فضل التيسير على الناس وذم الجشع
لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ بِدِينٍ عَظِيمٍ، قَائِمٍ عَلَى الرَّحْمَةِ وَالتَّيْسِيرِ، وَقَدْ حَثَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الرِّفْقِ بِالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، وَحَذَّرَ مِمَّا يُوجِبُ الْمَشَقَّةَ عَلَى الْآخَرِينَ
عِبَادَ اللَّهِ: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ بِدِينٍ عَظِيمٍ، قَائِمٍ عَلَى الرَّحْمَةِ وَالتَّيْسِيرِ، وَقَدْ حَثَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الرِّفْقِ بِالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، وَحَذَّرَ مِمَّا يُوجِبُ الْمَشَقَّةَ عَلَى الْآخَرِينَ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «اللَّهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِى شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَاشْقُقْ عَلَيْهِ، وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِى شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ فَارْفُقْ بِهِ»؛ رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
أَلَا وَإِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْأَعْمَالِ الَّتِي رَغَّبَ الشَّارِعُ فِيهَا، وَوَعَدَ مَنْ عَمِلَ بِهَا أَنْ يُجَازِيَهُ بِالْأَجْرِ الْعَظِيمِ، هُوَ التَّيْسِيرُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَالْإِحْسَانُ إِلَيْهِمْ بِأَيِّ نَوْعٍ مِنَ الْإِحْسَانِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى الْخَلْقِ، يَسَّرَ الْخَالِقُ عَلَيْهِ، وَمَنْ تَجَاوَزَ عَنْهُمْ تَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهُ، وَالْجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ.
وَمِنَ التَّيْسِيرِ عَلَى النَّاسِ: مَنْ يُقْرِضُهُمْ مَالًا أَوْ نَحْوَهُ، ثُمَّ يَصْبِرُ عَلَى مُعْسِرِهِمْ، أَوْ يَعْفُو عَنْهُ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « يُؤْتَى بِرَجُلٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ اللَّهُ: انْظُرُوا فِي عَمَلِهِ، فَيَقُولُ: رَبِّ، مَا كُنْتُ أَعْمَلُ خَيْرًا غَيْرَ أَنَّهُ كَانَ لِي مَالٌ، وَكُنْتُ أُخَالِطُ النَّاسَ، فَمَنْ كَانَ مُوسِرًا يَسَّرْتُ عَلَيْهِ، وَمَنْ كَانَ مُعْسِرًا أَنْظَرْتُهُ إِلَى مَيْسَرَةٍ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَنَا أَحَقُّ مَنْ يُيَسِّرُ، فَغَفَرَ لَهُ » رَوَاهُ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كَانَ تَاجِرٌ يُدَايِنُ النَّاسَ، فَإِذَا رَأَى مُعْسِرًا قَالَ لِفِتْيَانِهِ تَجَاوَزُوا عَنْهُ، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَتَجَاوَزَ عَنَّا، فَتَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهُ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعِنْدَ مُسْلِمٍ فِي صَحِيحِهِ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا، وَسَكِّنُوا وَلَا تُنَفِّرُوا» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَمِنْ أَنْوَاعِ التَّيْسِيرِ الَّتِي نَدَبَ لَهَا الشَّارِعُ الْحَكِيمُ، مَا يَكُونُ بَيْنَ النَّاسِ مِنْ تَعَامُلَاتٍ؛ كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْإِيجَارَاتِ، وَغَيْرِهَا مِنْ أَنْوَاعِ الْعُقُودِ الَّتِي يَنْبَغِي عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يُرَاعِيَ فِيهَا أَحْوَالَ إِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنْ يُقَدِّرَ ظُرُوفَهُمْ، وَأَنْ يَسْعَى فِي التَّيْسِيرِ عَلَيْهِمْ، وَاحْتِسَابِ الْأَجْرِ فِي التَّخْفِيفِ عَنْهُمْ.
وَمَا أَجْمَلَ أَنْ يَتَخَلَّقَ الْمُسْلِمُ بِخُلُقِ السَّمَاحَةِ وَاللِّينِ عِنْدَ تَعَامُلِهِ مَعَ الْآخَرِينَ، فَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا سَمْحًا إِذَا بَاعَ وَإِذَا اشْتَرَى وَإِذَا اقْتَضَى»؛ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَقَدْ حَذَّرَ نَبِيُّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ كُلِّ خُلُقٍ ذَمِيمٍ يُخَالِفُ مَبْدَأَ الْيُسْرِ وَالْإِحْسَانِ، وَمِمَّا وَرَدَ التَّحْذِيرُ مِنْهُ هُوَ الطَّمَعُ وَالْجَشَعُ، وَيَظْهَرُ جَلِيًّا هَذَا الْأَمْرُ عِنْدَ بَعْضِ مُلَّاكِ الْعَقَارَاتِ، مِنْ أُولَئِكَ الَّذِينَ رَفَعُوا الْإِيجَارَاتِ وَالْمَكَاسِبَ الْعَقَارِيَّةَ دُونَ مُرَاعَاةٍ لِأَحْوَالِ الْمُسْتَأْجِرِينَ، فَلَمْ يُقَدِّرُوا ظُرُوفَهُمْ، وَلَمْ يُرَاعُوا أَحْوَالَهُمْ، وَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَى مَنْ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ، أَنْ يُوَسِّعَ عَلَى إِخْوَانِهِ الْمُسْتَأْجِرِينَ، وَأَنْ يَرْفُقَ بِحَالِهِمْ، وَأَنْ يُرَاقِبَ اللَّهَ تَعَالَى فِيهِمْ، وَأَنْ يَقْنَعَ بِالْكَسْبِ الْمَعْقُولِ. وَلْيَعْلَمْ مُلَّاكُ الْعَقَارَاتِ أَنَّ الْمُبَالَغَةَ فِي رَفْعِ الْإِيجَارَاتِ طَلَبًا لِلرِّبْحِ الزَّائِدِ، يُمْكِنُ أَنْ تُؤَدِّيَ إِلَى تَضْيِيقِ مَعِيشَةِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ؛ نَظَرًا لِكَثْرَةِ الِالْتِزَامَاتِ وَتَعَدُّدِ الْمَصْرُوفَاتِ، وَالْإِسْلَامُ قَدْ نَهَى عَنِ الْإِضْرَارِ بِالْمُسْلِمِينَ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ ضَارَّ أَضَرَّ اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ شَاقَّ شَاقَّ اللَّهُ عَلَيْهِ» حَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ.
عِبَادَ اللَّهِ: وَمَعَ مَا سَمِعْتُمْ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى فَضْلِ التَّيْسِيرِ وَأَجْرِهِ، إِلَّا أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ طُبِعَ قَلْبُهُ عَلَى الْقَسْوَةِ وَالشِّدَّةِ، وَتَرَبَّتْ نَفْسُهُ عَلَى الطَّمَعِ، وَتَعَلَّقَتْ بِحُبِّ الدُّنْيَا، فَقَدَّمَ الدُّنْيَا الْفَانِيَةَ عَلَى مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنْ أَجْرِ الْآخِرَةِ، فَأَصْبَحَ النَّاسُ مِنْ سُوئِهِ وَشَرِّهِ يَتَحَاشَوْنَ التَّعَامُلَ مَعَهُ، وَقَدْ حَذَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّنْ هَذَا طَبْعُهُ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ شَرِّهِ»؛ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
أَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي وَإِيَّاكُمْ مِمَّنِ اطْمَأَنَّتْ بِالْحَقِّ نُفُوسُهُمْ، وَتَيَسَّرَتْ فِي الْخَيْرِ أُمُورُهُمْ، وَحَسُنَتْ مَعَ النَّاسِ أَخْلَاقُهُمْ. نَفَعَنِي وَإِيَّاكُمُ بِهَدْيِ كِتَابِهِ، وَاتِّبَاعِ سُنَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ. فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ لِلَّهِ حَقَّ حَمْدِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَيُّهَا النَّاسُ: احْرِصُوا عَلَى الْقَنَاعَةِ وَالرِّضَا بِمَا كَتَبَهُ اللَّهُ لَكُمْ مِنَ الْأَرْزَاقِ وَالْأَحْوَالِ، وَامْتَثِلُوا أَمْرَ رَسُولِكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَمَا قَالَ: «انْظُرُوا إِلَى مَنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَلَا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ فَوْقَكُمْ، فَإِنَّهُ أَجْدَرُ أَنْ لَا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَاحْذَرُوا مِنَ التَّطَلُّعِ لِمَا تَرَوْنَهُ فِي أَيْدِي النَّاسِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْجَشَعَ وَالطَّمَعَ، فَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ أَنَّ لِابْنِ آدَمَ وَادِيًا مِنْ ذَهَبٍ أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَادِيَانِ، وَلَنْ يَمْلَأَ فَاهُ إِلَّا التُّرَابُ، وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَهُوَ الْقَائِلُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ، وَرُزِقَ كَفَافًا، وَقَنَّعَهُ اللَّهُ بِمَا آتَاهُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
_____________________________________
الكاتب: خالد سعد الشهري
المصدر: الألوكة
- التصنيف: