لماذا يكثر أهل السنة من نقل كلام شيخ الإسلام ابن تيمية؟!
كان ابن تيمية واسع الاطلاع جدا بما يبهر من يقرأ له، حتى أنه في ردوده على اليهود والنصارى وعلى المبتدعة من الرافضة والجهمية والمعتزلة والباطنية والفلاسفة يأتي بنقول لا يعرفها أصحابها من كتب أئمتهم
كثير من الناس يعجب من سبب إكثار أهل السنة من نقل كلام ابن تيمية رحمه الله في التآليف والدروس والمقالات، ومن يطلع على كتب ابن تيمية يزول عجبه، فقد كان إماما محققا في التفسير، وفي الفقه، وفي الحديث رواية ودراية، وفي العقائد، وفي الأصول، وفي النحو، وجمع الله له بين فضيلة العلم والجهاد في سبيل الله، وكان متعبدا زاهدا، صادعا بالحق لا يخشى لومة لائم، وبسبب هذا سجن أكثر من مرة، ومات في سجنه صابرا محتسبا.
وابن تيمية ليس كغيره من العلماء في نقل مذاهب الفقهاء، نجده كثيرا عندما يذكر المذاهب يفصل النقل فيقول مثلا: هذ مذهب أحمد في المشهور من مذهبه، ويذكر رواية أخرى عنه أو روايتين، ويذكر مذهب أبي حنيفة وما يخالفه صاحباه أبو يوسف ومحمد بن الحسن، ويذكر مذهب مالك وخلاف أصحابه ابن القاسم وأشهب وابن الماجشون، ويذكر مذهب الشافعي القديم أو الجديد، فهو آية من آيات الله في الحفظ لمذاهب العلماء، وكثيرا ما يذكر أقوال السلف ومذاهب غير الأئمة الأربعة، ويرجح ما يدل عليه الدليل بلا تعصب ولا تعسف، حتى أنه يرجح أحيانا أقوالا تخالف المذاهب الأربعة المشهورة، ويعذر العلماء إذا أخطأوا ويبين وجهة نظرهم فيما ذهبوا إليه، ويبين أن كل عالم يؤخذ من قوله ويرد إلا النبي صلى الله عليه وسلم، وهو واسع الصدر جدا في مسائل الاجتهاد.
وكان ابن تيمية واسع الاطلاع جدا بما يبهر من يقرأ له، حتى أنه في ردوده على اليهود والنصارى وعلى المبتدعة من الرافضة والجهمية والمعتزلة والباطنية والفلاسفة يأتي بنقول لا يعرفها أصحابها من كتب أئمتهم، وكأنه متخصص في دراسة ذلك الدين أو المذهب الذي يرد عليه!!
وهذه ترجمة مختصرة لابن تيمية اختصرتها من مقال في موقع صيد الفوائد للدكتور عبد الله الغصن:
هو تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني.
ولد رحمه الله سنة 661هـ في حرّان، وفي سنة 667هـ أغار التتار على بلده، فاضطرت عائلته إلى ترك حران إلى دمشق، وبها كان مستقر العائلة، حيث طلب العلم على أيدي علمائها منذ صغره، فنبغ ووصل إلى مصاف العلماء من حيث التأهل للتدريس والفتوى قبل أن يتم العشرين من عمره !!
سمع في صغره مسند الإمام أحمد بن حنبل - وهو 27000 حديثا - عدة مرات، وسمع الكتب الستة الكبار - صحيح البخاري ومسلم وسنن أبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه - وكثيرا من الأجزاء الحديثية، ومن مسموعاته معجم الطبراني الكبير وهو نحو عشرين ألف حديث، وعني بالحديث وقرأ ونسخ، وتعلم الخط والحساب في المكتب، وحفظ القرآن، وأقبل على الفقه، وقرأ العربية وأخذ يتأمل كتاب سيبويه حتى فهم النحو، وأقبل على التفسير إقبالاً كلياً، حتى حاز فيه قصب السبق، وأحكم أصول الفقه وغير ذلك، هذا كله وهو ابن بضع عشرة سنة!!! فانبهر أهل دمشق من فُرط ذكائه، وسيلان ذهنه، وقوة حافظته، وسرعة إدراكه.
وقلّ كتاب من فنون العلم إلا وقف عليه، كأن الله قد خصه بسرعة الحفظ، وإبطاء النسيان لم يكن يقف على شيء أو يستمع لشيء - غالباً - إلا ويبقى على خاطره، إما بلفظه أو معناه، وكان العلم كأنه قد اختلط بلحمه ودمه وسائره.
وكان رحمه الله ذا عفاف تام، واقتصاد في الملبس والمأكل، صيناً، تقياً، براً بأمه، ورعاً عفيفاً، عابداً، ذاكراً لله في كل أمر على كل حال، رجاعاً إلى الله في سائر الأحوال والقضايا، وقافاً عند حدود الله وأوامره ونواهيه، آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، لا تكاد نفسه تشبع من العلم، فلا تروى من المطالعة، ولا تمل من الاشتغال، ولا تكل من البحث.
قال عنه الحافظ ابن عبد الهادي رحمه الله عنه: (ثم لم يبرح شيخنا رحمه الله في ازدياد من العلوم وملازمة الاشتغال والإشغال، وبث العلم ونشره، والاجتهاد في سبل الخير حتى انتهت إليه الإمامة في العلم والعمل، والزهد والورع، والشجاعة والكرم، والتواضع والحلم والإنابة، والجلالة والمهابة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسائر أنواع الجهاد مع الصدق والعفة والصيانة، وحسن القصد والإخلاص، والابتهال إلى الله وكثرة الخوف منه، وكثرة المراقبة له وشدة التمسك بالأثر، والدعاء إلى الله وحسن الأخلاق، ونفع الخلق، والإحسان إليهم والصبر على من آذاه، والصفح عنه والدعاء له، وسائر أنواع الخير) .
وامتحن الشيخ مرات عدة بسبب نكاية الأقران وحسدهم، ونفي وسجن عدة مرات، إحداها لامتناعه من ترك الفتوى في الطلاق، وبحث حساده عن شيء للوشاية به عند الولاة فافتروا عليه بأنه يمنع من زيارة قبر نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم، فصدر الحكم بسجنه في شعبان سنة 726هـ وبقي في السجن إلى أن توفي في ذي القعدة سنة 728هـ رحمه الله رحمة واسعة.
وقد ترك مؤلفات كثيرة جدا كباراً وصغاراً يصعب إحصاؤها، قال الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله: (وأما تصانيفه رحمه الله فهي أشهر من أن تذكر، وأعرف من أن تنكر، سارت سير الشمس في الأقطار، وامتلأت بها البلاد والأمصار، قد جاوزت حدّ الكثرة فلا يمكن أحد حصرها، ولا يتسع هذا المكان لعدّ المعروف منها، ولا ذكرها) .
وقال عنه العلامة كمال الدين بن الزملكاني رحمه الله: (كان إذا سئل عن فن من العلم ظن الرائي والسامع أنه لا يعرف غير ذلك الفن، وحكم أن أحداً لا يعرفه مثله، وكان الفقهاء من سائر الطوائف إذا جلسوا معه استفادوا في مذاهبهم منه ما لم يكونوا عرفوه قبل ذلك، ولا يعرف أنه ناظر أحداً فانقطع معه ولا تكلم في علم من العلوم، سواء أكان من علوم الشرع أم غيرها إلا فاق فيه أهله، والمنسوبين إليه، وكانت له اليد الطولى في حسن التصنيف، وجودة العبارة والترتيب والتقسيم والتبيين ) .
وقال مؤرخ الإسلام الحافظ الذهبي رحمه الله: (ابن تيمية: الشيخ الإمام العالم، المفسر، الفقيه، المجتهد، الحافظ، المحدث، شيخ الإسلام، نادرة العصر، ذو التصانيف الباهرة، والذكاء المفرط، نظر في الرجال والعلل، وصار من أئمة النقد، ومن علماء الأثر مع التدين والنبالة، والذكر والصيانة، ثم أقبل على الفقه، ودقائقه، وقواعده، وحججه، والإجماع والاختلاف حتى كان يقضى منه العجب إذا ذكر مسألة من مسائل الخلاف، ثم يستدل ويرجح ويجتهد، وحق له ذلك فإن شروط الاجتهاد كانت قد اجتمعت فيه، فإنني ما رأيت أحداً أسرع انتزاعاً للآيات الدالة على المسألة التي يوردها منه، ولا أشد استحضاراً لمتون الأحاديث، وعزوها إلى الصحيح أو المسند أو إلى السنن منه، كأن الكتاب والسنن نصب عينيه وعلى طرف لسانه، بعبارة رشيقة، وعين مفتوحة، وإفحام للمخالف، هذا كله مع ما كان عليه من الكرم الذي لم أشاهد مثله قط، والشجاعة المفرطة التي يضرب بها المثل، والفراغ عن ملاذ النفس من اللباس الجميل، والمأكل الطيب، والراحة الدنيوية، كان قوالاً بالحق، نهاءً عن المنكر، لا تأخذه في الله لومة لائم، ذا سطوة وإقدام، وعدم مداراة الأغيار، ومن خالطه وعرفه قد ينسبني إلى التقصير في وصفه، لا يؤتى من سوء فهم، بل له الذكاء المفرط، ولا من قلة علم فإنه بحر زخار، بصير بالكتاب والسنة، عديم النظير في ذلك، ولا هو بمتلاعب بالدين، فلو كان كذلك لكان أسرع شيء إلى مداهنة خصومه وموافقتهم ومنافقتهم، ولا هو ينفرد بمسائل بالتشهي).
رحم الله شيخ الإسلام ابن تيمية فتحقيقاته رصينة، وترجيحاته موفقة، وكتبه نافعة، ولا ندعي له العصمة، فكل يؤخذ من قوله ويرد، إلا النبي محمدا صلى الله عليه وسلم.
- التصنيف: