قل لا يعلم من في السموات والارض الغيب إلا الله (خطبة)

الموضوع: 
أما بعد فيقول رب العالمين سبحانه وتعالى {{الم، ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ، وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ، أُولَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ ۖ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ  }}

أيها الإخوة الكرام: إن أعلى وأرقى درجة من درجات إيمان العبد هي درجة إيمانه بالغيب لأن فيها التسليم والرضا والإذعان والانقياد التام لما جاء به الوحي الشريف عن الله سبحانه وتعالى.. 

ما غاب عن أعيننا فلم نره ،  وما غاب عن أسماعنا فلم نسمعه،  وما غاب عن الحواس التي وهبها الله تعالى لنا يسمى غيباً.. 

الله سبحانه وتعالى غيب، والملائكة عليهم السلام غيب، والساعة غيب،والقبر وما فيه من نعيم، وما فيه من عذاب غيب، والنشر، والبعث، والحشر، والحساب غيب، والصراط والميزان والجنة والنار غيب ، حتى الروح التي بين جنبيك غيب لا تعلم حقيقتها فلا يعلم حقيقة الروح إلا الله.. 

{{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}}

وصف الحق سبحانه وتعالى ذاته العلية فقال: عالم الغيب. 

{{عَالِمِ الْغَيْبِ ۖ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ}}  

وقال:   {{عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ}} 

وقال: {{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا}} 

أخرج البخاري من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال النبي صلى الله عليه وسلّم «« مَفاتِحُ الغَيْبِ خَمْسٌ لا يَعْلَمُها إلَّا اللَّهُ: لا يَعْلَمُ ما في غَدٍ إلَّا اللَّهُ، ولا يَعْلَمُ ما تَغِيضُ الأرْحامُ إلَّا اللَّهُ، ولا يَعْلَمُ مَتَى يَأْتي المَطَرُ أحَدٌ إلَّا اللَّهُ، ولا تَدْرِي نَفْسٌ بأَيِّ أرْضٍ تَمُوتُ، ولا يَعْلَمُ مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ إلَّا اللَّهُ» »

قال الله جل في علاه: 
{{إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ ۖ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا ۖ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} }

وقال عز من قائل: 
{{وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ ۚ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۚ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ}}  

ومن بين الغيب الذي استأثر الله تعالى بعلمه (ما يدور في نفوس الناس وما تخفيه صدورهم من الخير أو الشر ) 

ما في نفوس الناس من الإيمان أو النفاق أو الكفر غيب،  وما يدور في العقول والصدور من الخير أو الشر غيب،  وما في ضمائر الناس من الصلاح أو من الفساد غيب لا يطلع عليه ملك ولا شيطان ولا إنسان إلا أن يكون نبيا أو رسولًا يوحى إليه.. 

قال الحكيم العليم في سورة آل عمران:  {{قُلْ إِن تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ۗ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}}

وفي سورة البقرة قال عز من قائل:  {{لِّلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ ۖ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}}

غزا رسول الله في حياته ثمان وعشرين غزوة،  وبعث رسول الله في حياته ثمان وستين سرية.. 

عن سرية من تلك السرايا قال أسامة بن زيد رضي الله عنهما: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيَّةً إِلَى الْحُرَقَاتِ، نطلب قبيلة من قبائل جهينة،  فلما أحسوا بِنَا، هَرَبُوا إلى رؤوس الجبال.. 

قال أسامة بن زيد فَأَدْرَكْنَا رَجُلًا من جهينة ، فَلَمَّا غَشِينَاهُ قَالَ الرجل : لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ... 
قال أسامة: فَضَرَبْنَاهُ حَتَّى قَتَلْنَاهُ.. 

قال أسامة فَلما رجعنا المدينة ذَكَرْتُ نا كان من أمرنا وأمر الرجل لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ عليه الصلاة والسلام : " مَنْ لَكَ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؟ "

 فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّمَا قَالَ لا إله إلا الله مَخَافَةَ السِّلَاحِ. 
قَالَ عليه الصلاة والسلام : «" أَفَلَا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قَالَهَا أَمْ لَا ؟ مَنْ لَكَ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؟ قال أسامة ". فَلن يزل رسول الله يرددها حَتَّى وَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أُسْلِمْ إِلَّا يَوْمَئِذٍ.» 

الشاهد :  أن رسول الله بقوله «" أَفَلَا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ " » وضع أساسًا لضرورة أن يلزم الإنسان حده.. 
فليس لك أن تفتش في نوايا الناس لأنك لا تعلمها.. 
ليس لك أن تتهم ضمائر لأنك لا تعرفها.. 
لك الظاهر فقط والله سبحانه وتعالى بلطفه وعلمه يتولى السرائر.. 

{{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَـٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا}}

«بَعَثَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْيَمَنِ بِذُهَيْبَةٍ فِي أَدِيمٍ مَقْرُوظٍ لَمْ تُحَصَّلْ مِنْ تُرَابِهَا..  فَقَسَمَهَا رسول الله بَيْنَ أَربعة من المؤلفة قلوبهم ؛ بَيْنَ عُيَيْنَةَ بْنِ بَدْرٍ، وَأَقْرَعَ بْنِ حَابِسٍ، وَزَيْدِ الْخَيْلِ، وَعَلْقَمَة..  فَلما كان هؤلاء الأربعة من الأغنياء اعترض رَجُلٌ فقال : كُنَّا نَحْنُ أَحَقَّ بِهَذَا الذهب مِنْ هَؤُلَاءِ !!  فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ : " أَلَا تَأْمَنُونِي، وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ، يَأْتِينِي خَبَرُ السَّمَاءِ صَبَاحًا وَمَسَاءً ؟! "  فَقَامَ رَجُلٌ غَائِرُ الْعَيْنَيْنِ، مُشْرِفُ الْوَجْنَتَيْنِ ، نَاشِزُ الْجَبْهَةِ ، كَثُّ اللِّحْيَةِ ، مَحْلُوقُ الرَّأْسِ، مُشَمَّرُ الْإِزَارِ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ، اتَّقِ اللَّهَ..  فقَالَ عليه الصلاة والسلام : " وَيْلَكَ، أَوَلَسْتُ أَحَقَّ أَهْلِ الْأَرْضِ أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ ؟  قال راوي الأثر : ثُمَّ وَلَّى الرَّجُلُ. فقَالَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ : يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا أَضْرِبُ عُنُقَهُ ؟ قَالَ النبي : " لَا، لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ يُصَلِّي ". فَقَالَ خَالِدٌ : يا رسول الله وَكَمْ مِنْ مُصَلٍّ يَقُولُ بِلِسَانِهِ مَا لَيْسَ فِي قَلْبِهِ. (والمعني أن خالداً رمى الرجل المتكلم بالنفاق) فقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنِّي لَمْ أُومَرْ أَنْ أَنْقُبَ قُلُوبَ النَّاسِ، وَلَا أَشُقَّ بُطُونَهُمْ "» 

والمعني أن ما في نوايا الناس لا يعلمه إلا الله، فخذ الناس بظواهرهم من أظهر خيراً عامله بما أظهر، ومن أظهر شراً عامله به، ودع سرائر الجميع إلى الله فهو بها أعلم.. 

قال عمر بن الخطاب: 
إنَّ أُنَاسًا كَانُوا يُؤْخَذُونَ بالوَحْيِ في عَهْدِ رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وإنَّ الوَحْيَ قَدِ انْقَطَعَ، وإنَّما نَأْخُذُكُمُ الآنَ بما ظَهَرَ لَنَا مِن أعْمَالِكُمْ، فمَن أظْهَرَ لَنَا خَيْرًا، أمِنَّاهُ وقَرَّبْنَاهُ، وليسَ إلَيْنَا مِن سَرِيرَتِهِ شَيءٌ، اللَّهُ يُحَاسِبُهُ في سَرِيرَتِهِ، ومَن أظْهَرَ لَنَا سُوءًا، لَمْ نَأْمَنْهُ ولَمْ نُصَدِّقْهُ، وإنْ قالَ: إنَّ سَرِيرَتَهُ حَسَنَة ". 

أيها الإخوة الكرام : 
سُئلت الملائكة عما لا تعلم فقالوا {{سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}}

وسُئل الأنبياء عما لا يعلمون فقالوا {{ لَا عِلْمَ لَنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ}}
وسُئل سيدنا عيسى عليه السلام {{ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـٰهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ ۖ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ۚ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ ۚ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ ۚ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ}}

ووقفت الجن موقفا على عهد سيدنا سليمان تبين من خلاله انهم مثلنا تماماً لا يعلمون الغيب {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَىٰ مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ ۖ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ}

ما من مخلوق في هذا العالم يدعي أنه يعلم كل شيء إلا الإنسان يزعم الإنسان أنه يعلم الماضي ويعلم الحاضر ويعلم المستقبل يقول أحدهم: 
قرأت في عين فلان أنه كذاب 
ويقول غيره إن فلانا نيته سيئة وإن فلانا في ضميره كذا وكذا .. 
سبحان الله العظيم 

يا أخي الكريم {{قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّه وما يشعرون أيان يبعثون} }

أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يطهر قلوبنا من النفاق وأعيننا من الخيانة وألسنتنا من الكذب إنه ولي ذلك ومولاه وهو على كل شيء قدير. 

--------------------------------------------------------
بقي لنا في ختام الحديث أن نقول : 
دعك من عيوب الناس وتفرغ لإصلاح عيبك.. 

يا أيها الأخ المعلم غيره هلا لنفسك كان ذا التعليم انظر لنفسك فانهها عن غيها فإن فعلت فأنت عظيم.. 

لستَ ملاكاً مقرباً، ولستَ نبياً مرسلاً ولست معصوماً،  وإنما أنت أحد أبناء آدم وكل بني آدم خطاء.. 

أخرج أبو نعيم في حلية الأولياء:
أن ابن الكواء قال للربيع بن خثيم: ما نراك تذم أحدا ولا تعيبه؟ فقال الربيع : ويلك يا ابن الكواء، ما أنا عن نفسي براض، فأتفرغ من ذم نفسي إلى ذم الناس، إن الناس خافوا الله على ذنوب العباد وأمنوه على ذنوبهم.
( ما أنا عن نفسي براض فأذم الناس) 
دعك من التفتيش في نوايا الناس وفتش في نواياك أنت، أشغل نفسك بنفسك،  فطوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس. 

إذا رمت أن تحيا سليما من الردى،  ودينك موفور وعرضك صيِّن، فلا ينطقنَّ اللسان منك بسوءة فكلك سوءات وللناس ألسن، وعينك إن أبدت إليك معائب فدعها وقل يا عين للناس أعين،  وعاشر بمعروف وسامح من اعتدى،  ودافع ولكن بالتي هي أحسن. 

أيها الإخوة الكرام: 
لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله عز وجل فتقسو قلوبكم..
فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون..
ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب ولكن انظروا فيها كأنكم عبيد.. 
إنما الناس رجلان: رجل مبتلىً، ورجل معافى، فارحموا أهل البلاء، واحمدوا الله على العافية).

نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يصلح أحوالنا وأن يحسن عاقبتنا في الأمور كلها إنه ولي ذلك ومولاه وهو على كل شيء قدير. 
------------------------------------------------------------------------------
جمع وترتيب : الشيخ / محمد سيد حسين عبد الواحد.
إمام وخطيب ومدرس أول .
إدارة أوقاف القناطر الخيرية.
مديرية أوقاف القليوبية . مصر