اللهم إنا نسألك يقينا صادقا..
العنصر الأول: حديث القرآن والسنة عن اليقين. العنصر الثاني: المقصود باليقين. العنصر الثالث: إشكال في آية، وبالفهم المسقيم يزول.
أيها الإخوة الكرام : في القرآن الكريم تكلمت الآيات البينات بالثناء الحسن، والذكر الجميل، عن صفة من صفات أهل الإيمان، وهي أن المؤمن صاحب يقين بالله عز وجل..
قال الله تعالى : { {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ}}
وقال عز من قائل : {{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ}}
وفي شأن سيدنا إبراهيم عليه السلام قال الله تعالى: {وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ}
وأتى الحديث أيضاً عن يقين المؤمن بالله عز وجل في سنة النبي صلى الله عليه وسلّم
قال النبي ﷺ: « (سَلُوا اللَّهَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فَإِنَّ أَحَدًا لَمْ يُعْطَ بَعْدَ الْيَقِينِ خَيْرًا مِنَ الْعَافِيَةِ)»
وقال عليه الصلاة والسلام: «(إِنَّ الله تَعالى بِقِسْطِه وَعَدْلِه جَعَلَ الرَّوْحَ والْفَرحَ في الرِّضا وَالْيَقِين)»
القرآن الكريم يحدثنا عن اليقين، وأحاديث النبي عليه الصلاة والسلام تحدثنا عن اليقين، وهذا يدعونا لأن نسأل:
ما المقصود باليقين؟
اليقين هو : أمان وإيمان، اليقين هو ثقة واطمئنان إلى أنه لا إله إلا الله، هو وحده خالق كل شيء، هو وحده مالك كل شيء، هو وحده بيده مقاليد كل شيء، رزقي عليه، أجلي بيديه، سعادتى مرهونة برضاه، هو وحده الفعال لما يريد، لا قاب ولا باسط إلا هو، لا فارج للهم إلا هو ، ولا كاشف للغم إلا هو ، ولا منفس للكرب إلا هو..
وَلَرُبَّ نازِلَةٍ يَضيقُ لَها الفَتى ذَرعاً * وَعِندَ اللَهِ مِنها المَخرَجُ
ضاقَت فَلَمّا اِستَحكَمَت حَلَقاتُها * فُرِجَت وَكُنتُ أَظُنُّها لا تُفرَجُ
كان يدعو ﷺ: «"اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَنَا الْيَوْمَ مِنْ خَشْيَتِكَ مَا يَحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعَاصِيكَ، وَمِنْ طَاعَتِكَ مَا تُبَلِّغُنَا بِهِ رَحْمَتَكَ، وَمِنَ الْيَقِينِ مَا تُهَوِّنُ عَلَيْنَا بِهِ مَصَائِبَ الدُّنْيَا"» .
اليقين هو: إيمانك بأن الله تعالى لن يظلمك، بأن الله تعالى لن يضيعك، فإذا انقطعت وانعدمت جميع الأسباب، فسيبقى مسبب الأسباب سبحانه وتعالى، وإذا أغلقت كل الأبواب فسيبقى الباب الذي بينك وبين الله تعالى مشرعا..
على ساحل البحر الأحمر وعلى حدود الصحراء الشرقية لمصر، وعند خروج بني إسرائيل من مصر، وقف سيدنا موسي ومعه بنو إسرائيل، وقفوا والبحر أمامهم والعدو يطلبهم من خلفهم يومها غلب اليقين في وعد الله تعالىعلى سيدنا موسى عليه السلام {{فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَىٰ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ، قَالَ كَلَّا ۖ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ، فَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ ۖ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ، وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ، وَأَنجَيْنَا مُوسَىٰ وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ، ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ }}
وعلى عتبة غار ثور وقفت قريش ينظرون يريدون رسول الله وصاحبه، فجعل أبو بكر يعبر عن خوفه على رسول الله أن تأخذه قريش، فجعل يمس في أذن النبي صلى الله عليه وسلم يقول : يا رسول الله لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا فيغلب اليقين على قلب النبي محمد صلى الله علي وسلم فينطلق لسانه فيقول ( يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما) يا أبا بكر لا تحزن إن الله معنا، هذا مشهد من مشاهد قوة اليقين في حياة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلّم..
وفي سورة الأنبياء مشهد آخر:
{{وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَـٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ ۚ وَكَذَٰلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ }}
ذو النون: هو سيدنا يونس عليه السلام وهو أحد أنبياء بني إسرائيل ، بعث وهو ابن ثمان وعشرين سنة، وقد أرسله الله تعالى أهل نينوى، وهي قرية من قرى العراق، وأنزل عليه فيهم كتابا فيه آيات وأحكام بنو إسرائيل يعرفونه ويقدسونه..
سيدنا يونس بن متى أرسله الله تعالى إلى أهل نينوى وكانوا غرباء عنه، ولم يكونوا من أهل بلده ولا من قبيلته ولا من عشيرته..
فدعاهم إلى الإيمان، وإلى عبادة الله الواحد الأحد فأبطؤا عليه، فغضب لله عليهم، وغضب لله منهم، فدعا عليهم وهجرهم وركب البحر وتركهم، فبينما هو في لجة البحر إذ ارتجت السفينة من ثقل ما عليها فما كان منهم إلا أن اقترعوا فوقعت القرعة على نفر من الناس من بينهم سيدنا يونس عليه السلام مرة ومرتين وثلاثة والقرعة تقع على سيدنا يونس عليه السلام فما كان إلا أن ألقى بنفسه في البحر ..
فأمر الله حوتا أن يشق البحر فيلتقم يونس عليه السلام..
وهنا اجتمعت على يونس الشدائد من كل ناحية ( ظلمة الليل، ظلمة البحر، ويقين يونس عليه السلام في ذلك الوقت هو أن الله تعالى لن يضيق عليه، وأن الله تعالى لن يضيعه..
{{وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ}}
أما الظن في هذه الآية فيراد به اليقين الذي لا يدخل الشك..
وأما قوله {{ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ}} فمعناها أن يونس عليه السلام لم وهو فيما هو فيه من الكرب والغم لم يضعف يقينه في الله عز وجل، لم يفقد الأمل، ولم تتزعزع ثقة في الله تعالى حبة خردل..
{وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ} والمعنى: أن يونس عليه السلام وقد تجمعت عليه ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة بطن الحوت كان على يقين أن الله لن يقدر عليه، أي أن الله لن ييق عليه، وأن الله تعالى لن يضيعه، ولم يكتف سيدنا يونس عليه السلام بيقينه الذي في قلبه، بل شغل نفسه وحرك لسانه بالدعاء والتسبيح والذكر لله رب العالمين..
قال الله جل في علاه {{وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَـٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ ۚ وَكَذَٰلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ }}
اليقين هو: إيمانك أن أحداً لا يملك نفعا ولا ضرا لنفسه أو لغيره فالفاعل والآمر والناهي في هذا العالم هو الله سبحانه وتعالى..
قال النبي عليه الصلاة والسلام «وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَو اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ لَكَ، وَلَو اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْكَ، رُفِعَت الْأَقْلَامُ وَجَفَّت الصُّحُفُ».
أيها الإخوة الكرام: جعل الله في هذا العالم كتابين منشورين أحدهما مسطور، والآخر منظور، لا ينتفع بما في هاذين الكتابين إلى من عظم يقينه في الله عز وجل..
أما الكتاب المسطور فهو القرآن الكريم فيه آيات بينات لا يتعظ بها ولا يتجاوب معها إلا الموقنين....
{تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ، هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ، الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ }
وأما الكتاب المنظور فهو هذا الكون الفسيح الناطق في كل زاوية منه وفي كل... بأنه لا إله إلا الله، أودع الله تعالى في هذا العالم دلائل ربوبيته وألوهيته كما في الآية الكريمة:
{{وفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ}}
هذا اليقين يدفع الإنسان دفعا لبذل المعروف وعمل الصالحات
اليقين يدفع صاحبه لأن يعمل من صالح الأعمال ما يبي وجهه بين يدي الله سبحانه وتعالى..
طرق فقير من فقراء المؤمنين باب عمر بن الخطاب وهو يومها خليفة المسلمين فقال السائل:
( يا عمر الخير جزيت الجنة) ( أكس بناتي وأمهن) (وكن لنا في ذا الزمان جنة) (أفسم بالله لتفعلن)
قال عمر ( ولئن لم أفعل يكون ماذا؟
قال ( عنهن والله لتسألن) (في يوم تكون الأعطيات منه) ( وموقف المسئول بينهن) (إما إلى نار وإما إلى جنة)
فدخل عمر بيته فجاء بثوبه فدفعه للسائل، فقال السائل لم فعلت؟ قال خذه ليوم تكون الأعطيات منه وموقف المسئول بينهن إما إلى نار وإما إلى جنة..
اليقين يملأ القلب نُوراً وإِشراقاً وإِيماناً ومَحَبّةً للهِ الحكيم العليم..
اليقين يملأ القلب تعظيما للهِ رب العالمين وثِقَةً فِي الله..
خلا رجل بامرأة في صحراء، فراودها عن نفسها، فخافت، فقال لا تخافي فلا راني إلا الكواكب، فقالت: وأين مكوكبها؟!
فتركها ولم يتعرض لها..
اليقين يعلم المسلم كيف يحسن الظن بربه، وكيف يتوكل على الله حق توكله..
الإنسان مع اليقين راض عن الله، راض بما قدر الله، راض بما قسم الله عز وجل..
قال الحبيب النبي صلى الله عليه وسلّم «( إِنَّ لِكُلِّ شَيءٍ حَقِيقَةً، ومَا بَلَغَ عَبْدٌ حَقِيقَةَ الإِيمانِ حَتَّى يَعلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخطِئهُ، ومَا أَخطأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصيبَهُ)»
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يحبب إلينا الإيمان وأن يزينه في قلوبنا إنه ولي ذلك ومولاه وهو على كل شيء قدير.
الخطبة الثانية
بقي لنا في ختام الحديث عن حديث القرآن الكريم عن اليقين وعن الموقنين، بقي لنا أن نقول إن من الآيات البينات التي أحدثت إشكالا في الفهم عند الناس آية من سورة البقرة وتحديدا هذه الآية:
{{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَـٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي }}
يقولون: كيف للخليل ابراهيم أن يسأل ربه هذا السؤال وهو رسول كريم وهو أبو الأنبياء ؟
يقولون: كيف لإبراهيم عليه السلام أن يسأل عن قدرة الله على إحياء الموتي وهو أعلم الناس بأن الله تعالى قادر على إحياء الموتي..
والجواب: أن الخليل ابراهيم لم يسأل عن قدرة الله على إحياء الموتي فهو مؤمن بأن الله قادر على أن يخلق من عدم ثم إنه يعلم يقينا أن الله سبحانه وتعالى قادر على إحياء العظام بعدما صارت رفاتا..
لذلك قال الله تعالى له {{ أَوَلَمْ تُؤْمِن ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَـٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي }}
والسؤال: يطمئن قلب إبراهيم إلى ماذا؟
أراد إبراهيم أن يري بعينيه ليطمئن قلبه إلى كيفية إحياء الله تعالى للموتى ولذلك لم يقل الخليل ( رب هل تقدر على إحياء الموتي)؟ وإنما قال {{ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ }} ؟ وبهذا المنطوق وبهذا المفهوم من الآية.. الآية ليس فيها إشكال..
كان إبراهيم عليه السلام يعلم يقينا أن الله قادر على إحياء الموتي، لكنه أراد أن ينتقل من درجة علم اليقين ( أنه يعلم) إلى درجة عين اليقين (أنه رأى وشاهد بعينيه) فأحب إبراهيم أن يرى الكيفية بعينيه فطلب أن يراها ، فاستجاب الله لطلب إبراهيم فأراه الله كيف يحيي الموتى..
{{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَـٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ۖ قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا ۚ وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}}
الإنسان مع اليقين في الله تعالى على درجة من درجات الإيمان، ومع علم اليقين أعلى درجة، ومع عين اليقين يصل الإنسان إلى أرقى درجات الإيمان..
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا الثبات على الإيمان حتى الممات إنه ولي ذلك والقادر عليه.
------------------------------------------------------------------------------
جمع وترتيب : الشيخ / محمد سيد حسين عبد الواحد.
إمام وخطيب ومدرس أول .
إدارة أوقاف القناطر الخيرية.
مديرية أوقاف القليوبية . مصر
- التصنيف: