الجنة... النعيم الآخر

منذ 12 ساعة

إن الله تبارك وتعالى وعد عباده المؤمنين بجناتٍ تجري من تحتها الأنهار، جزاءً بما كانوا يعملون في الحياة الدنيا، ونعيم الجنة لا يقتصر على نوع معين واحد من النعيم؛ ففيها من النعيم الحسي والنعيم الجسدي، والنعيم اللفظي، والنعيم المعنوي، والنعيم النفسي.

أيها المسلمون: إن الله تبارك وتعالى وعد عباده المؤمنين بجناتٍ تجري من تحتها الأنهار، جزاءً بما كانوا يعملون في الحياة الدنيا؛ فقال سبحانه وتعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 72].

 

وروى البخاري ومسلم عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: (شهِدتُ من النبي صلى الله عليه وسلم مجلسًا وصف فيه الجنة، حتى انتهى، ثم قال في آخر حديثه: «فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر»؛ ثم قرأ: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة: 16]، إلى قوله: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17].

 

ونعيم الجنة لا يقتصر على نوع معين واحد من النعيم؛ ففيها من النعيم الحسي والنعيم الجسدي، والنعيم اللفظي، والنعيم المعنوي، والنعيم النفسي.

 

فأهل الجنة يتلذذون بنعيم الجنة من كل الأنواع، ولا يقتصر نعيمهم على نعيم الأكل والشرب والأزواج، بل إن هناك من النعيم ما يتعجب المؤمن منه كيف يكون.

 

ومن ذلك قول الله تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر: 47]، أرأيت ذاك الرجل الذي لا تطيق رؤيته، ولا تود سماع حديثه، وتبحث عن أدنى الأسباب لتتجنب لقاءه؟ سيزول ما بينك وبينه يوم القيامة، ولن تجد في نفسك عليه شيئًا من الكراهة أو النفور؛ بل سيكون الأمر كما قال الله تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} [الحجر: 47]، سيُنزع الغل من قلوب المؤمنين نزعًا، فلا يبقى في قلوبهم شيء، وتتحول مجالسهم إلى مجالس إخوة متقابلين، لا يولِّي أحدهم ظهره للآخر.

 

ومن نعيم الجنة الآخر كذلك قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور: 21].

 

سيأنس المرء بأهله في دار النعيم، ولن يقيم وحده، أو يقيم بين قومٍ لا يعرفهم، بل سيلحق به أبناؤه وأزواجه، ويجتمعون به في الجنة، كما كانوا يجتمعون معه في الدنيا، فكما يأنس المرء في دنياه في بيته وأهله، فكذلك الأمر في الآخرة.

 

ومن نعيم الجنة الآخر كذلك قول الله تعالى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد: 23، 24].

 

أبواب بيوتهم مفتوحة لا تُغلَق، فكما كانوا يفرحون بدخول الزائرين عليهم في الدنيا، وفرحتهم بطرق أبوابهم، واجتماع الناس في مجالسهم واستقبالاتهم، وحضور مناسباتهم، كذلك الأمر في الآخرة ستطرق الملائكة أبوابهم، وتدخل عليهم، وتعمر مجالسهم، فتكون بيوتهم حية في الآخرة، كما كانت حية في الدنيا، ربما يستغرب البعض هذا المعنى، لكن من فتح داره للناس، وأشرع بابه لهم، يعرف معنى ذلك جيدًا، وكيف أنه مصدر سعادة وأنسٍ له في دنياه، ويعرف كذلك كيف تضيق نفسه، وينقبض صدره، إذا أدبر الناس عنه، أو تركوا بابه لا تطؤه الأقدام، ولا يدخله الكِرام.

 

وإن من نعيم الجنة الآخر كذلك قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ} [الأنبياء: 101، 102].

 

والحسيس: هو الصوت الخفيُّ، فلا يسمع أهل الجنة صوتَ تلهُّب النار.

 

فلا تتأذى أسماعهم بسماع صوت لهب النار، فتتكدر خواطرهم، وينغص عيشهم، بل هم لا يعلمون عنها، ولا عمَّن فيها، يعيشون خالدين مخلَّدين في دار النعيم، يتلذذون ويتنعمون، قد نزَّه الله سبحانه وتعالى أسماعهم عن أصوات العذاب، وأصوات المعذَّبين، غارقين هم في بحار النعيم.

 

فإن من نعيم الجنة الآخر الذي أعده الله لعباده المؤمنين ما قضى على كل الوساوس والتساؤلات، كيف يقضي أهل الجنة وقتهم، وكيف لا يمل أهل الجنة من الجنة، مع طول البقاء، وامتداد الخلود الأبدي؟ فقال سبحانه: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ * هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ} [يس: 55، 56]؛ فأهل الجنة لا فراغ لديهم، هم مشغولون في التفكُّه، والتنعم والتلذذ في الجنة، وهذه حالهم على طول البقاء، لا فرق بين لحظتهم الأولى، ولا الثانية، ولا ما بعدها.

 

وهذا - والله - من النعيم النفسي الكبير.

 

وإن من نعيم الجنة الآخر؛ كما قال الله سبحانه وتعالى: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا} [الواقعة: 25، 26].

 

لن يُلقي عليهم أحدٌ كلمةً تُزعجهم، ولن يكون بينهم صخب أو ارتفاع أصوات، كلما تناقشوا أو تجادلوا، ولن يخرج بعضهم مغاضبًا بسبب اختلاف في رأي، أو جدل في قضية، بل كلامهم تحُفُّه معاني السلام، وكلمات السلام، وتوقير بعضهم لبعض.

 

وإن من نعيم الجنة الآخر كذلك السعة في المكان؛ فقال سبحانه وتعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133]؛ فإن الله تعالى وصف الجنة بالعرض، ولم يصفها بالطول، والناس إنما يشرح صدورها سعة عرض المكان، لا طوله وامتداده.

 

وإن من نعيم الجنة الآخر أن الله تعالى إذا ذكر نعيم أهل الجنة، إنما يذكره بصورة جماعية، لا بصورة فردية، فهم لا يأكلون وحدهم، ولا يشربون وحدهم، ولا يجلسون وحدهم، وتعلمون - رحمكم الله - ما في الوحدة والعزلة، من استجلاب الهموم، واستحضار الغموم، وظهور الأمراض النفسية.

 

فيقول الله سبحانه وتعالى وما أكثر: {مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ * يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} [الواقعة: 16، 17].

 

ويقول سبحانه: {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ * أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ * فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الصافات: 40 - 44].

 

أما في شأن أهل النار، فإن الله تعالى يعذبهم بالوحدة والعزلة، فيزداد عذابهم النفسي إلى عذابهم الجسدي، فلا يتصبر بعضهم برؤية بعضٍ، ولا يتلهون عن عذابهم برؤية عذاب الآخرين؛ فكما قال الله تعالى: {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الْأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ * خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ * ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ * ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ * إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ} [الدخان: 43 - 50].

 

ولم ترد كلمة (خالدًا فيها) على وجه الانفراد في القرآن الكريم إلا لأهل النار؛ كما قال سبحانه: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} [النساء: 14].

 

وقوله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93].

 

وقوله سبحانه: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 63].

 

أما في حال المؤمنين فتأتي كلمة (خالدين) تصف خلودهم على صفة الجمع والاجتماع؛ كما قال سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء: 122]، وأمثالها في القرآن كثير.

 

نسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم من أهل الجنة الخالدين، ومن أصحاب النعيم المقيم، نحن وآباؤنا وأبناؤنا ومن صلح من ذرياتنا وأزواجنا، إنه على كل شيء قدير.

___________________________________________
الكاتب: ساير بن هليل المسباح

  • 1
  • 0
  • 107

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً