ولكن التوحيد لا بواكي له
يا صاحبي، إنّ التوحيدَ ليس فكرةً عابرةً تلوح في أفق الدين، ولا معنى يُكتفى بذكره في الدروس والخطب، بل هو جوهرُ دين الإسلام ولبابُ الشريعة.."
يا صاحبي، إنّ التوحيدَ ليس فكرةً عابرةً تلوح في أفق الدين، ولا معنى يُكتفى بذكره في الدروس والخطب، بل هو جوهرُ دين الإسلام ولبابُ الشريعة، وهو النورُ الذي أنار الله به قلوب الموحّدين، والمقصدُ الأعظم الذي بعث الله به رسله وأنزل كتبه، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}.
لقد كانت حياةُ نبينا ﷺ كلُّها نداءً للتوحيد، وصراعًا مع الشرك، وتحذيرًا من مسالكه ودقائقه، فما من موقفٍ إلا وشعّ فيه نورُ "لا إله إلا الله".
وما من تعليمٍ إلا وكان غايته تنقيةُ القلب من شوائب التعلّق بغير الله. ويكفيك أن تعلم أن أعظم ذنبٍ عُصي الله به هو الشرك، كما جاء في حديثه ﷺ حين سُئل: «أيّ الذنب أعظم؟» فقال: «أن تجعل لله ندًا وهو خلقك».
قال الشيخ السعدي رحمه الله، محدّدًا مكانة هذا الأصل العظيم وعمق أثره في الدين: " وهو الذي خلق الله الخلق لأجله، وشرع الجهاد لإقامته، وجعل الثواب الدنيوي والأخروي لمن قام به وحققه، والعقاب لمن تركه، وبه يحصل الفرق بين أهل السعادة القائمين به وأهل الشقاوة التاركين له، فعلى العبد أن يبذل جهده في معرفته وتحقيقه والتحقق به، ويعرف حدّه وتفسيره، ويعرف حكمه ومرتبته، ويعرف آثاره ومقتضياته، وشواهده وأدلته وما يقويه وما ينمّيه، وما ينقضه ويُنقصه، لأنه الأصل الأصيل لا تصح الأصول إلا به، فكيف بالفروع”.
الحق الواضح المبين (٥٧).
وكان نبينا ﷺ غيورًا على حمى التوحيد، حفيًّا بحفظ حدوده، دقيقَ النظر في الألفاظ والنيات، فلا يترك مجالًا للشرك أن يتسلّل إلى القلوب، ولا بابًا للرياء أن يُفتح على الناس. ومن ذلك ما كان مع الرجل الذي قال: ما شاء الله وشئت، فقال له ﷺ: «أجعلتني لله ندًا؟ بل ما شاء الله وحده». نعم، تلك دقّة النبي ﷺ في توجيه الأمة، ليبقى التوحيد صافياً من كلّ كدر، والعبودية خالصةً لا يشوبها شائبة.
وسار الصحابة رضي الله عنهم من بعده على هذا النهج المبارك، يحمون التوحيد كما تُحمى العيون من الرماد، ويخشون على الأمة من الشرك كما يخشى الطبيب على القلب من السمّ.
ثم طال الأمد على من بعدهم، وتتابعت الفتن، وعمّ الجهل وطمّ حتى عادت الجاهلية في ثوبٍ جديد؛ فُتنة تعظيم القبور، والدعاء عندها، والطواف بها، بل ودعاء أصحابها والاستغاثة بهم من دون الله، وسؤالهم كشف الكربات وتحقيق الرغبات.
فقولوا لي بربِّكم: ماذا بقي لله؟
نعم، ولكن التوحيد لا بواكي له
كأنّ النفوس غفلت عن جوهر دينها، ومالت إلى زخارف المظاهر، ونسيت أن النجاة في كلمةٍ واحدةٍ: لا إله إلا الله.
ألا وإنّ من أشرف ما يُشرّف الله به عبده، أن يستعمله في الدعوة إلى التوحيد، وتذكير الناس بهذا الأصل العظيم، ومجاهدة أهل الشرك، وبيان بطلان مسالكهم، ولو بكلمةٍ صادقة، أو رسالةٍ مخلصة، أو دلالةٍ على كتابٍ نافعٍ أو درسٍ مسموع، فإنّ الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً. فلا تحقرنّ من المعروف شيئًا، فكم من كلمةٍ أحيت قلبًا، وكم من تذكرةٍ أيقظت أمّة.
وقد وقفتُ على فصلٍ عظيمٍ في كتاب إغاثة اللهفان لابن القيم، ساق فيه ما يُدهش القلب من الأدلة، وما يُقيم الحجة البالغة على فساد الغلوّ في القبور وتعظيمها، وبيّن المباينة الشديدة بين ما كان عليه النبي ﷺ وأصحابه من بعده، وبين ما صار إليه أهل هذه البدع والقبور.
وإنّي كفيل ـ بإذن الله ـ أن من قرأ هذا المبحث بتجرّدٍ وإرادةٍ للهدى، تجلّى له الحقُّ جليًا لا غبش فيه، وانقشعت عنه سحابةُ الجهل والهوى.
فيا أخي الغالي، توحيدك هو أعزّ ما تملك، ورأس مالك الذي به سعادتك ونجاتك، فلا تُغامر به لأجل شيخٍ أو طريقةٍ أو عادة، وتأمّل قوله تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}.
اللهم ارزقنا التوحيدَ الخالص والإيمان الصادق، واسلك بنا سبيل نبيّك ﷺ، واهدِ قلوبنا بهدى أصحابه من بعده، وجنّبنا مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن، ونعوذ بك اللهم أن نشرك بك ونحن نعلم، ونستغفرك مما لا نعلم.
- التصنيف: