وقفات تربوية مع سَيّد الأخلاق

منذ 18 ساعة

لا يكاد يختلف اثنان على أهمية خُلُق الحِلْم ، وأننا في حاجة ماسة إلى التخلق به ، ولِما لا وقد سَمَّته العرب قديمًا (سَيّد الأخلاق) ، وذلك لقِلّة من يتّصف به من الناس!!  ولعظم منزلته بين الأخلاق عامَّةً.

 

لا يكاد يختلف اثنان على أهمية خُلُق الحِلْم ، وأننا في حاجة ماسة إلى التخلق به ، ولِما لا وقد سَمَّته العرب قديمًا (سَيّد الأخلاق) ، وذلك لقِلّة من يتّصف به من الناس!!  ولعظم منزلته بين الأخلاق عامَّةً.

أولاً: تعريف الحِلْم:

  يقال: حَلُم الشَّخصُ: أي تأنَّى وسكن عند غضبٍ أو مكروهٍ، تحلَّم فلانٌ: تكلَّف ضبطَ النَّفْس

 والحِلْم هو ضبط النَّفس عند هيجان الغضب. وقيل: تأخير العقوبة عن مستحقها؛ والجمع: أَحلام وحُلوم.

 وضدُّه ( السَّفَه)، وهو خفةٌ ورعونة يقتضيها نقصان العقل.

 والحليم من اتسع صدره لمساوئ الخلق.

 والحليم اسمٌ من أسماء الله الحُسنى؛ وقد ورد في مواضع كثيرةٍ من القرآن الكريم، ومعناه:

الذي لا يستخفه شىء من عصيان العباد ولا يستفزه الغضب عليهم، ولكنه جعل لكل شيء مقدارا فهو مُنْتَهٍ إليه.

ثانياً: الحِلْم من صفات الأنبياء : وصف الله نبيَّه إِبْرَاهِيم بالحلم، فقال تعالى:  {{إنَّ إبْرَاهِيمَ لَـحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ}} [هود: ٧٥]، وقال تعالى:  {{إنَّ إبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ}} [التوبة: ١١٤]، ووصف نبيَّه إسماعيل فقال سبحانه: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} [الصافات: ١٠١].

أما النبي محمد صلى الله عليه وسلم  فكان - كما يقول أبو الحسن الماوردي - أحلم في الخصام من كل حليم، وقد مُنيَ بجفوة الأعراب فلم يوجد منه نادرةٌ، ولم يحفظوا عليه بادرةً، ولا حليم غيره إلَّا ذو عثرة، ولا وقور سواه إلَّا ذو هفوة، فإن الله تعالى عصمه من نزغات الهوى وطيش القدرة، ليكون بأمته رؤوفاً، وعلى الخلق عطوفاً...» ([1]).

ثالثاً: من فضائل الحلم

للحِلم فضائل كثيرة ، منها:

1- أفضل الأعمال: قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "درجة الحلم- والصبر على الأذى والعفو عن الظلم - أفضل أخلاق أهل الدنيا والآخرة ، يبلغ الرجل بها ما لا يبلغه بالصيام والقيام"

وذكر أبو حامد الغزالي في كتاب الإحياء أنه اجتمع سفيان الثوري وأبو خزيمة والفضيل بن عياض، فتذاكروا الزهد ، فأجمعوا على أن أفضل الأعمال: الحلم عند الغضب، والصبر عند الجزع.

2- الترفّع عن مجاراة السُّفهاء: جاء في المثل :  لا يَنْتَصف حليمٌ من جهول : وهو مثل يُضْرب في غلبة الجهول للحليم؛ لأنّ الجاهل يُزيد عليه في المهاترة ، والحليم يربَأ بنفسه عن مغالبته في السَّفاهة. لذلك قيل: طوبى لمن كان له حِلْم يردُّ به جَهل الجاهلِ.

 فلو لم يكن في الحلم خصلة تُحمَد إلا ترك اكتساب المعاصي والدخول في المواضع الدنسة لكان الواجب على العاقل أن لا يفارق الحلم مَا وجد إلى استعماله سبيلاً

قال الشّافعيّ- رحمه الله-:

يخاطبني السّفيه بكلّ قبح ... فأكره أن أكون له مجيبا

يزيد سفاهة فأزيد حلما ... كعود زاده الإحراق طيبا

أي: كلما اشتد لهب النار في عود البخور، كان عطره أطيب وأكثر انتشارًا

و قال الشّاعر:

وفي الحلم ردع للسّفيه عن الأذى ... وفي الخُرق إغراء فلا تك أخرقا

ومعنى الخُرق أي الحمق

3- دليل كمال العقل وسعة الصّدر، وامتلاك النّفس: بيَّن صلى الله عليه وسلم  أن القوي ليس هو الذي يقدر على صرع الأبطال من الرجال؛ إنما القوي حقيقة هو الذي يكظم غيظه ويقاوم نفسه ويتغلب عليها عند ثوران الغضب، ففي الحديث المتفق عليه : «ليس الشَّديد بالصُّرَعَة؛ إنَّما الشَّديد الذي يملك نفسه عند الغضب» .

 والصُّرَعَة بِفَتْح الرَّاء: الَّذِي يصرع الرِّجَال. ونلاحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم  حَوَّلَ المعنى من القوة الظاهرة إلى الباطنة، وكما قيل: العجب لَيْسَ فِي قُوَّة البدن، إِنَّمَا العجب فِي قُوَّة النَّفس.

وسُئِل حكيم: أي الرجال أشجع؟ قال: من رَدَّ جهله بحلمه.

4- نيل محبة الله عز وجل: قال الله تعالى:  {{وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْـمُحْسِنِينَ}} [آل عمران: ١٣٤]. وإن العبد لَيَشتدُّ فرحه يوم القيامة بما له قِبل الناس من الحقوق في المال والنفس والعرض. فالعاقل يَعُدُّ هذا ذخراً ليوم الفقر والفاقة. ولا يُبْطِلُهُ بالانتقام الذي لا يُجْدِي عليه شيئاً. لذا قال الحسن: ما نَحَل (أي أعطى) الله عبادَه شيئاً أجلَّ من الحلم.

وقد أثنى صلى الله عليه وسلم  على أحد صحابته بقوله: «إنَّ فيك لخصلتين يحبِّهما الله: الحلم والأناة» رواه مسلم، والأَنَاة: هي التَّأنِّي في الأمور وعدم العجلة.

ومما يروى عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: «ابْتَغُوا الرِّفْعَةَ عِنْدَ الله. قيل: وما هي؟ قال: تَحْلَمُ عَمَّنْ جَهِلَ عَلَيْكَ وتُعْطِي مَنْ حَرَمَكَ».

فإذا بلغ العبد ذروة هاتين الخصلتين فقد فاز بالقدح المعلَّى وحل في مقام الرفعة عند المولى... وقد اتفقت الْمِلَلِ والنِّحَلِ على أن الحلم والسخاء يرفعان العبد وإن كان وضيعاً، وأنهما أصل الخصال الموصلة إلى السعادة العظمى وما سواهما فرع عنهما»([2]).

5- طمأنينة النَّفس وراحة البال: «أَجَلُّ الناس مرتبة من صَدَّ الجهلَ بالحلم، وما الفضل إلا لمن يُحسن إلى من أساء إليه، فأما مجازاة الإحسان إحساناً فهو المساواة في الأخلاق، فلربما استعملها البهائم في الأوقات، ولو لم يكن في الصفح وترك الإساءة خصلة تُحمَد إلا راحة النفس ووداع القلب، لكان الواجب على العاقل أن لا يكدر وقته بالدخول في أخلاق البهائم بالمجازاة على الإساءة إساءة»([3]).

رابعاً: من أقوال الحكماء في الحلم

«مَن حَلُمَ وَقَى عِرْضه»، «من عفا ساد ومن حلُمَ عَظُم»، «حِلْم ساعة يردُّ سبعين آفة»،«حِلْم ساعة يدفع شرا كثيرا »،  « لو كان للحلم أبوان لكان أحدهما العقل والآخر الصمت»،  وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «ليس الخير أَنْ يَكْثُرَ مَالُكَ وولَدُكَ، ولكنَّ الخير أَنْ يَكْثُرَ عِلْمُكَ ويَعْظُمَ حِلْمُكَ...». وقال أيضاً: «أَوَّلُ عِوَضِ الحَلِيمِ عَنْ حِلْمِهِ أَنَّ النَّاسَ كلَّهم أعوانه على الجاهل».

وكان الأحْنَفُ ابن قَيْس يُضرب به المثل في الحِلم، فيقال للشَّخص كثير التأنِّي والسُّكون : «أَحْلَمُ مِنَ الأَحْنَفِ» ، وكان إذا تعجب الناس من حلمه يقول: والله إني لأجد ما تجدون ولكني صبور. ومن أقواله : لست بحليم ولكني أتحلم. ومن أقواله أيضا : وجدتُ الحِلْمَ أنصر لي من الرجال. وهو نفس المعنى الذي أشار إليه الشاعر في قوله : 

والحلمُ أفضلُ ناصرٍ تدعونَهُ ... فالزمْهُ، يكفكَ قلةَ الأنصارِ

خامساً: الوسائل المعينة على التخلق بخلق الحِلْم

 الحلم منه ما يكون سجيّة وطبعا ومنه ما يكون بالكسب، بمعنى أن الإنسان يُمَرّن نفسه عليه ، ويُكتَسَب خُلق الحِلم بعدة أمور، منها:

 1- المجاهدة، والتربية، والتكرار، والتعود: ودليل ذلك ما رُوِي عن النبي صلى الله عليه وسلم  أنه قال: «إنما العلم بالتعلم، وإنما الحِلمُ بالتحلُّمِ، ومن يتحرَّ الخيرَ يُعطَهْ، ومن يتَّقِ الشر يُوقَّه» ، رواه البيهقي.

 أشار بهذا إلى أن اكتساب الحلم طريقه التحلم أولا وتكلفه، كما أن اكتساب العلم طريقه التعلم ، فإن الله تعالى إذا علم من عبده إرادة الخير واجتهاده في تحصيله أعطاه إيَّاه، إذ الخير كله بيده.

2- تَذَكُّر كثرة حلم الله على العبد: الواجب على العاقل إذا غضب واحتدّ أن يذكر كثرة حلم الله عنه مع كثرة عصيانه له.

وكما تحب أن يحلم عنك مالِكُكَ، فاحلُم أنت عمَّن تملك، لأنك متعبد بالحلم مثاب عليه، ولذلك قال محمّد بن السّعديّ لابنه عروة لمّا وليّ اليمن: إذا غضبت فانظر إلى السّماء فوقك وإلى الأرض تحتك، ثمّ عظّم خالقهما

3- استحضار فوائد الحلم وآثاره الطيبة: وكذلك تذكُّر عواقب ومساوئ أضداد الحلم، كالطيش والعجلة والحِدَّة والتسرع وعدم الثبات وسرعة الغضب والإصرار على الانتقام.

 وما أجمل قول ابن قيم الجوزية في كتاب الفوائد: «إذا خَرَجَتْ من عدوك لفظة سَفَه فلا تلحقها بِمِثْلِها تُلَقِّحُها، ونَسْلُ الخصام نَسْلٌ مَذْمُوم. حَميَّتُك لنفسك أَثَرُ الجهل بها، فلو عَرَفْتَها حَقَّ معرفتها؛ أعَنْتَ الخَصْمَ عليها، إذا اقْتَدَحَتْ نار الانتقام من نار الغضب ابتدأتْ بإحراق القادح، أَوْثِقْ غضبك بسلسلة الحِلْم؛ فإنَّه كَلْبٌ إنْ أَفْلَتَ أتْلَف».

4- اجتناب أسباب الغضب وبواعثه: ومِنها: فضول الكلام ، والعُجْب، والمِراء، والمزاح (فبدْؤه حلاوة وآخره عداوة).

 ويدخل في ذلك أيضا: تذكير النفس بوقائع الغضب السابقة بأن يستحضر في نفسه الثمرةَ المُرَّة لغضبٍ سابقٍ ندم عليه، وفي الأثر: «لاَ حَلِيمَ إِلاَّ ذُو عَثْرَةٍ ». أي لا يحصل له الحِلْم و يُوصَفُ به حتى يركب الأمور وتصعب عليه ويعثر فيها، فيعتبر بها ويستبين مواضع الخطأ فيتجنبها.

 

5- الأخذ بأسباب علاج الغضب إذا وقع: ومنها: الاستعاذة بالله من الشيطان. وتحول الغاضب عن الحال التي يكون عليها؛ فإن كان قائماً جلس، وإن كان جالساً اضطجع. والوضوء والإكثار من ذكر الله تعالى. وقبول النصح ممن ينصحه في هذا الموقف. والنصوص على ذلك كثيرة ومشهورة.

6- أن يُكثر المسلم من الدعاء بأن يُحسِّن الله خُلُقه ويرزقه الحلم وكظم الغيظ: ومن الأدعية النبوية المشهورة  : «اللَّهُمَّ كَمَا حَسَّنْت خَلْقِي فَحَسِّنْ خُلُقِي». « اللهم اهْدِنِي لِأَحْسَنِ الأَخْلَاقِ، لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إلَّا أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إلَّا أَنْتَ».

 سادساً: الحِلْمِ له حُدود

أودُّ التأكيد على أن الحلم له حُدود إذا تخطَّاها انقلب ذلّاً وجُبناً وعجزاً وضعفاً، فهو تَوَسُّطٌ بَيْنَ الغَضَبِ وَالمهَانَةِ وَسُقُوطِ النَّفْسِ. وقد يضطر المرء أحيانا إلى الخروج عنه لردع السّفيه. وكما قيل: ترك الحلم في بعض الأوقات من الحلم، وقديماً قال الشاعر:

إذا قيلَ: رِفقاً، قلتُ: للحِلمِ موْضِعٌ       وَحِلْمُ الفتى في غَيرِ مَوْضِعه جَهْلُ

  قال المناوي: «لا يكون حُسْن الخلق محموداً في كل حال ولا الغضب مذموماً كذلك، بل كلٌّ منهما محتاج إليه في حينه، فمن رُزِق كمالاً يضع كلَّ شيء في محله، فطوبى له، وإلا فلْيعالج نفسه ويهذِّبها ويروِّضها على اكتساب الحلم والرزانة، بحيث يكون فيه حلم وغضب، ورزانة وخفة، وجِد وهزل، ولا يجري على طبعه وعادته» ([4]).

اللهم أغننا بالعلم وزينا بالحلم وأكرمنا بالتقوى وجملنا بالعافية ، اللهم آمين

 

([1]) أعلام النبوة للماوردي (ص: 221).

([2]) فيض القدير (1/ 74).

([3]) روضة العقلاء ونزهة الفضلاء (ص: 169).

([4]) فيض القدير (2/ 384).

أحمد عبد المجيد مكي

حاصل على درجة الدكتوراه في الشريعة الإسلامية

  • 2
  • 0
  • 95

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً