تربية النفس بين المنع والمنح

منذ ساعتين

فلا يجب أن يكون الأمر إفراطاً في الصرامة أو إهمالاً للضوابط، بل وعيٌ بأن كلا الأمرين يهدف إلى بناء ذات واعية قادرة على التوازن النفسي بإذن الله.

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله

النفس تحتاج إلى تربية وترويض لتلزم الجد في السير إلى الله وتستقيم على طريقه حتى تلقاه.

وبين منع النفس من الشهوات أو منحها يحتاج المرء إلى موازنة دقيقة لا تتأتى إلا بإخلاص الدعاء والاستعانة بالله.

فالمنع من الشهوات قد يكون دواء ولكن الإفراط فيه يوهن النفس والبدن عن السير إلى الله.

والمنح وإعطاء النفس حظها من الدنيا قد يكون دواء ولكن على قدر الحاجة حتى لا تجمح النفس فالإفراط يقينا قد يذهب بدين المرء بل ودنياه لما سيجد من أمراض النفس والبدن واللهو والبعد عن الله.

 فلا يجب أن يكون الأمر إفراطاً في الصرامة أو إهمالاً للضوابط، بل وعيٌ بأن كلا الأمرين يهدف إلى بناء ذات واعية قادرة على التوازن النفسي بإذن الله.

قال الإمام ابن الجوزي في صيد الخاطر:

تأملت جهاد النفس فرأيته أعظم الجهاد، ورأيت خلقاً من العلماء والزهاد لا يفهمون معناه، لأن فيهم من منعها حظوظها على الإطلاق، وذلك غلط من وجهين.
أحدهما: أنه رب مانع لها شهوة أعطاها بالمنع أوفى منها.
مثل أن يمنعها مباحاً فيشتهر بمنعه إياها ذلك، فترضى النفس بالمنع لأنها قد استبدلت به المدح.
وأخفى من ذلك أن يرى - بمنعه إياها ما منع - أنه قد فضل من سواه ممن لم يمنعها ذلك، وهذه دفائن تحتاج إلى منقاش فهم يخلصها.
والوجه الثاني: أننا قد كلفنا حفظها، ومن أسباب حفظها ميلها إلى الأشياء التي تقيمها، فلا بد من إعطائها ما يقيمها، وأكثر ذلك أو كله مما تشتهيه.
ونحن كالوكلاء في حفظها. لأنها ليست لنا بل هي وديعة عندنا، فمنعها حقوقها على الإطلاق خطر.
ثم رب شد أوجب استرخاء، ورب مضيق على نفسه فرت منه فصعب عليه تلافيها.
وإنما الجهاد لها كجهاد المريض العاقل، يحملها على مكروهها في تناول ما ترجو به العافية، ويذوب في المرارة قليلاً من الحلاوة، ويتناول من الأغذية مقدار ما يصفه الطبيب. ولا تحمله شهوته على موافقة غرضها من مطعم ربما جر جوعاً، ومن لقمة ربما حرمت لقمات.
فكذلك المؤمن العاقل لا يترك لجامها، ولا يهمل مقودها - بل يرخي لها في وقت والطول بيده.
فما دامت على الجادة لم يضايقها في التضييق عليها.
فإذا رآها قد مالت ردها باللطف، فإن ونت وأبت، فبالعنف.
ويحبسها في مقام المداراة، كالزوجة التي مبني عقلها على الضعف والقلة، فهي تدارى عند نشوزها بالوعظ، فإن لم تصلح فبالهجر، فإن لم تستقم فبالضرب.
وليس في سياط التأديب أجود من سوط عزم.
هذه مجاهدة من حيث العمل، فأما من حيث وعظها وتأنيبها، فينبغي لمن رآها تسكن للخلق، وتتعرض بالدناءة من الأخلاق أن يعرفها تعظيم خالقها لها فيقول: ألست التي قال فيك: خلقتك بيدي، وأسجدت لك ملائكتي، وارتضاك للخلافة في أرضه، وراسلك، واقترض منك واشترى.
فإن رآها تتكبر، قال لها: هل أنت إلا قطرة من ماء مهين، تقتلك شرقة، وتؤلمك بقة ؟.
وإن رأى تقصيرها عرفها حق الموالي على العبيد.
وإن ونت في العمل، حدثها بجزيل الأجر.
وإن مالت إلى الهوى، خوفها عظيم الوزر، ثم يحذرها عاجل العقوبة الحسية، كقوله تعالى: " قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللّهُ سَمْعَكُم وَأَبْصَارَكُمْ " ، والمعنوية كقوله تعالى: " سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتَي الّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ في الأرضِ بِغَيرِ الْحَقِّ " .
فهذا جهاد بالقول، وذاك جهاد بالفعل.أ هـ

فاللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك واجعل أنفسنا سوية ترضيك.

أبو الهيثم

أبو الهيثم محمد درويش

دكتوراه المناهج وطرق التدريس في تخصص تكنولوجيا التعليم من كلية التربية بجامعة طنطا بمصر.

  • 0
  • 0
  • 21

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً