مع سورة القلم

منذ 3 ساعات

سميت هذه السورة في معظم التفاسير وفي «صحيح البخاري» "سورة نْ وَالْقَلَمِ" على حكاية اللفظين الواقعين في أولها

{بسم الله الرحمن الرحيم

 

سميت هذه السورة في معظم التفاسير وفي «صحيح البخاري» "سورة نْ وَالْقَلَمِ" على حكاية اللفظين الواقعين في أولها، وترجمها الترمذي في جامعه وبعض المفسرين سورة {نْ} بالاقتصار على الحرف المفرد الذي افتتحت به، مثل ما سميت سورة {ص} وسورة {ق}. وفي بعض المصاحف سميت "سورة وَالْقَلَمِ" وكذلك تسميتها في مصحف مخطوط بالخط الكوفي في القرن الخامس.

وهي مكية، قال ابن عطية: لا خلاف في ذلك بين أهل التأويل.

وفي «تفسير القرطبي»: أن معظم السورة نزل في الوليد بن المغيرة وأبي جهل.

واتفق العادون على عد آيها ثنتين وخمسين.

جاء في هذه السورة بالإيماء بالحرف الذي في أولها إلى تحدي المعاندين بالتعجيز عن الإتيان بمثل سور القرآن، وهذا أول التحدي الواقع في القرآن إذ ليس في سورة العلق ولا في المزمل ولا في المدثر إشارة إلى التحدي ولا تصريح.

وفيها إشارة إلى التحدي بمعجزة الأمية بقوله: {{وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ}} [القلم:1].

وابتدئت بخطاب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تأنيسا له وتسلية عما لقيه من أذى المشركين. وإبطال مطاعن المشركين في النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. وإثبات كمالاته في الدنيا والآخرة وهديه وضلال معانديه وتثبيته.

وأكد ذلك بالقسم بما هو من مظاهر حكمة الله تعالى في تعليم الإنسان الكتابة فتضمن تشريف حروف الهجاء والكتابة والعلم لتهيئة الأمة لخلع دثار الأمية عنهم وإقبالهم على الكتابة والعلم لتكون الكتابة والعلم سببا لحفظ القرآن.

ثم أنحى على زعماء المشركين مثل أبي جهل والوليد بن المغيرة بمذمات كثيرة وتوعدهم بعذاب الآخرة وببلايا في الدنيا بأن ضرب لهم مثلا بمن غرهم عزهم وثراؤهم، فأزال الله ذلك عنهم وأباد نعمتهم.

وقابل ذلك بحال المؤمنين المتقين وأن الله اجتباهم بالإسلام، وأن آلهة المشركين لا تغني عنهم شيئا من العذاب في الدنيا ولا في الآخرة.

ووعظهم بأن ما هم فيه من النعمة استدراج وإملاء جزاء كيدهم. وأنهم لا معذرة لهم فيما قابلوا به دعوة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من طغيانهم ولا حرج عليهم في الإنصات إليها.

وأمر رسوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالصبر في تبليغ الدعوة وتلقي أذى قومه، وأن لا يضجر في ذلك ضجرا عاتب الله عليه نبيه يونس عليه السلام.

 

ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3)

{ن} اسم للحرف المعروف، قصد به التحدي. أو اسم للسورة.

وهذه أول سورة نزلت مفتتحة بحرف مقطع من حروف الهجاء. ورسموا حرف {نْ} بصورته التي يرسم بها في الخط، وكان القياس أن تكتب الحروف الثلاثة لأن الكتابة تبع للنطق والمنطوق به وهو اسم الحرف لا ذاته، وإنما هنا يقرأ باسم الحرف لا بهجائه.

{وَالْقَلَمِ} الذي يخط به {وَمَا يَسْطُرُونَ} يكتبون من سطور.

قسم يجري على سنن الأقسام الصادرة في كلام الله تعالى أن تكون بأشياء معظمة دالة على آثار صفات الله تعالى.

فهو قسم منه تعالى، وأيضا تنبيه لخلقه على ما أنعم به عليهم من تعليم الكتابة التي بها تنال العلوم.

قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "إِنَّ اللَّهَ يُقْسِمُ بِمَا يُقْسِمُ بِهِ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ لِأَنَّهَا آيَاتُهُ وَمَخْلُوقَاتُهُ. فَهِيَ دَلِيلٌ عَلَى رُبُوبِيَّتِهِ وَأُلُوهِيَّتِهِ وَوَحْدَانِيِّتِهِ وَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَعَظْمَتِهِ وَعِزَّتِهِ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ يُقْسِمُ بِهَا؛ لِأَنَّ إقْسَامَهُ بِهَا تَعْظِيمٌ لَهُ سُبْحَانَهُ. وَنَحْنُ الْمَخْلُوقُونَ لَيْسَ لَنَا أَنْ نُقْسِمَ بِهَا بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ".

وقد فصّل الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- الحكمة في قسم الله بمخلوقاته بقوله: "فإن قيل: ما الفائدة من إقسامه سبحانه مع أنه صادق بلا قسم؛ لأن القسم إن كان لقوم يؤمنون به ويصدقون كلامه فلا حاجة إليه، وإن كان لقوم لا يؤمنون به فلا فائدة منه، قال تعالى: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ} [البقرة:145] أجيب: أن فائدة القسم من وجوه:

الأول: أن هذا أسلوب عربي لتأكيد الأشياء بالقسم، وإن كانت معلومة عند الجميع، أو كانت منكرة عند المخاطب، والقرآن نزل بلسان عربي مبين.

الثاني: أن المؤمن يزداد يقينا من ذلك، ولا مانع من زيادة المؤكدات التي تزيد في يقين العبد، قال تعالى عن إبراهيم: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260]

الثالث: أن الله يقسم بأمور عظيمة دالة على كمال قدرته وعظمته وعلمه، فكأنه يقيم في هذا المقسم به البراهين على صحة ما أقسم عليه بواسطة عظم ما أقسم به.

الرابع: التنويه بحال المقسم به؛ لأنه لا يقسم إلا بشيء عظيم، وهذان الوجهان لا يعودان إلى تصديق الخبر، بل إلى ذكر الآيات التي أقسم بها تنويها له بها وتنبيها على عظمها.

الخامس: الاهتمام بالمقسم عليه، وأنه جدير بالعناية والإثبات".

ومن فوائد هذا القسم أن هذا القرآن كتاب الإسلام، وأنه سيكون مكتوبا مقروءا بين المسلمين، ولهذا كان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يأمر أصحابه بكتابة ما يوحى به إليه. وتعريف {الْقَلَمِ} تعريف الجنس.

فالقسم بالقلم لشرفه بأنه يكتب به القرآن وكتبت به الكتب المقدسة وتكتب به كتب التربية ومكارم الأخلاق والعلوم وكل ذلك مما له حظ شرف عند الله تعالى.

وهذا يرجحه أن الله نوه بالقلم في أول سورة نزلت من القرآن لقوله: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:3-5].

{مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ} "بِنِعْمَةِ رَبِّكَ" كلام معترض. والمعنى: انتفى عنك الجنون بنعمة ربك، كما يقال: أنت بحمد الله عاقل، وأنت بحمد الله فهِم.

ومعناه: أن تلك الصفة المحمودة إنما حصلت، والصفة المذمومة إنما زالت بواسطة إنعام الله ولطفه وإكرامه.

{بِمَجْنُونٍ} جواب القسم، قصد به تكذيب المشركين في إفكهم المحدث عنه بآية: {وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [ الحجر:6]

{وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا} ثواباً على إبلاغك رسالة ربك إلى الخلق، وصبرك على أذى المشركين واحتمال هذا الطعن والصبر عليه.

{غَيْرَ مَمْنُونٍ} غير منقوص ولا مقطوع.

 

وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)

{وَإِنَّكَ لَعَلَى} للاستعلاء المجازي المراد به التمكن، كقوله: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة:5] ومنه قوله تعالى: {إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} [النمل:79]، {إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الزخرف:43]، {إِنَّكَ لَعَلَى هُدىً مُسْتَقِيمٍ} [الحج:67].

{خُلُقٍ عَظِيمٍ} والعظيم: الرفيع القدر وهو مستعار من ضخامة الجسم، وشاعت هذه الاستعارة حتى ساوت الحقيقة.

والخُلق العظيم: هو الخلق الأكرم في نوع الأخلاق وهو البالغ أشد الكمال المحمود في طبع الإنسان لاجتماع مكارم الأخلاق في النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فالخلق العظيم أرفع من مطلق الخلق الحسن.

قال ابن جرير: أي: أدب عظيم، وذلك أدب القرآن الذي أدبه الله به، وهو الإسلام وشرائعه. قالت عائشة: "كان خُلق رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- القرآن" أي ما تضمنه القرآن من إيقاع الفضائل والمكارم، والنهي عن أضدادها.

قال الرازي: "وهذا كالتفسير لقوله: {بِنِعْمَةِ رَبِّكَ} والدلالة القاطعة على براءته مما رمى به، لأن الأخلاق الحميدة والأفعال المرضية، والفصاحة التامة، والعقل الكامل، والبراءة من كل عيب، والاتصاف بكل مكرمة، كانت ظاهرة منه. وإذا كانت ظاهرة محسوسة فوجودها ينافي حصول الجنون؛ فكذب من أضافه إليه وضل، بل هو الأحرى بأن يرمى بما قذف به".

وقال ابن كثير: "ومعنى هذا أنه -عليه السلام- صار امتثالُ القرآن، أمرًا ونهيًا، سجية له، وخلقًا تَطَبَّعَه، وترك طبعه الجِبِلِّي، فمهما أمره القرآن فعله، ومهما نهاه عنه تركه. هذا مع ما جَبَله الله عليه من الخلق العظيم، من الحياء والكرم والشجاعة، والصفح والحلم، وكل خلق جميل.

كما ثبت عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: "خَدَمْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَشْرَ سِنِينَ فَمَا قَالَ لِي أُفٍّ قَطُّ، وَمَا قَالَ لِشَيْءٍ صَنَعْتُهُ لِمَ صَنَعْتَهُ، وَلاَ لِشَيْءٍ تَرَكْتُهُ لِمَ تَرَكْتَهُ," وَكَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ خُلُقًا، وَلاَ مَسَسْتُ خَزًّا قَطُّ وَلاَ حَرِيرًا وَلاَ شَيْئًا كَانَ أَلْيَنَ مِنْ كَفِّ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَلاَ شَمَمْتُ مِسْكًا قَطُّ وَلاَ عِطْرًا كَانَ أَطْيَبَ مِنْ عَرَقِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ". [الترمذي وقال حسن صحيح]

وفي مسند أحمد عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِيَدِهِ خَادِمًا لَهُ قَطُّ، وَلَا امْرَأَةً، وَلَا ضَرَبَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِيَدِهِ شَيْئًا قَطُّ، إِلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَلَا خُيِّرَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ قَطُّ، إِلَّا كَانَ أَحَبَّهُمَا إِلَيْهِ أَيْسَرُهُمَا، حَتَّى يَكُونَ إِثْمًا، فَإِذَا كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنَ الْإِثْمِ، وَلَا انْتَقَمَ لِنَفْسِهِ مِنْ شَيْءٍ يُؤْتَى إِلَيْهِ، حَتَّى تُنْتَهَكَ حُرُمَاتُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَيَكُونَ هُوَ يَنْتَقِمُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ" [صحيح على شرط الشيخين]

وما أخذ به من الأدب بطريق الوحي غير القرآن، قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ) [السنن الكبرى للبيهقي] وفي رواية: (إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق) [صحيح الجامع]، فجعل أصل شريعته إكمال ما يحتاجه البشر من مكارم الأخلاق في نفوسهم، ولا شك أن الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أكبر مظهر لما في شرعه، قال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا} [الجاثية:18] وأمره أن يقول: {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:163].

فكما جعل الله رسوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على خُلق عظيم جعل شريعته لحمل الناس على التخلق بالخلق العظيم بمنتهى الاستطاعة.

وبهذا يزداد وضوحا معنى التمكن الذي أفاده حرف الاستعلاء في قوله: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} فهو متمكن منه الخلق العظيم في نفسه، ومتمكن منه في دعوته الدينية.

واعلم أن جماع الخُلق العظيم الذي هو أعلى الخلق الحسن هو التدين، ومعرفة الحقائق، وحلم النفس، والعدل، والصبر على المتاعب، والاعتراف للمحسن، والتواضع، والزهد، والعفة، والعفو، والجمود، والحياء، والشجاعة، وحسن الصمت، والتؤدة، والوقار، والرحمة، وحسن المعاملة والمعاشرة.

والأخلاق كامنة في النفس ومظاهرها تصرفات صاحبها في كلامه، وطلاقة وجهه، وثباته، وحكمه، وحركته وسكونه، وطعامه وشرابه، وتأديب أهله ومن لنظره، وما يترتب على ذلك من حرمته عند الناس وحسن الثناء عليه والسمعة.

وأما مظاهرها في رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ففي ذلك كله وفي سياسيته أمته، وفيما خص به من فصاحة كلامه وجوامع كلمه.

 

فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9)

 {فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ} أولئك الجاحدون المتفوهون بتلك العظيمة.

{بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ} أي: فستعلم يا محمد، وسيعلم مخالفوك ومكذبوك: من المفتون الضال منك ومنهم. وهذا كقوله تعالى: {سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الأشِرُ} [القمر:26]، وكقوله: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ:24].

والمفتون وهو الذي أصابته فتنة، أي: الذي قد افتتن عن الحق وضل عنه، والباء مزيدة لتأكيد تعلق الفعل بمفعوله والأصل: أيكم المفتون، فهي كالباء في قوله: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} [المائدة:6].

وقيل: فستعلم يا محمد، وسيعلم مخالفوك ومكذبوك من المجنون.

أو من كُوشف بأسرار العلوم وأوتي جوامع الكلم، أم من حجب عما في نفسه من آيات الله والعبر وفتن بعبادة الصنم؟!.

{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ} ضل عن طريق الحق الذي أمر به.

{وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} بمن اتبع الحق وسلك سبيله، فسيجزي الفريقين.

تعليل لجملة: {فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُون، بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ} باعتبار ما تضمنته من التعريض بأن الجانب المفتون هو الجانب القائل له: {إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر:6]

{فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ} بآيات الله وما جاءهم من الحق. قال الزمخشري: "تهييج وإلهاب على معاصاتهم".

واختير تعريفهم بوصف المكذبين دون غيره من طرق التعريف لأنه بمنزلة الموصول في الإيماء إلى وجه بناء الحكم وهو حكم النهي عن طاعتهم فإن النهي عن طاعتهم لأنهم كذبوا رسالته.

{وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} قال ابن عباس: لو تُرَخِّص لهم فَيُرَخِّصون.

أي: ودوا لو تلين لهم في دينك بإجابتك إياهم إلى الركون إلى آلهتهم، فيلينون لك في عبادتك إلهك، كما قال جل ثناؤه: {وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً * إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} [الإسراء:74-75]، وإنما هو مأخوذ من الدُهن، شبه التليين في القول بتليين الدهن.

 

وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)

{وَلَا تُطِعْ} إعادة فعل النهي عن الطاعة لمن هذه صفاتهم للاهتمام بهذا الأدب فلم يكتف بدخول أصحاب هذه الأوصاف في عموم المكذبين، ولا بتخصيصهم بالذكر بمجرد عطف الخاص على العام بأن يقال: "ولا كل حلاف"، بل جيء في جانبهم بصيغة نهي أخرى مماثلة للأولى.

{كُلَّ} موضوعة لإفادة الشمول والإحاطة لأفراد الاسم التي تضاف هي إليه، فهي هنا تفيد النهي العام عن طاعة كل فرد من أفراد أصحاب هذه الصفات التي أضيف إليها {كُلَّ} بالمباشرة وبالنعوت.

ولا يفهم منه أن النهي منصب إلى طاعة من اجتمعت فيه هذه الصفات بحيث لو أطاع بعض أصحاب هذه الصفات لم يكن مخالفا للنهي إذ لا يخطر ذلك بالبال ولا يجري على أساليب الاستعمال، بل المراد النهي عن طاعة كل موصوف بخصلة من هذه الخصال بله من اجتمع له عدة منها. وهذا كقوله تعالى: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} [البقرة:276]

وأجريت على المنهي عن الإطاعة بهذه الصفات الذميمة لأن أصحابها ليسوا أهلا لأن يطاعوا إذ لا ثقة بهم ولا يأمرون إلا بسوء.

وذكرت عشر خلال من مذامهم التي تخلقوا بها:

{حَلَّافٍ} كثير الحلف. قال الزمخشري: وكفى به مزجرة لمن اعتاد الحلف، ومثله قوله تعالى: {وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ} [البقرة:224].

قال ابن عاشور: والحلاف: المكثر من الأيمان على وعوده وأخباره، وأحسب أنه أريد به الكناية عن عدم المبالاة بالكذب وبالأيمان الفاجرة فجعلت صيغة المبالغة كناية عن تعمد الحنث، وإلا لم يكن ذمه بهذه المثابة.

{مَهِينٍ} ذليل حقير الرأي والتمييز، وذلك أن الكاذب لضعفه ومهانته إنما يتقي بأيمانه الكاذبة التي يجترئ بها على أسماء الله تعالى، واستعمالها في كل وقت في غير محلها.

{هَمَّازٍ} عيّاب طعان.. وأصل الهمز: الطعن بعود أو يد، وأطلق على الأذى بالقول في الغيبة على وجه الاستعارة، وشاع ذلك حتى صار كالحقيقة، وفي التنزيل {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ} [الهمزة:1].

وصيغة المبالغة راجعة إلى قوة الصفة، فإذا كان أذى شديدا فصاحبه {هَمَّازٍ}، وإذا تكرر الأذى فصاحبه {هَمَّازٍ}.

{مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} نقّال لحديث الناس بعضهم في بعض للإفساد بينهم.

ووصفه بالمشاء للمبالغة، فهي استعارة لتشويه حاله بأنه يتجشم المشقة لأجل النميمة، مثل ذكر السعي في قوله تعالى: {وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً} [المائدة:33]. ذلك أن أسماء الأشياء المحسوسة أشد وقعا في تصور السامع من أسماء المعقولات، فذكر المشي بالنميمة فيه تصوير لحال النمام.

روى البخاري عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ مَرَّ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِقَبْرَيْنِ فَقَالَ: (إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ، أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لَا يَسْتَتِرُ مِنْ الْبَوْلِ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ). ثُمَّ أَخَذَ جَرِيدَةً رَطْبَةً فَشَقَّهَا نِصْفَيْنِ فَغَرَزَ فِي كُلِّ قَبْرٍ وَاحِدَةً، قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَ فَعَلْتَ هَذَا قَالَ: (لَعَلَّهُ يُخَفِّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا).

وروى مسلم عَنْ هَمَّامِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ كَانَ رَجُلٌ يَنْقُلُ الْحَدِيثَ إِلَى الْأَمِيرِ فَكُنَّا جُلُوسًا فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ الْقَوْمُ هَذَا مِمَّنْ يَنْقُلُ الْحَدِيثَ إِلَى الْأَمِيرِ قَالَ فَجَاءَ حَتَّى جَلَسَ إِلَيْنَا فَقَالَ حُذَيْفَةُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: (لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَتَّاتٌ). يعني: نمام.

وروى أحمد عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ، أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخِيَارِكُمْ) قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: (الَّذِينَ إِذَا رُؤُوا، ذُكِرَ اللهُ تَعَالَى) ثُمَّ قَالَ: (أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِشِرَارِكُمْ؟ الْمَشَّاءُونَ بِالنَّمِيمَةِ، الْمُفْسِدُونَ بَيْنَ الْأَحِبَّةِ، الْبَاغُونَ [المتمنون] لِلْبُرَآءِ الْعَنَتَ) أي: المشقة والهلاك. [حسن بشواهده]

وروى أحمد عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ، يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (خِيَارُ عِبَادِ اللهِ الَّذِينَ إِذَا رُءُوا، ذُكِرَ اللهُ، وَشِرَارُ عِبَادِ اللهِ الْمَشَّاءُونَ بِالنَّمِيمَةِ، الْمُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْأَحِبَّةِ، الْبَاغُونَ الْبُرَآءَ الْعَنَتَ) [حسن بشواهده]

{مَنَّاعٍ} شديد المنع بصيغة المبالغة {لِلْخَيْرِ} الخير من أسماء «المال» قال تعالى: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات:8] وقال: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ ..} [البقرة:180]

والمراد بمنع الخير: منعه عمن أسلم من ذويهم وأقاربهم، يقول الواحد منهم لمن أسلم من أهله أو مواليه: من دخل منكم في دين محمد لا أنفعه بشيء أبدا، وهذه شنشنة عرفوا بها من بعد، قال الله تعالى في شأن المنافقين: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} [المنافقون:7].

وأيضا فمن منع الخير ما كان أهل الجاهلية يعطون العطاء للفخر والسمعة، فلا يعطون الضعفاء، وإنما يعطون في المجامع والقبائل، قال تعالى: {وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الفجر:18] قيل: كان الوليد ابن المغيرة ينفق في الحج في كل حجة عشرين ألفا يطعم أهل منى، ولا يعطي المسكين درهما واحدا.

وقد روعي تماثل الصيغة في هذه الصفات الأربع وهي: حلف، هماز، مشاء، مناع وهو ضرب من محسن الموازنة.

{مُعْتَدٍ أَثِيمٍ} قرن بينهما لمناسبة الخصوص والعموم.

والاعتداء: مبالغة في العدوان فالافتعال فيه للدلالة على الشدة، فهو معتد على الناس متجاوز في ظلمهم.

والأثيم: كثير الإثم وهو فعيل من أمثلة المبالغة، قال تعالى: {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الْأَثِيمِ} [الدخان:43-44]. والمراد بالإثم هنا ما يعد خطيئة وفسادا عند أهل العقول والمروءة وفي الأديان المعروفة.

{عُتُلٍّ} اسم وليس بوصف لكنه يتضمن معنى صفة لأنه مشتق من العَتْل، وهو الدفع بقوة، قال تعالى: {خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ} [الدخان:47]

وفسر العُتُل بالشديد الخلقة الرحيب الجوف، وبالأكول الشروب، وبالغشوم الظلوم، وبالكثير اللحم المختال.. جاف فظ غليظ، جموع مَنُوعُ.

ونص غير واحد من السلف، منهم مجاهد، وعكرمة، والحسن، وقتادة، وغيرهم: أن العُتُل هو: المُصحَّح الخَلْق، الشديد القوي في المأكل والمشرب والمنكح، وغير ذلك.

روى البخاري عن حَارِثَةَ بْنَ وَهْبٍ الْخُزَاعِيَّ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: (أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ الْجَنَّةِ كُلُّ ضَعِيفٍ مُتَضَعِّفٍ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ النَّارِ كُلُّ عُتُلٍّ جَوَّاظٍ [الضخم المختال في مشيته] مُسْتَكْبِرٍ).

وفي المسند عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (إِنَّ أَهْلَ النَّارِ كُلُّ جَعْظَرِيٍّ [الفَظُّ الغَليظ] جَوَّاظٍ مُسْتَكْبِرٍ، جَمَّاعٍ [للمال] مَنَّاعٍ [للحق فيه]، وَأَهْلُ الْجَنَّةِ الضُّعَفَاءُ الْمَغْلُوبُونَ).

وفيه أيضا عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاص، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ عِنْدَ ذِكْرِ أَهْلِ النَّارِ: (كُلُّ جَعْظَرِيٍّ جَوَّاظٍ مُسْتَكْبِرٍ جَمَّاعٍ مَنَّاعٍ).

{بَعْدَ ذَلِكَ} قال ابن جرير: ومعنى {بَعْدَ} في هذا الموضع معنى (مع).

قال الشهاب: الإشارة لجميع ما قبله من النقائص لا للأخير فقط وهي للدلالة على أن ما بعده أعظم في القباحة.

أي: علاوة على ما عدد له من الأوصاف هو سيء الخلقة سيء المعاملة، فالبعدية هنا بعدية في الارتقاء في درجات التوصيف المذكورة، فمفادها مفاد التراخي الرتبي كقوله تعالى: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات:30]

{زَنِيمٍ} دعيّ في القوم ملصق في النسب وليس منهم، إما بمغمز في نسبه، وإما بكونه حليفا في قوم أو مولى.

وسئل عكرمة عن الزنيم، فقال: "هو ولد الزنا".

وعن ابن عباس: هو المُريب الذي يعرف بالشر.

{أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ} هذا مقابلة ما أنعم الله عليه كونه متمولاً مستظهراً بالبنين فكذب بآياتنا.

{إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا} تقرأ عليه آيات كتابتا {قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} هذا مما كتبه الأولون، استهزاء به، وإنكاراً منه أن يكون ذلك من عند الله.

وليس المراد من جمع هذه الخلال بل من كانت له واحدة منها، والصفة الكبيرة منها هي التكذيب بالقرآن الذي ختم بها قوله: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ}، لكن الذي قال في القرآن إنه {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} هو الوليد بن المغيرة، فهو الذي اختلق هذا البهتان في قصة معلومة، فلما تلقف الآخرون منه هذا البهتان وأعجبوا به أخذوا يقولونه فكان جميعهم ممن يقوله، ولذلك أسند الله إليهم هذا القول في آية: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [الفرقان:5].

{سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} أصله سنوسمه من الوسم وهو إحداث السِمة أي العلامة، والمعنى سنجعل له سمة وعلامة يعرف بها بالكي على أنفه الذي هو أكرم مواضعه لغاية إهانته وإذلاله، وكناية عن التمكن منه وإظهار عجزه.

وقد كان الوسم للإبل ونحوها، جعل سمة لها أنها من مملوكات القبيلة أو المالك المعين. فالمعنى: سنعامله معاملة يعرف بها أنه عبدنا وأنه لا يغني عنه ماله وولده منا شيئا.

فهو عدةٌ منه تعالى بغاية إذلالِه، بعد تناهي كبره وعجبه وزهوه وعتوه. تقول العرب: وسمته بميسم السوء، يريدون أنه ألصق به من العار مالا يفارقه.

قال الزمخشري: الوجه أكرم موضع في الجسد، والأنف أكرم موضع من الوجه, لتقدمه له، ولذلك جعلوه مكان العز والحميّة، واشتقوا منه الأنفَة، وقالوا: الأنَف في الأنف، وحمى أنفه، وفلان شامخ العرنين. وقالوا في الذليل: جدع أنفه، ورغم أنفه.

فعَّبر بالوسم على الخرطوم عن غاية الإذلال والإهانة، لأن السمة على الوجه شين وإذالة، فكيف بها على أكرم موضع منه؟ ولقد وسم العباس أباعره في وجوهها، فقال له رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (أكرموا الوجوه)، فوسمها في جواعرها [ناحيتا الوركين حول الدبر]. وقيل: لفظ الخرطوم استخفاف به واستهانة، لأن أصل الخرطوم للخنزير والفيل. وقيل: سنعلمه يوم القيامة بعلامة مشوّهة يبين بها عن سائر الكفرة، كما عادى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عداوة بان بها عنهم. انتهى.

قال الزيلعي في حديث (أكرموا الوجوه) غريب بهذا اللفظ، وروى مسلم في صحيحه في كتاب اللباس من حديث عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ أَنَّ نَاعِمًا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مَوْلَى أُمِّ سَلَمَةَ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُول: وَرَأَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِمَارًا مَوْسُومَ الْوَجْهِ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ قَالَ فَوَاللَّهِ لَا أَسِمُهُ إِلَّا فِي أَقْصَى شَيْءٍ مِنْ الْوَجْهِ فَأَمَرَ بِحِمَارٍ لَهُ فَكُوِيَ فِي جَاعِرَتَيْهِ فَهُوَ أَوَّلُ مَنْ كَوَى الْجَاعِرَتَيْنِ.

قال النووي: وأما الجاعرتان فهما حرفا الورك المشرفان مما يلي الدبر، وأما القائل: "فوالله لا أسمه إلا أقصى شيء من الوجه" هو العباس بن عبد المطلب.. قال القاضي وهو في كتاب مسلم مشكل يوهم أنه من قول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والصواب أنه من قول العباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.

 

إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33)

{إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ} ضمير الغائبين في قوله: {بَلَوْنَاهُمْ} يعود إلى {الْمُكَذِّبِينَ} في قوله: {فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ} [القلم:8]. والجملة مستأنفة دعت إليه مناسبة قوله: {أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ، إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [القلم:14-15] فإن الازدهار والغرور بسعة الرزق المفضيين إلى الاستخفاف بدعوة الحق وإهمال النظر في كنهها ودلائلها قد أوقع من قديم الزمان أصحابهما في بطر النعمة وإهمال الشكر فجر ذلك عليهم شر العواقب، فضرب الله للمشركين مثلا بحال أصحاب هذه الجنة لعلهم يستفيقون من غفلتهم وغرورهم.

{كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} الجنة: البستان المشتمل على أنواع الثمار والفواكه.. {أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} قوم من أهل الكتاب، وليس من ضرورة الاعتبار بالمثل والعظة به تعيين أهله، لولا محبة المأثور.

والبلوى المذكورة هنا بلوى بالخير فإن الله أمد أهل مكة بنعمة الأمن، ونعمة الرزق، وجعل الرزق يأتيهم من كل جهة، ويسر لهم سبل التجارة في الآفاق بنعمة الإيلاف برحلة الشتاء ورحلة الصيف، فلما أكمل لهم النعمة بإرسال رسول منهم ليكمل لهم صلاح أحوالهم ويهديهم إلى ما فيه النعيم الدائم فدعاهم وذكرهم بنعم الله أعرضوا وطغوا ولم يتوجهوا بالنظر إلى النعم السالفة ولا النعمة الكاملة التي أكملت لهم النعم. فلا تكون عاقبتهم إلا كعاقبة أهل الجنة في امتحانهم الآتي، ثم دمارهم.

وهذا التمثيل تعريض بالتهديد بأن يلحقهم ما لحق أصحاب الجنة من البؤس بعد النعم، والقحط بعد الخصب.

{إِذْ أَقْسَمُوا} وهذا يقتضي أن بعضهم كان مترددا في موافقتهم على ما عزموا عليه، وأنهم ألجموه بالقسم وهذا الذي يلتئم مع قوله تعالى: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ} [القلم:28]

{لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} الصرم: قطع الثمرة وجذاذها.. حلفوا فيما بينهم ليقطعن ثمرها مبكرين لئلا يعلم بهم فقير ولا سائل، ليتوفر ثمرها عليهم ولا يتصدقوا منه بشيء.

{وَلَا يَسْتَثْنُونَ} ولم يقولوا: إن شاء الله، أي لمبلغ غرورهم بقوة أنفسهم صاروا إذا عزموا على فعل شيء لا يتوقعون له عائقا.

أو لا يستثنون من الثمرة شيئا للمساكين.

وعلى الروايات كلها يعلم أن أهل هذه الجنة لم يكونوا كفارا، فوجه الشبه بينهم وبين المشركين المضروب لهم هذا المثل هو: بطر النعمة والاغترار بالقوة.

{فَطَافَ} الطواف: المشي حول شيء من كل جوانبه يقال: طاف بالكعبة، وأريد هنا تمثيل حالة الإصابة لشيء كله بحال من يطوف بمكان.

{عَلَيْهَا طَائِفٌ} تنوين {طائف} للتعظيم، أي أمر عظيم وقد بينه بقوله: {فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} فهو طائف سوء.

 {مِنْ رَبِّكَ} فطرق جنة هؤلاء القوم، طارق من أمر الله لتدميرها.. قال ابن جرير: ولا يكون الطائف في كلام العرب إلا ليلاً، ولا يكون نهاراً.

{وَهُمْ نَائِمُونَ} مستغرقون في سُباتهم، غافلون عما يمكر بهم. تأكيد على الأول، وتأسيس على الثاني.

{فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} كالبستان الذي صرم ثمره بحيث لم يبق فيه شيء، أو كالليل الأسود لاحتراقها.

والصريم من أسماء الليل ومن أسماء النهار لأن كل واحد منهما ينصرم عن الآخر

وقيل الصريم: الرماد الأسود بلغة جذيمة أو خزيمة.

وقيل الصريم: اسم رملة معروفة باليمن لا تنبت شيئا.

وإيثار كلمة الصريم هنا لكثرة معانيها وصلاحية جميع تلك المعاني لأن تراد في الآية.

وعجل العقاب لهم قبل التلبس بمنع الصدقة لأن عزمهم على المنع وتقاسمهم عليه حقق أنهم مانعون صدقاتهم فكانوا مانعين، ويؤخذ من الآية موعظة إلى الذين لا يواسون بأموالهم أن الله تعالى قد يعجل لهم العقوبة.

{فَتَنَادَوْا} فنادى بعضهم بعضاً، وهو مشعر بالتحريض على الغدو إلى جنتهم مبكرين.

 {مُصْبِحِينَ} وقت الصبح ليذهبوا إلى الجَذَاذ، ولم يشعروا بما جرى لجنتهم بالليل.

{أَنِ اغْدُوا} أخرجوا غدوة وهي أول النهار {عَلَى حَرْثِكُمْ} زرعكم، وقد يطلق الحرث على الجنة لأنهم يتعاهدونها بالحرث لإصلاح شجرها.

 {إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ} قاصدين قطع ثمارها، وقد قطعها البلاء من أصلها.

{فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ} يتناجون ويتسارّون فيما بينهم بحيث لا يُسمعون أحدًا كلامهم.

{أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ} قال الزمخشري: والنهي عن الدخول للمسكين، نهي لهم عن تمكينه منه. أي: لا تمكنوه من الدخول حتى يدخل، كقولك: "لا أَرَيَنَّك هاهنا" {عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ} فقير

{وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ} في الحرد أربعة أقوال:

الأول: المنع.. ونزل فلان حريدا، أي: متمنعا عن مخالطة القوم. وحاردت السنة: منعت قطرها، والناقة منعت درها.

الثاني: القصد القوي والسرعةُ.. أي: غَدَوا قاصدينَ إلى جنتهِم بسرعةٍ.

الثالث: الغضب.

الرابع: اسم الجنة.

{قَادِرِينَ} يحتمل أن يكون من القدرة، أي قادرين في زعمهم أو قادرينَ على إصابةِ خيرِهَا ومنافِعِهَا أو التضييق أي ضيقوا على المساكين.

والمعنى: وساروا في أول النهار إلى حديقتهم على قصدهم السيِّئ في منع المساكين من ثمار الحديقة، وهم في غاية القدرة على تنفيذه في زعمهم.

وقيل: {وَغَدَوْاْ على حَرْدٍ قادرين} أي على نكدٍ، والمَعْنَى أنَّهم أرادُوا أنْ يتنكدُوا على المساكينِ ويحرمُوهُم، وهم قادرونَ على نفعِهِم فغَدوا بحالٍ لا يقدرونَ فيها إلا على النكدِ والحرمانِ، وذلكَ أنَّهُم طلبُوا حرمانَ المساكينِ فتعجلُوا الحرمانَ والمسكنَةَ.

والتعبير بقادرين على الحرد دون أن يقول: وغدوا حادرين تهكم لأن شأن فعل القدرة أن يذكر في الأفعال التي يشق على الناس إتيانها، قال تعالى: {لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا} [البقرة:264] وقال: {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} [القيامة:4] فقوله: {عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ} على هذا الاحتمال من باب قولهم: فلان لا يملك إلا الحرمان أو لا يقدر إلا على الخيبة.

وإذا حمل الحرد على معنى السرعة والقصد كان {عَلَى حَرْدٍ} متعلقا بـ {غَدَوْا} مبينا لنوع الغدو، أي غدوا غدو سرعة واعتناء، والمعنى: غدوا بسرعة ونشاط، مقدرين أنهم قادرون على تحقيق ما أرادوا.

وفي الكلام تعريض بأنهم خابوا، دل عليه قوله بعده {فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ} [القلم:26]، وقوله قبله: {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ}.

وإذا أريد بالحرد الغضب والحنق فإنه يقال: أي غدوا لا قدرة لهم إلا على الحنق والغضب على المساكين لأنهم يقتحمون عليهم جنتهم كل يوم فتحيلوا عليهم بالتبكير إلى جذاذها، أي لم يقدروا إلا على الغضب والحنق ولم يقدروا على ما أرادوه من اجتناء ثمر الجنة.

وعن السدي: أن {حَرْدٍ} اسم قريتهم، أي جنتهم. وأحسب أنه تفسير ملفق [التحرير والتنوير]

اتفق أئمة الأدب على أن وقوع اللفظ المتنافر في أثناء الكلام الفصيح لا يزيل عنه وصف الفصاحة، فإن العرب لم يعيبوا معلقة امرئ القيس ولا معلقة طرفة. قال أبو العباس المبرد: وقد يضطر الشاعر المفلق والخطيب المصقع والكاتب البليغ فيقع في كلام أحدهم المعنى المستغلق واللفظ المستكره فإذا انعطفت عليه جنبتا الكلام غطتا على عواره وسترتا من شينه.

وأما ما يعرض للهجات العرب فذلك شيء تفاوتت في مضماره جياد ألسنتهم، وكان المجلي فيها لسان قريش ومن حولها من القبائل، وهو مما فسر به حديث: (أنزل القرآن على سبعة أحرف)، ولذلك جاء القرآن بأحسن اللهجات وأخفها وتجنب المكروه من اللهجات، وهذا من أسباب تيسير تلقي الأسماع له ورسوخه فيها. قال تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17]

ومما أعده في هذه الناحية صراحة كلماته باستعمال أقرب الكلمات في لغة العرب دلالة على المعاني المقصودة، وأشملها لمعان عديدة مقصودة بحيث لا يوجد في كلمات القرآن كلمة تقصر دلالتها عن جميع المقصود منها في حالة تركيبها، ولا تجدها مستعملة إلا في حقائقها مثل إيثار كلمة «حرد» في قوله تعالى: {وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ} [القلم:25] إذ كان جميع معاني الحرد صالحا للإرادة في ذلك الغرض، أو مجازات أو استعارات أو نحوها مما تنصب عليه القرائن في الكلام.

{قَادِرِينَ} وإذا كان القدر لا ينافي الأسباب الكونية والشرعية فهو لا ينافي أن يكون للعبد إرادة وقدرة يكون بهما فعله، فهو مريد قادر فاعل لقوله تعالى: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَة} [آل عمران:152]. وقوله: {وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ} [القلم:25]. وقوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً} [النساء:66]. وقوله: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} [فصلت:46].

لكنه غير مستقل بإرادته وقدرته وفعله، كما لا تستقل الأسباب بالتأثير في مسبباتها لقوله تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:28-29]. ولأن إرادته وقدرته وفعله من صفاته وهو مخلوق، فتكون هذه الصفات مخلوقة أيضاً، لأن الصفات تابعة للموصوف، فخالق الأعيان خالق لأوصافها.

{فَلَمَّا رَأَوْهَا} فلما صاروا إليها، ورأوها محترقاً حرثها {قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} أنكروها وشكوا فيها: هل هي جنتهم أم لا؛ فقال بعضهم لأصحابه: ظناً منه أنهم قد أغفلوا طريق جنتهم وأن التي رأوها غيرها: إنا أيها القوم لضالون طريق جنتنا! فقال من علم أنها جنتهم، وأنهم لم يخطئوا الطريق: بل نحن أيها القوم، محرومون، حرمنا منفعة جنتنا بذهاب حرثها.

فالحرمان الأعظم قد اختص بهم إذ ليس حرمان المساكين بشيء في جانب حرمانهم.

 {قَالَ أَوْسَطُهُمْ} أي أعدلهم وأخيرهم وخيرهم رأياً، وليس المراد أوسطهم سنا، ومثله قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة:143] أي خيارا عدولا.

{أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا} حرف تحضيض {تُسَبِّحُونَ} تنزيه الله عن أن يعصى أمره في شأن إعطاءه زكاة ثمارهم.

أو تذكرون الله وتتوبون إليه من خبث نيتكم، وتخشون انتقامه من المجرمين.

وكان أوسطهم وعظهم حين عزموا على عزيمتهم الخبيثة، فعصوه، فعيّرهم.

{قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} في ترك استثناء حق المساكين ومنع المعروف عنهم من تلك الجنة.. أتوا بالطاعة حيث لا تنفع، وندموا واعترفوا حيث لا ينجع.

{فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} والإقبال: حقيقته المجيء إلى الغير من جهة وجهه وهو مشتق من القبل وهو ما يبدو من الإنسان من جهة وجهه ضد الدبر، وهو هنا تمثيل لحال العناية باللوم.

{يَتَلَاوَمُونَ} يلوم بعضهم بعضاً. واللوم: إنكار متوسط على فعل أو قول وهو دون التوبيخ وفوق العتاب.

{قَالُوا يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ} متجاوزين حدود الله تعالى في تفريطنا وعزمنا السيئ.

{عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا} بتوبتنا إليه، وندمنا على خطأ فعلنا، وعزمنا على عدم العودة إلى مثله.

{إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ} في العفو عما فرط منا، والتعويض عما فاتنا.

والمقصود من الإطناب في قولهم بعد حلول العذاب بهم تلقين الذين ضرب لهم هذا المثل بأن في مكنتهم الإنابة إلى الله بنبذ الكفران لنعمته إذ أشركوا به من لا إنعام لهم عليه.

{كَذَلِكَ الْعَذَابُ} في الدنيا لمن خالف الرسل، وكفر بالحق، وبغى الفساد في الأرض.. رجوع إلى تهديد المشركين المبدوء من قوله: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ}.

{وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ} أعظم منه {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} لارتدعوا وتابوا وأنابوا.

وضمير {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} عائد إلى ما عاد إليه ضمير الغائب في قوله: {بَلَوْنَاهُمْ}، وهم «المشركون» فإنهم كانوا ينكرون عذاب الآخرة فهددوا بعذاب الدنيا، ولا يصح عوده إلى {أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} لأنهم كانوا مؤمنين بعذاب الآخرة وشدته.

قيل: كانوا من أهل الحبشة، وكان أبوهم قد خلف لهم هذه الجنة، وكانوا من أهل الكتاب، وقد كان أبوهم يسير فيها سيرة حسنة، فكان ما استغله منها يرد فيها ما يحتاج إليها ويدّخر لعياله قوت سنتهم، ويتصدق بالفاضل. فلما مات ورثه بنوه، قالوا: لقد كان أبونا أحمقَ إذ كان يصرف من هذه شيئًا للفقراء، ولو أنَّا منعناهم لتوفر ذلك علينا. فلما عزموا على ذلك عُوقِبوا بنقيض قصدهم، فأذهب الله ما بأيديهم بالكلية، رأس المال الربح والصدقة، فلم يبق لهم شيء.

قال في «الإكليل»: "قال ابن الفَرَس: استدل بهذه القصة عبد الوهاب على أن من فرّ من الزكاة قبل الحول بتبديل أو خلط، فإن ذلك لا يسقطها، ووجه ذلك: أنهم قصدوا بقطع الثمار إسقاط حق المساكين، فعاقبهم الله بإتلاف ثمارهم. وفيها كراهة الجذاذ والحصاد بالليل، كما ورد التصريح بالنهي عنه في الحديث، لأجل الفقراء".

والحديث الذي يقصد ما رواه البيهقي في «السنن الكبرى»  عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَهَى عَنِ الْجَدَادِ [صرام النخل وهو قطع ثمرتها] بِاللَّيْلِ، وَالْحَصَادِ بِاللَّيْلِ. قَالَ جَعْفَرٌ: أُرَاهُ مِنْ أَجْلِ الْمَسَاكِينِ.

وحكى الزمخشري عن قتادة أنه سُئل عن أصحاب الجنة: أهم من أصحاب الجنة أم من أهل النار ؟ فقال: لقد كلفتني تعباً. وعن مجاهد: تابوا فأُبدلوا خيراً منها، والله أعلم.

 

إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (41)

{إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ} استئناف بياني لأن من شأن ما ذكر من عذاب الآخرة للمجرمين أن ينشأ عنه سؤال في نفس السامع بقول: فما جزاء المتقين?

وتقديم المسند على المسند إليه للاهتمام بشأن المتقين ليسبق ذكر صفتهم العظيمة ذكر جزاءها. واللام للاستحقاق. والعندية هنا عندية كرامة واعتناء.

{جَنَّاتِ النَّعِيمِ} وإضافة {جنات} إلى {النعيم} تفيد أنها عرفت به فيشار بذلك إلى ملازمة النعيم لها، فلا يكون فيها ما يكون من جنات الدنيا من المتاعب مثل الحر في بعض الأوقات أو شدة البرد أو مثل الحشرات والزنابير، أو ما يؤذي مثل شوك الأزهار والأشجار وروث الدواب وذرق الطير.

{أَفَنَجْعَلُ} الهمزة للاستفهام الاستنكاري {الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} في الكرامة والمثوبة الحسنى، والعاقبة الحميدة.

والاستفهام وما بعده من التوبيخ، والتخطئة، والتهكم على إدلالهم الكاذب، ومؤذن بأن ما أنكر عليهم ووبخوا عليه وسفهوا على اعتقاده كان حديثا قد جرى في نواديهم أو استسخروا به على المسلمين في معرض جحود أن يكون بعث، وفرضهم أنه على تقدير وقوع البعث والجزاء لا يكون للمسلمين مزية وفضل عند وقوعه.

وعن مقاتل لما نزلت آية {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} قالت قريش: إن كان ثمة جنة نعيم فلنا فيها مثل حظنا وحظهم في الدنيا، وعن ابن عباس أنهم قالوا: إنا نعطى يومئذ خيرا مما تعطون فنزل قوله: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} الآية.

وإنكار جعل الفريقين متشابهين كناية عن إعطاء المسلمين جزاء الخير في الْآخِرَةِ وحرمان المشركين منه، لأن نفي التساوي وارد في معنى «التضاد» في الخير والشر في القرآن وكلام العرب. قال تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لا يَسْتَوُونَ} [السجدة:18]، وقال: {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} [الحشر:20]، وقال: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص:28]

{مَا لَكُمْ} استفهام استنكاري فيه التفات {كَيْفَ تَحْكُمُونَ} بما ينبو عنه العقل السليم، فإنهما لا يستويان في قضيته.

{أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ} إضراب انتقال من توبيخ إلى احتجاج على كذبهم.. والاستفهام المقدر مع {أَمْ} إنكار لأن يكون لهم كتاب، إنكارا مبنيا على الفرض وإن كانوا لم يدعوه.

وفي هذا إدماج بالتعريض بأنهم أميون ليسوا أهل كتاب وأنهم لما جاءهم كتاب لهديهم وإلحاقهم بالأمم ذات الكتاب كفروا نعمته وكذبوه.

{إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ} أصله تتخيرون بتاءين، حذفت إحداهما تخفيفا. والتخير: تكلف الخير، أي تَطَلُّبُ مَا هُوَ فِي أَخْيَرِ. والمعنى: إن في ذلك الكتاب لكم ما تختارون من خير الجزاء لأنفسكم، وتشتهونه لكم، كقوله: {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّنْهُ} [فاطر:40]، وهذا توبيخ لهم وتقريع فيما كانوا يقولون من الباطل، ويتمنون من الأماني الكاذبة.

{أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا} أقسمنا لكم {بَالِغَةٌ} متناهية في التوكيد. وأصله بالغة أقصى ما يمكن، استعارة لمعنى «مغلظة»، شبهت بالشيء المبالغ إلى نهاية سيره. وذلك كقوله تعالى: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} [الأنعام:149].

 {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} صفة لـ {أَيْمَانٌ}، أي أيمان مؤبدة لا تحلة منها فحصل من الوصفين أنها عهود مؤكدة ومستمرة طول الدهر. كما في قوله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأحقاف:5]

{إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ} تقضون من أمانيكم ومزاعمكم.

{سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ} الحكم {زَعِيمٌ} كفيل به، يدعيه ويصححه.. استفهام مستعمل في التهكم زيادة على الإنكار عليهم، وقد جعل الزعيم أحدا منهم زيادة في التهكم، وهو أن جعل الزعيم لهم واحدا منهم لدعوى عزتهم وكبريائهم.

{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ} يشاركونهم في هذا الزعم، ويوافقونهم عليه {فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} في دعواهم.

والآية إضراب انتقالي ثالث إلى إبطال مستند آخر مفروض لهم في سند قولهم: إنا نعطى مثل ما يعطى المسلمون أو خيرا مما يعطونه، وهو أن يفرض أن أصنامهم تنصرهم وتجعل لهم حظا من جزاء الخير في الآخرة.

وتنكير {شُرَكَاءُ} في حيز الاستفهام المستعمل في الإنكار يفيد انتفاء أن يكون أحد من الشركاء -أي الأصنام لهم- تنفعهم، فيعم أصنام جميع قبائل العرب المشترك في عبادتها بين القبائل، والمخصوصة ببعض القبائل.

قال الزمخشري: يعني أن أحداً لا يسلّم لهم بهذا، ولا يساعدهم عليه، كما أنه لا كتاب لهم ينطق به، ولا عهد به عند الله، ولا زعيم لهم يقوم به. ففيه تنبيه على نفي جميع ما يمكن أن يتشبثوا به من عقل أو نقل.

 

يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43)

{يَوْمَ} القيامة {يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} عن مجاهد قال: شدة الأمر، وعن ابن عباس: هو الأمر الشديد المُفظِع من الهول يوم القيامة.

{وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ} قال ابن كثير: روى البخاري عَنْ أَبِي سَعِيدٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: (يَكْشِفُ رَبُّنَا عَنْ سَاقِهِ فَيَسْجُدُ لَهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ فَيَبْقَى كُلُّ مَنْ كَانَ يَسْجُدُ فِي الدُّنْيَا رِيَاءً وَسُمْعَةً فَيَذْهَبُ لِيَسْجُدَ فَيَعُودُ ظَهْرُهُ طَبَقًا وَاحِدًا).

تنبيه: ظن بعض الناس أن الحافظ ابن كثير سلك هنا مسلك التأويل لصفة الساق، وهذا فهم خاطئ؛ وذلك لأن الحافظ ابن كثير فسر هذه الآية بحديث أبي سعيد -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- ثم ذكر ما قيل في هذه الآية، وقد تكلم الإمام ابن القيم عن هذه الآية كلامًا بديعًا قال -رحمه الله- في «الصواعق المرسلة»:

"والصحابة متنازعون في تفسير هذه الآية: هل المراد الكشف عن الشدة؟ أو المراد بها أن الرب تعالى يكشف عن ساقه؟ ولا يحفظ عن الصحابة والتابعين نزاع فيها يذكر أنه من الصفات أم لا في غير هذا الموضوع، وليس في ظاهر القرآن ما يدل على أن ذلك صفة لله؛ لأنه سبحانه لم يضف الساق إليه، وإنما ذكره مجردًا عن الإضافة منكرًا، والذين أثبتوا ذلك صفة كاليدين والأصبع لم يأخذ ذلك من ظاهر القرآن، وإنما أثبتوه بحديث أبي سعيد الخدري المتفق على صحته، وهو حديث الشفاعة الطويل وفيه: (فيكشف الرب عن ساقه فيخرون له سجدًا). ومن حمل الآية على ذلك قال: قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ} مطابق لقوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (فيكشف عن ساقة فيخرون له سجدًا). وتنكيره للتعظيم والتفخيم كأنه قال: يكشف عن ساق عظيمة، جلت عظمتها وتعالى شأنها أن يكون لها نظير أو مثل أو شبيه، قالوا: وحمل الآية على الشدة لا يصح بوجه؛ فإن لغة القوم في مثل ذلك أن يقال: كشف الشدة عن القوم لا كشف عنها، كما قال تعالى: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ} [الزخرف:50]، وقال: {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِم مِّن ضُرٍّ} [المؤمنون:75]، فالعذاب والشدة هو المكشوف لا المكشوف عنه، وأيضًا فهناك تحدث الشدة وتشتد، ولا تزال إلا بدخول الجنة، وهناك لا يدعون إلى السجود، وإنما يدعون إليه أشد ما كانت الشدة" انتهى

{خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ} خشوع الأبصار: هيئة النظر بالعين بذلة وخوف، استعير له وصف {خَاشِعَةً} لأن الخاشع يكون مطأطئا مختفيا.

{تَرْهَقُهُمْ} تحل بهم وتقترب منهم بحرص على التمكن منهم، قال تعالى: {تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} [عبس:41] أي: تغشاها ظلمة وسواد {ذِلَّةٌ} تغشاهم يوم القيامة ذلة العصيان السالف لهم.

{وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} وهم قادرون على السجود لا علة تعوقهم في أجسادهم لسلامتها من العاهات والأمراض.

أي: تغشاهم في الدار الآخرة ذلة بإجرامهم وتكبرهم في الدنيا، فعوقبوا بنقيض ما كانوا عليه. ولما دعوا إلى السجود في الدنيا فامتنعوا منه مع صحتهم وسلامتهم كذلك عوقبوا بعدم قدرتهم عليه في الآخرة، إذا تجلى الرب -عز وجل- فيسجد له المؤمنون، لا يستطيع أحد من الكافرين ولا المنافقين أن يسجُد، بل يعود ظهر أحدهم طبقًا واحدًا، كلما أراد أحدهم أن يسجد خَرّ لقفاه، عكس السجود، كما كانوا في الدنيا، بخلاف ما عليه المؤمنون.

 

فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47)

وبعد أن استوفي الغرض من موعظتهم ووعيدهم وتزييف أوهامهم أعقب بهذا الاعتراض تسلية للرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بأن الله تكفل بالانتصاف من المكذبين ونصره عليهم.

{فَذَرْنِي} وهذا تهديد شديد، أي: كِله إليّ فإني أكفيكه، وهذا من بليغ الكناية، كأنه يقول: حسبك انتقاماً منه أن تكل أمره إليّ، وتخلّي بيني وبينه، فإني عالم بما يجب أن يفعل به، قادر على ذلك.

وهي تمثيلا في تعهده بأن يكفي مؤونة شيء دون استعانة بصاحب المؤونة لأنه أقدر من المعتدى عليه في الانتصاف من المعتدي فيتفرغ له ولا يطلب من صاحب الحق إعانة له على أخذ حقه، كقوله تعالى: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ} [المزمل:11] {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} [المدثر:11]

وهي أيضا كلمة يقولها المغتاظ إذا اشتد غيظه وغضبه وكره أن يشفع لمن اغتاظ عليه.

وهذا وعد للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالنصر ووعيد لهم بانتقام في الدنيا لأنه تعجيل لتسلية الرسول.

{وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ} يعني: القرآن. وتسميته حديثا لما فيه من الإخبار عن الله تعالى، وما فيه من أخبار الأمم وأخبار المغيبات، وقد سمي بذلك في قوله تعالى: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف:185] وقوله تعالى: {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ} [النجم:59-60] وقوله: {أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ} [الواقعة:81] أي: متهاونون مكذبون.

{سَنَسْتَدْرِجُهُمْ} نون المتكلم المشارك، والمراد الله وملائكته الموكلون بتسخير الموجودات وربط أحوال بعضها ببعض على وجه يتم به مراد الله، فلذلك جيء بنون المتكلم.

{مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ} سنكيدهم بالإمهال وإدامة الصحة، وزيادة النعم، من حيث لا يعلمون أنه استدراج، وسبب لهلاكهم، وذلك أجلب لقوة حسرتهم عند حدوث المصائب بهم.. يقال: استدرجه إلى كذا، أي: استنزله إليه درجة فدرجة، حتى يورطه فيه.

كما قال: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون:55-56]، وقال: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام:44]

{وَأُمْلِي لَهُمْ} أمهلهم وأُنْسئُ في آجالهم ملاوةً من الزمان، لتكمل حجة الله عليهم.

والإملاء ينفرد به الله وحده فلذلك جيء معه بضمير المفرد. ونظير هذه الآية قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ، وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف:182-183]

 {إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} كيدي بأهل الكفر شديد قويّ.

وفي البخاري عَنْ أَبِي مُوسَى -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ) قَالَ ثُمَّ قَرَأَ {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}.

قال الزمخشريّ: الصحة والرزق والمدّ في العمر، إحسان من الله وإفضال، يوجب عليهم الشكر والطاعة، ولكنهم يجعلونه سبباً في الكفر باختيارهم، فلما تدرجوا به إلى الهلاك، وصف النعم بالاستدراج. وقيل: كم من مستدرج بالإحسان إليه، وكم من مفتون بالثناء عليه، وكم من مغرور بالستر عليه. وسمى إحسانه وتمكينه كيداً، كما سماه استدراجاً، لكونه في صورة الكيد، حيث كان سبباً للتورط في الهلكة. ووصفه بالمتانة لقوة أثر إحسانه في التسبب للهلاك.

{أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا} على ما أتيتهم به من النصيحة، ودعوتهم إليه من الحق.. إضراب آخر للانتقال إلى إبطال آخر من إبطال معاذيرهم في إعراضهم عن استجابة دعوة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

{فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ} المغرم: ما يفرض على المرء أداؤه من ماله لغير عوض ولا جناية {مُثْقَلُونَ} المثقل: الذي حمل عليه شيء ثقيل عليه.

أي: أثقلهم الأداء، فتحاموا لذلك قبول نصيحتك، وتجنبوا الدخول فيما دعوتهم إليه. والمعنى: لم تطلب منهم على الهداية والتعليم أجراً فيثقل عليهم حمله حتى يثبطهم عن الإيمان.

{أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ} منه ما يحكمون به، فيجادلونك بما فيه، ويزعمون أنهم على كفرهم بربهم أفضل منزلة عند الله من أهل الإيمان به، وأنهم مستغنون عن وحيه وتنزيله.

والكلام إضراب آخر انتقل به في مدارج إبطال معاذير مفروضة لهم أن يتمسكوا بها تعلة لإعراضهم عن قبول دعوة القرآن.

 

فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50)

{فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} وهو إمهالهم، وتأخير ظهورك عليهم، أي: لا يثنينك عن تبليغ ما أمرت به أذاهم وتكذيبهم، بل امض صابراً عليه.

{وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ} وهو نبي الله يونس بن متى -عليه السلام-، وقد كانت مؤاخذة يونس -عليه السلام- على ضجره من تكذيب قومه وهم أهل نينوى، فذهب مُغَاضِبًا على قومه، فكان من أمره ما كان من ركوبه في البحر والتقام الحوت له، وشرود الحوت به في البحار وظلمات غمرات اليم، وسماعه تسبيح البحر بما فيه للعلي القدير، الذي لا يُرَدّ ما أنفذه من التقدير، فحينئذ نادى في الظلمات {أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87]. قال الله تعالى: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء:88] وقال تعالى: {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات:143-144]  

 {إِذْ نَادَى} دعا ربه في بطن الحوت {وَهُوَ مَكْظُومٌ} والمكظوم: المحبوس المسدودة عليه والمملوء غيظاً وغمّاً.

وجيء بهذه الحال جملة اسمية لدلالتها على «الثبات»، أي هو في حبس لا يرجى لمثله سراح، وهذا تمهيد للامتنان عليه بالنجاة من مثل ذلك الحبس.

والمعنى: لا يوجدْ منك ما وجد منه من الضجر والونَى عن التبليغ، فتبتلى ببلائه.

{لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ} التدارك: تفاعل من الدَرَك وهو اللحاق {نِعْمَةٌ} التنكير للتعظيم لأنها نعمة مضاعفة مكررة {مِنْ رَبِّهِ} وهو قبول توبته، وتضرعه وابتهاله ورحمته {لَنُبِذَ} طرح {بِالْعَرَاءِ} الفضاء من الأرض الذي لا نبات فيه ولا بناء {وَهُوَ مَذْمُومٌ} يعني أن حاله كانت على خلاف الذم حين نبذ بالعراء، ولولا توبته لكانت حاله على الذم.

فتقدير الكلام: لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء نبذا ذميما، أي ولكن يونس نبذ بالعراء غير مذموم.

وأدمج في ذلك فضل التوبة والضراعة إلى الله، وأنه لولا توبته وضراعته إلى الله وإنعام الله عليه نعمة بعد نعمة لقذفه الحوت من بطنه ميتا فأخرجه الموج إلى الشاطئ فكان مثلة للناظرين أو حيا منبوذا بالعراء لا يجد إسعافا، أو لنجا والله غاضب عليه فهو مذموم عند الله مسخوط عليه. وهي نعم كثيرة عليه إذ أنقذه من هذه الورطات كلها إنقاذا خارقا للعادة.

{فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ} فاصطفاه واختاره لولايته برحمته. قال القاشاني: لمكان سلامة فطرته، وبقاء نور استعداده، وعدم رسوخ الهيئة الغضبية، والتوبة عن فرطات النفس، فقربه تعالى إليه.

{فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} المفضلون من الأنبياء، وقد قال إبراهيم عليه السلام: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [الشعراء:83] وذلك إيماء إلى أن الصلاح هو أصل الخير ورفع الدرجات.

قال ابن عباس -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما-: رد الله إلى يونس الوحي وشفعه في نفسه وفي قومه.

 

وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52)

{وَإِنْ يَكَادُ} صيغة المضارع للدلالة على استمرار ذلك في المستقبل.

{الَّذِينَ كَفَرُوا} عرف الله رسوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعض ما تنطوي عليه نفوس المشركين نحو النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من الحقد والغيظ وإضمار الشر عندما يسمعون القرآن.

{لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ} الزَلَق: زلل الرجل من ملاسة الأرض من طين عيها أو دهن، كما في قوله تعالى: {فَعَسَى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِّنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً} [الكهف:40].

ولما كان الزلق يفضي إلى السقوط غالبا أطلق الزلق وما يشتق منه على السقوط والاندحاض على وجه الكناية، ومنه قوله هنا {لَيُزْلِقُونَكَ}، أي يسقطونك ويصرعونك.

قال الزمخشريّ: "يعني أنهم من شدة تحديقهم، ونظرهم إليك شزراً، بعيون العداوة والبغضاء، يكادون يزلون قدمك، أو يهلكونك، من قولهم: نظر إلي نظراً يكاد يصرعني، ويكاد يأكلني، أي: لو أمكنه بنظره الصرع أو الأكل، لفعله".

وقال ابن كثير: لينفذونك بأبصارهم، أي: ليعينونك بأبصارهم، بمعنى: يحسدونك لبغضهم إياك لولا وقاية الله لك، وحمايته إياك منهم. وفي هذه الآية دليل على أن العين إصابتها وتأثيرها حق، بأمر الله -عز وجل- كما وردت بذلك الأحاديث المروية من طرق متعددة كثيرة.

ففي البخاري باب «العين حق» عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (الْعَيْنُ حَقٌّ) وَنَهَى عَنْ الْوَشْمِ.

وفي المسند بسند حسن لغيره عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (الْعَيْنُ حَقٌّ، تَسْتَنْزِلُ الْحَالِقَ) هو الجبل العالي المنيف المشرف

وفي مسلم عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (الْعَيْنُ حَقٌّ، وَلَوْ كَانَ شَيْءٌ سَابَقَ الْقَدَرَ سَبَقَتْهُ الْعَيْنُ، وَإِذَا اسْتُغْسِلْتُمْ فَاغْسِلُوا)

وفي المسند بسند صحيح عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَرَجَ، وَسَارُوا مَعَهُ نَحْوَ مَكَّةَ، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِشِعْبِ الْخَزَّارِ مِنَ الْجُحْفَةِ، اغْتَسَلَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ وَكَانَ رَجُلًا أَبْيَضَ، حَسَنَ الْجِسْمِ، وَالْجِلْدِ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ أَخُو بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ وَهُوَ يَغْتَسِلُ، فَقَالَ: مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ، وَلَا جِلْدَ مُخَبَّأَةٍ فَلُبِطَ بِسَهْلٌ [صرع به]، فَأُتِيَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَلْ لَكَ فِي سَهْلٍ؟ [هل لك رغبة في إصلاح أمره] وَاللهِ مَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ، وَمَا يُفِيقُ، قَالَ: (هَلْ تَتَّهِمُونَ فِيهِ مِنْ أَحَدٍ؟) قَالُوا: نَظَرَ إِلَيْهِ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ فَدَعَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَامِرًا، فَتَغَيَّظَ عَلَيْهِ وَقَالَ: (عَلَامَ يَقْتُلُ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ؟! هَلَّا إِذَا رَأَيْتَ مَا يُعْجِبُكَ بَرَّكْتَ؟) ثُمَّ قَالَ لَهُ: (اغْتَسِلْ لَهُ) فَغَسَلَ وَجْهَهُ، وَيَدَيْهِ، وَمِرْفَقَيْهِ ، وَرُكْبَتَيْهِ، وَأَطْرَافَ رِجْلَيْهِ، وَدَاخِلَةَ إِزَارِهِ فِي قَدَحٍ، ثُمَّ صُبَّ ذَلِكَ الْمَاءُ عَلَيْهِ، يَصُبُّهُ رَجُلٌ عَلَى رَأْسِهِ، وَظَهْرِهِ مِنْ خَلْفِهِ، يُكْفِئُ الْقَدَحَ وَرَاءَهُ، فَفَعَلَ بِهِ ذَلِكَ، فَرَاحَ سَهْلٌ مَعَ النَّاسِ لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ.

 وصفته عند العلماء أن يؤتى بقدح ماء ولا يوضع القدح على الأرض بل يحمله شخص فيؤخذ من القدح غرفة فيتمضمض بها ثم يمجها في القدح ثم يؤخذ منه ما يغسل به وجهه ثم يأخذ بشماله ما يغسل به كفه الأيمن ثم بيمينه ما يغسل به مرفقه الأيسر ولا يغسل ما بين المرفقين والكفين ثم يغسل قدمه اليمنى ثم اليسرى ثم ركبته اليمنى ثم اليسرى على الصفة المتقدمة وكل ذلك في القدح ثم داخلة إزاره وهو الطرف المتدلي الذي يلي الأيمن وإذا استكمل هذا يقوم الذي في يده القدح فيصبه على رأس المعين من ورائه على جميع جسده ثم يكفأ القدح وراءه على ظهر الأرض من خلفه.

وهذا المعنى لا يمكن تعليله ومعرفة وجهه وليس في قوة العقل الاطلاع على أسرار جميع المعلومات فلا يدفع هذا بأن لا يعقل معناه.

وفي البخاري عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُعَوِّذُ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ وَيَقُولُ: (إِنَّ أَبَاكُمَا كَانَ يُعَوِّذُ بِهَا إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ وَهَامَّةٍ وَمِنْ كُلِّ عَيْنٍ لَامَّةٍ) اللامة ذات اللمم وهي كل داء وآفة تلم بالإنسان من جنون وخبل وغير ذلك.

وفي سنن ابن ماجة عَنْ أَبِي سَعِيدٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَتَعَوَّذُ مِنْ عَيْنِ الْجَانِّ ثُمَّ أَعْيُنِ الْإِنْسِ فَلَمَّا نَزَلَتْ الْمُعَوِّذَتَانِ أَخَذَهُمَا وَتَرَكَ مَا سِوَى ذَلِكَ. [صحيح]

وفي مسلم عَنْ أَبِي سَعِيدٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ جِبْرِيلَ أَتَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ اشْتَكَيْتَ فَقَالَ نَعَمْ قَالَ بِاسْمِ اللَّهِ أَرْقِيكَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يُؤْذِيكَ مِنْ شَرِّ كُلِّ نَفْسٍ أَوْ عَيْنِ حَاسِدٍ اللَّهُ يَشْفِيكَ بِاسْمِ اللَّهِ أَرْقِيكَ.

{لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ} بيّن تعالى أن هذا النظر كان يشتد منهم في حال قراءة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- للقرآن.

{وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ} من الهذيان الذي يهذي به في جنونه، لعدم تمالك أنفسهم من الحسد منه، والتنفير عنه.

يقولون ذلك اعتلالا لأنفسهم إذ لم يجدوا في الذكر الذي يسمعونه مدخلا للطعن فيه، فانصرفوا إلى الطعن في صاحبه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بأنه مجنون لينتقلوا من ذلك إلى الكلام الجاري على لسانه لا يوثق به ليصرفوا دهماءهم عن سماعه.

{وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ} الذكر: التذكير بالله والجزاء هو أشرف أنواع الكلام لأنه فيه صلاح للناس.

{لِلْعَالَمِينَ} أي: عظة وحكمة وتذكير وتنبيه لهم، على ما في عقولهم وفطرهم من التوحيد. فكيف يجنّن من جاء بمثله؟

وفي قوله: {وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ} مع قوله في أول السورة: {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} [القلم:2] محسن رد العجز على الصدر.

جمع وترتيب

د/ خالد سعد النجار

[email protected]

خالد سعد النجار

كاتب وباحث مصري متميز

  • 0
  • 0
  • 33

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً