خذ العفو

منذ 7 ساعات

إن العفوَ خلقٌ حسنٌ، وسجيةٌ طيبةٌ، تنمُّ عن علوِّ نفسٍ، وقيمة عالية لمن يتحملُ أذى الناس، ويصبر على تجاوزاتهم وأخطائهم؛ طمعًا فيما عند الله عز وجل من الفضل والأجر العظيم.

إن أصدقَ الحديث كتابُ الله، وأحسنَ الهدي هديُ محمد، وشرَّ الأمور محدثاتُها، وكلَّ محدثة بدعةٌ، وكلَّ بدعة ضلالةٌ، وكلَّ ضلالة في النار.

 

أيها المسلمون، يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199].

 

يأمرُ الله تعالى نبيَّه الكريم بالعفو والتجاوز عمن أساء إليه، والله تعالى لا يأمر إلا بما هو خيرٌ وأحسنُ لنبيه صلى الله عليه وسلم وللناس.

 

إن العفوَ خلقٌ حسنٌ، وسجيةٌ طيبةٌ، تنمُّ عن علوِّ نفسٍ، وقيمة عالية لمن يتحملُ أذى الناس، ويصبر على تجاوزاتهم وأخطائهم؛ طمعًا فيما عند الله عز وجل من الفضل والأجر العظيم.

 

وقد جاء في السُّنَّة النبوية أن من فعل كذا فله كذا من الحسنات، أو أثابه الله تعالى بكذا من الثواب، من مثل ما روى مسلم في صحيحه عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( «مَنْ صَلَّى عَلَى جَنَازَةٍ فَلَهُ قِيرَاطٌ، فَإِنْ شَهِدَ دَفْنَهَا فَلَهُ قِيرَاطَانِ، الْقِيرَاطُ مِثْلُ أُحُدٍ» )).

 

أو من مثل ما روى أحمد وأبو داود وابن ماجه عن علي رضي الله عنه أن رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (( «إِذَا عَادَ الرَّجُلُ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، مَشَى فِي خِرَافَةِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَجْلِسَ، فَإِذَا جَلَسَ غَمَرَتْهُ الرَّحْمَةُ، فَإِنْ كَانَ غُدْوَةً صَلَّى عَلَيْهِ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ حَتَّى يُمْسِيَ، وَإِنْ كَانَ مَسَاءً صَلَّى عَلَيْهِ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ حَتَّى يُصْبِحَ» )).

 

أما في العفو فلم يرد شيء من ذلك، بل الذي ورد في فضل العفو أعظم من أي شيء آخر، كما قال الله تعالى في كتابه: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [الشورى: 40].

 

لم يحدد الله تعالى له نوعًا معينًا من الأجر يُطمع فيه، بل تركه لكرم الله عز وجل وعطائه، فما ظنُّكم بربِّ العالمين؟!

 

إن أكثر شخص تعرَّض للأذى هو رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جاء بالدعوة ودين التوحيد، فما كان موقف قومه منه؟

 

وصفوه بأنه ساحرٌ، وبأنه شاعرٌ، وبأنه كاهنٌ، وبأنه مجنون.

 

هذا في أوصافهم وما جرى على ألسنتهم، أما أفعالهم فقد وضعوا سَلا الجزور على ظهره وهو يصلي عليه الصلاة والسلام، ووضعوا الشوك في طريقه.

 

وحين خرج إلى الطائف يدعوهم إلى الإسلام ردوا عليه أسوأ رد، وأغروا به سفهاءهم وصبيانهم، فرموه بالحجارة، حتى أدموا قدمَيْه الشريفتين عليه الصلاة والسلام.

 

ولم يكتفِ المشركون بأن يؤذوه في نفسه؛ بل امتدَّ أذاهم إلى أهله، فلما خرجت ابنته زينب مهاجرة من مكة إلى المدينة نخسوا بعيرها فسقطت منه، وأسقطت جنينها.

 

فلما كان الفتح؛ فتح مكة، وتمكَّن النبي صلى الله عليه وسلم من رقابهم، عفا عنهم وقال لهم: (( «اذهبوا فأنتم الطلقاء» )).

 

لم يحقد عليهم صلى الله عليه وسلم، "وليس رئيس القوم الذي يحمل الحقدا".

 

عاملهم بما يليق به وبالأنبياء الرُّحماء بالناس {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].

 

وهذا هو خلق النبوة الرحمة والعفو، وإن لكم في رسول الله أسوةً حسنةً، فلا تشتدوا في خلافاتكم، ولا تتمسَّكوا بثاراتكم، فما عند الله خيرٌ وأبقى.

 

 

أيها المسلمون، إن إغفال خلق العفو بين الناس يُولد الشدة في المجتمعات، والصرامة في التعاملات، وهذا يؤدي إلى مجتمعات متنافرة، تتباعدُ ولا تتقارب، تحقدُ ولا تسامح، متحفزة دومًا للردود والخصومات، والشكاوى والمقاضاة.

 

إن ترك العفو يُجرد الإنسان من أصحابه، ويُبعد عنه أقاربه وأحبابه، ويبقى المرءُ منبوذًا عمن حوله، لا يشتهي أحدٌ قربَه، ولا يودُّ أحدٌ صحبتَه، ولا يرغب رفيق في مرافقته.

 

إن الحياةَ أسهلُ من أن نقضيها في نزاعات لا تنتهي، وعداوات لا تنقضي.

 

وأكثر العداوات إنما هي لأسباب لا تستحق كل هذا التقاطع والتدابُر والإعراض عن الناس.

 

لقد أوذي نبي الله يوسف عليه السلام من إخوته أذًى شديدًا لا يخفى على أحد، ثم لما مكَّنه الله تعالى منهم كان جوابه لهم: {قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: 92].

 

وأوذي أبو بكر الصديق رضي الله عنه في ابنته عائشة رضي الله عنها من رجل كان ينفق عليه وعلى والدته، فحلف أبو بكر ألَّا ينفق عليه، فنزل قول الله تعالى: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 22].

 

فعفا عنه أبو بكر وقال: بلى يا ربنا، نحب أن تغفر لنا، وعاد إلى النفقة عليه.

 

وقتل أبو مريم الحنفي زيد بن الخطاب في حروب الردة، ثم تاب وعاد إلى الإسلام، فلما تعلَّم العلم وتفَقَّه الفقه، ولَّاه عمر بن الخطاب على قضاء الكوفة.

 

هذه هي النفوس العظيمة التي أوذيت في نفسها وبناتها وإخوانها، ثم عفت وصفحت وأجرها على الله.

 

فمن كان بينه وبين إخوته أو أحد من المسلمين عداوةٌ أو خصومة أو مقاطعة فليبادر بالعفو والصفح، وليتذكر أن من هو خيرٌ منه قد عفا وأصلح.

 

روي عن الحسن البصري رحمه الله أنه قال: "إِذَا جَثَتِ الْأُمَمُ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّ الْعَالَمِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نُودُوا: لِيَقُمْ مَنْ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، فَلَا يَقُومُ إِلَّا مَنْ عَفَا فِي الدُّنْيَا".

_______________________________________

الكاتب: ساير بن هليل المسباح

المصدر: الألوكة

  • 0
  • 0
  • 48

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً