عندما تختبر الأخلاق
إن من أعظم ما يُبتلى به الإنسان في حياته هو اختبار الأخلاق في وقت الشدة، لا في وقت السعة، فليس صعبًا أن نبدو طيبين ونحن في خيرٍ وطمأنينة
أيها المؤمنون، إن من أعظم ما يُبتلى به الإنسان في حياته هو اختبار الأخلاق في وقت الشدة، لا في وقت السعة، فليس صعبًا أن نبدو طيبين ونحن في خيرٍ وطمأنينة، فحتى العابس يبتسم حين تمطر السماء خيرًا عليه، وحتى القاسي يلين إذا نال مراده ووجد من يوافقه الرأي ويبادله الودَّ، لكنَّ الأخلاق الحقيقية لا تُقاس في أيام النعيم، بل تُكشَف في العثرات، في الزوايا المظلمة من الحياة، حين تشتدُّ الحاجة، وتضيق الأنفاس، ويُختبَر الصبر، وتُستخرَج المعادن.
ما يكشف جوهر الإنسان ليس ما يقوله حين يكون محبوبًا، بل ما يفعله حين يُساء إليه. ليس أدبه مع من يرفع مكانته، بل سلوكه مع من لا يملك له نفعًا. ليس حلمه مع من يوافقه، بل مع من يخالفه ويجرحه ويعانده. هناك فقط يظهر معدن النفس، وتنكشف حقيقة الخلق: أهو عادة اجتماعية تُلبَس كما يُلبَس الثوب، أم عبادة تُقدَّم لله وحده؟
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما بُعِثْت لأتمم مكارم الأخلاق»، فالأخلاق ليست ترفًا اجتماعيًّا، ولا زينة نتجمَّل بها أمام الناس، بل هي دينٌ يُتعبَّد الله به، وهي من أعظم القربات، وأثقل ما يوضع في الميزان يوم القيامة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من شيء أثقل في ميزان العبد يوم القيامة من حسن الخُلُق»؛ (رواه الترمذي).
حين تكظم غيظك، فأنت لا تفعل ذلك لأنك ضعيف، بل لأنك تتقوى بالله. حين تعفو، فأنت لا تُهين كرامتك، بل تُكرم نفسك عند ربك. حين تُعامل من أساء إليك بالرفق، فأنت لا تجامله، بل تُعلن أنك ترتقي بخلقك لا بهم؛ قال الله تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [فصلت: 34].
أيها المؤمنون، نحن اليوم نعيش في زمن كثرت فيه الفتن، وتزاحمت فيه المصالح، وتكاثرت فيه المواقف التي تُغري بالانتقام، وتُشجع على القسوة، وتُبرر الغلظة. كم من موقف يُستفَز فيه الإنسان! وكم من كلمة تُقال لتجرحه! وكم من تصرف يُقصد به إذلاله! فهل نرد الإساءة بالإساءة، أم نرتقي إلى مقام الإحسان؟! قال الله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40].
ومن الأمور العملية التي ينبغي أن نحرص عليها في حياتنا اليومية: أن نُربِّي أنفسنا على كظم الغيظ، بأن نتمهل قبل الرد، وأن نستعيذ بالله من الشيطان، وأن نُغيِّر وضعنا عند الغضب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس، فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع»؛ (رواه أبو داود)، وأن نُكثر من ذكر الله، فإن الذكر يُطفئ نار الغضب، ويُلين القلب، ويُذكِّرنا بعظمة الله، وبصغر الدنيا.
ومن الأمور العملية أيضًا: أن نُعوِّد أنفسنا على العفو، بأن نتذكر أن العفو لا يُضيع، وأن الله يُكرم من يعفو، وأن نُردد دائمًا قول الله تعالى: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور: 22].
ما أجمل أن نكون خيِّرين ونحن بخير! لكن ما أروع أن نبقى كذلك ونحن نتألم! أن نحافظ على صدقنا حين يُكذِّبنا الناس، وعلى رحمتنا حين يقسو علينا الآخرون، وعلى إنسانيتنا وسط زحام المصالح والخذلان. ذلك هو معنى الأخلاق التي تُرضي الله: أن تظلَّ نقيًّا في قلبٍ امتلأ بالجراح، عادلًا في موقفٍ يغري بالانتقام، طيّبًا في زمنٍ يظنُّ فيه الناس أن الطيبة ضعف.
تأملوا حال النبي صلى الله عليه وسلم حين أُوذي في الطائف، وسالت دماؤه، وجاءه ملك الجبال وقال: «إن شئت أُطبق عليهم الأخشبين»، فقال صلى الله عليه وسلم: «بل أرجو أن يُخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا» . هذا هو الخلق الذي يُقدَّم لله، لا للناس، وهذا هو الصبر الذي يُرضي الله، لا الذي يُنتظر منه مقابل.
أيها الأحبة، الأخلاق ليست مجاملة عابرة، بل عبادة دائمة. حين تكون صادقًا، رحيمًا، متواضعًا، حليمًا، لا تفعل ذلك لأن الناس يستحقون، بل لأن الله يحب ذلك منك. وما أروع أن يعيش الإنسان بهذا الفهم؛ أن يزرع خُلقه في كل أرض، مهما جفَّت، وأن يسقي الناس لطفه، ولو لم يردُّوا الجميل! فما عند الله لا يضيع، وما يُقدَّم لله يبقى، حتى وإن جحده البشر.
ومن الأمور العملية التي نحتاج إليها في واقعنا: أن نُربِّي أبناءنا على هذا الفهم، أن نُحدثهم عن الأخلاق لا بوصفها سلوكًا اجتماعيًّا، بل عبادة تُرضي الله، أن نُعلِّمهم أن الصدق لا يُمارس لأن الناس يحبونه، بل لأن الله يحبه، أن نُعلِّمهم أن الرحمة ليست ضعفًا، بل قوةٌ في زمن القسوة، أن نُعلِّمهم أن التواضع لا يُقلِّل من قدر الإنسان، بل يرفعه عند الله.
ومن الأمور العملية أيضًا: أن نُراجع أنفسنا في علاقاتنا، في ردود أفعالنا، في تعاملنا مع من يختلف معنا، مع من يُخطئ في حقنا، مع من لا يملك لنا نفعًا، أن نسأل أنفسنا: هل نُعاملهم بما يُرضي الله؟ أم بما يُرضي النفس؟ هل نُحسن لأنهم يستحقون؟ أم لأننا نريد ما عند الله؟
اللهم يا ربنا، اجعلنا من أهل الأخلاق، ومن الذين يُحسنون في وقت الشدة، ويصبرون عند البلاء، ويعفون عند الإساءة، ويُعاملون الناس بما تحب يا أرحم الراحمين. اللهم طهِّر قلوبنا من الغلِّ، ونفوسنا من الكبر، وألسنتنا من الفحش، وأعمالنا من الرياء. اللهم اجعلنا من الذين يُحبهم الناس في الأرض، ويرضى عنهم، والحمد لله رب العالمين.
______________________________________
الكاتب: حسان أحمد العماري
- التصنيف:
- المصدر: