفسير ص 45: "الراسخون في العلم أصحاب العقول، يعرفون كيف يُخرِّجون هذه الآيات المتشابهة إلى معنى يتلاءم مع الآيات الأخرى، فيبقى القرآن كله محكما لا اشتباه فيه. والحكمة في تنوع القرآن إلى محكم ومتشابه أنه لو كان القرآن كله محكما لفاتت الحكمة من الاختبار به، تصديقا وعملا لظهور معناه، وعدم المجال لتحريفه، والتمسك بالمتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، ولو كان كله متشابها لفات كونه بيانا، وهدى للناس، ولَـَما أمكن العمل به، وبناء العقيدة السليمة عليه، ولكن الله تعالى بحكمته جعل منه آيات محكمات، يرجع إليهن عند التشابه، وأخر متشابهات امتحانا للعباد، ليتبين صادق الإيمان ممن في قلبه زيغ، فإن صادق الإيمان يعلم أن القرآن كله من عند الله تعالى، وما كان من عند الله فهو حق، ولا يمكن أن يكون فيه باطل أو تناقض لقوله تعالى: ﴿لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ [ فصلت: 42 ]، وقوله تعالى: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً﴾ [النساء: الآية 82 ]، وأما مَنْ في قلبه زيغ، فيتخذ من المتشابه سبيلا إلى تحريف المحكم، واتباع الهوى، في التشكيك في الأخبار، والاستكبار عن الأحكام؛ ولهذا تجد كثيرا من المنحرفين في العقائد والأعمال يحتجون على انحرافهم بهذه الآيات المتشابهة!" انتهى بتصرف يسير.
والناس في الإعجاز العلمي للقرآن الكريم على ثلاثة أصناف: طرفين ووسط:
قوم بالغوا في إثبات الإعجاز العلمي في القرآن، وتكلفوا في حمل كثير من الآيات على بعض الحقائق العلمية مع عدم احتمال اللفظ القرآني لما ذهبوا إليه، بل وفسروا بعض الآيات القرآنية وفق بعض النظريات التي لم تثبت بالأدلة القطعية، وهؤلاء أفرطوا وتكلفوا.
وقوم نفوا الإعجاز العلمي في القرآن جملة وتفصيلا، وهؤلاء فرَّطوا وقصروا.
وقوم توسطوا، فأثبتوا منه ما احتمله لفظ القرآن بلا تكلف، بشرط أن يكون الإعجاز في حقيقة علمية لا نظرية قابلة للقبول والرد، فإن ثبت الإعجاز فسروا الآية بما فسرها السلف أولا بالإضافة إلى المعنى الجديد، فإن القرآن الكريم حمَّال أوجه، فما احتمله لفظ القرآن موافقا لقواعد اللغة وغير مخالف لما ثبت في الكتاب والسنة؛ فإنه مقبول سواء كان هذا القول قديما أو جديدا؛ فإن القرآن العظيم لا تنقضي عجائبه، فهذا هو الموقف الصحيح من الإعجاز العلمي في القرآن الكريم بلا إفراط ولا تفريط.
وبهذا يُعلم عدم التعارض بين الأمر بتدبر القرآن الكريم وبين وجوب فهمه كما فهمه السلف، بل لا يستطيع الإنسان تدبر كثير من آيات القرآن حتى يرجع إلى كتب التفسير ليفهم المعنى المراد، وبعد فهم المعنى المراد يتم التدبر، وقد يفتح الله لبعض العباد وجوها من الاستنباط، كما في صحيح البخاري (3047) عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: إلا فهما يُعطيه الله رجلا في القرآن.
قال الإمام الشافعي رحمه الله في كتابه الرسالة (ص:19): "فكل ما أَنزل في كتابه - جل ثناؤه - رحمة وحجة، عَلِمه من علمه، وجهله من جهله، لا يعلم من جهله، ولا يجهل من علمه. والناس في العلم طبقات، موقعُهم من العلم بقدْر درجاتهم في العلم به. فحقَّ على طلبة العلم بلوغُ غاية جهدِهم في الاستكثار من علمه، والصبرُ على كل عارض دون طَلَبِه، وإخلاص النية لله في استدراك علمه نصاً واستنباطاً، والرغبة إلى الله في العون عليه، فإنه لا يُدرَك خيرٌ إلا بعونه. فإن من أدرك علم أحكام الله في كتابه نصاً واستدلالاً، ووفقه الله للقول والعمل بما علِم منه: فاز بالفضيلة في دينه ودنياه، وانتفت عنه الرِّيَب، ونَوَّرت في قلبه الحكمة، واستوجب في الدين موضع الإمامة ... قال الشافعي: فليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليلُ على سبيل الهدى فيها".
وقال ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين (1/ 449 - 451): "وأما التأمل في القرآن فهو تحديق ناظر القلب إلى معانيه، وجمع الفكر على تدبره وتعقله، وهو المقصود بإنزاله، لا مجرد تلاوته بلا فهم ولا تدبر، قال الله تعالى {: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾} [ص: 29]، وقال تعالى: {﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾} [محمد: 24]، وقال تعالى: {﴿أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ﴾} [المؤمنون: 68]، وقال تعالى: {﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾} [الزخرف: 3]، وقال الحسن: نزل القرآن ليُتدبر ويُعمل به، فاتخذوا تلاوته عملا!! فليس شيء أنفع للعبد في معاشه ومعاده، وأقرب إلى نجاته من تدبر القرآن، وإطالة التأمل فيه، وجمع الفكر على معاني آياته، فإنها تُطلِع العبد على معالم الخير والشر بحذافيرهما، وعلى طرقاتهما وأسبابهما وغاياتهما وثمراتهما، ومآل أهلهما، وتتل في يده مفاتيح كنوز السعادة والعلوم النافعة، وتثبت قواعد الإيمان في قلبه، وتشيد بنيانه وتوطد أركانه، وتريه صورة الدنيا والآخرة والجنة والنار في قلبه، وتحضره بين الأمم، وتريه أيام الله فيهم، وتبصره مواقع العبر، وتشهده عدل الله وفضله، وتعرفه ذاته، وأسماءه وصفاته وأفعاله، وما يحبه وما يبغضه، وصراطه الموصل إليه، وما لسالكيه بعد الوصول والقدوم عليه، وقواطع الطريق وآفاتها، وتُعرِّفه النفس وصفاتها، ومفسدات الأعمال ومصححاتها، وتعرفه طريق أهل الجنة وأهل النار وأعمالهم، وأحوالهم وسيماهم، ومراتب أهل السعادة وأهل الشقاوة، وأقسام الخلق واجتماعهم فيما يجتمعون فيه، وافتراقهم فيما يفترقون فيه.
وبالجملة تعرفه: الرب المدعو إليه، وطريق الوصول إليه، وما له من الكرامة إذا قدم عليه.
وتعرفه في مقابل ذلك ثلاثة أخرى: ما يدعو إليه الشيطان، والطريق الموصلة إليه، وما للمستجيب لدعوته من الإهانة والعذاب بعد الوصول إليه.
فهذه ستة أمور ضروري للعبد معرفتها، ومشاهدتها ومطالعتها، فتُشهده الآخرة حتى كأنه فيها، وتغيبه عن الدنيا حتى كأنه ليس فيها، وتميز له بين الحق والباطل في كل ما اختلف فيه العالَم. فتُريه الحق حقا، والباطل باطلا، وتعطيه فرقانا ونورا يُفرِّق به بين الهدى والضلال، والغي والرشاد، وتعطيه قوة في قلبه، وحياة، وسعة وانشراحا وبهجة وسرورا، فيصير في شأن والناس في شأن آخر.
فلا تزال معانيه تنهض العبد إلى ربه بالوعد الجميل، وتحذره وتخوفه بوعيده من العذاب الوبيل، وتحثه على التضمر والتخفف للقاء اليوم الثقيل، وتهديه في ظلم الآراء والمذاهب إلى سواء السبيل، وتصده عن اقتحام طرق البدع والأضاليل، وتبعثه على الازدياد من النعم بشكر ربه الجليل، وتبصره بحدود الحلال والحرام، وتوقفه عليها لئلا يتعداها فيقع في العناء الطويل، وتثبت قلبه عن الزيغ والميل عن الحق والتحويل، وتسهل عليه الأمور الصعاب والعقبات الشاقة غاية التسهيل. وفي تأمل القرآن وتدبره، وتفهمه، أضعاف أضعاف ما ذكرنا من الحكم والفوائد. وبالجملة فهو أعظم الكنوز". انتهى كلام ابن القيم باختصار.
وقال السعدي رحمه الله في تفسيره (ص:712): " فيه خير كثير، وعلم غزير، فيه كل هدى من ضلالة، وشفاء من داء، ونور يستضاء به في الظلمات، وكل حكم يحتاج إليه المكلفون، وفيه من الأدلة القطعية على كل مطلوب، ما كان به أجل كتاب طرق العالم منذ أنشأه الله .. الحكمة من إنزاله، ليتدبر الناس آياته، فيستخرجوا علمها، ويتأملوا أسرارها وحكمها، فإنه بالتدبر فيه والتأمل لمعانيه، وإعادة الفكر فيها مرة بعد مرة، تدرك بركته وخيره، وهذا يدل على الحث على تدبر القرآن، وأنه من أفضل الأعمال، وأن القراءة المشتملة على التدبر أفضل من سرعة التلاوة التي لا يحصل بها هذا المقصود".
هذا، ولم يزل أهل العلم قديما وحديثا يستخرجون من كتاب الله الهدايات القرآنية، الظاهرة والخفية، فمستقل ومستكثر، فالحق بالرَّكب، وأقبِل على كتاب الله، واقرأ ما تيسر من كتب التفاسير قديمها وحديثها، فهي تعينك على تدبر القرآن، والله يهدي بالقرآن من اتبع رضوانه، وأخلص نيته، {﴿قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} ﴾ [المائدة: 15، 16].
- التصنيف: