تحقيق التوحيد في باب التداوي!!
التداوي لغة من داويت العليل إذا عاجلته بالاشفية التي توافقه" (لسان العرب4/455) والتداوي اصطلاحا هو "طلب المعاجلة إذا عرض الداء" (عون المعبود 10 /239)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
"التداوي لغة من داويت العليل إذا عاجلته بالاشفية التي توافقه" (لسان العرب4/455) والتداوي اصطلاحا هو "طلب المعاجلة إذا عرض الداء" (عون المعبود 10 /239) والتداوي عرفا هو "تعاطي الدواء بقصد معالجة المرض أو الوقاية منه" (الموسوعة الطبية الفقهية، مرجع سابق، ص ١٩٣)
ولقد ضبط الوحي باب التداوي وأحكمه بنصوص صحيحة صريحة، لأنه باب عظيم من أبواب توحيد الربوبية والألوهية، ومن القضاء والقدر، وباب التداوي هو من صميم العقيدة وتكتنفه عبادات يستخرجها الله من عباده ويحصل به الابتلاء الذي يجري عليه الأجر والثواب، فلم يكن الشرع ليترك باب التداوي لعقول الناس وفهومهم واجتهاداتهم، والأصل في الناس الجهل والظلم والضعف ولا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا، ولذلك لم يوفق من أخرج باب التداوي من الشرع والحال أن دين الله كامل شامل، قال تعالى {(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا )} وقال تعالى {(ونـزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين )} وقال { (وكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً )} وقال {(مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ) }
قال ابن الجوزي في زاد المسير: "ما فرطنا في شيء بكم إليه حاجة إلا وبيناه في الكتاب، إما نصاً، وإما مجملاً، وإما دلالة" فإن نازع منازع في كون التداوي داخل في عموم الايات وكونه من المحكمات المبينات قلنا له أن القاعدة عند التنازع هي الرد إلى الكتاب والسنة والاحتكام إليهما وجوبا {(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ۖ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلً)}
قال تعالى {{وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِيْنِ}} قوله "فهو يشفين" يفيد الحصر والاختصاص ويدل على تأكيد نسبة الخبر وهو الشفاء إلى الله عزوجل دون غيره، لتخصيصه سبحانه بأنه متولي الشفاء دون غيره; لأن المقام لإبطال اعتقادهم في تصرف الأسباب وتأثيرها بذاتها وتصحيح الاعتقاد أولى من تصحيح الأجساد، والتعبير بالمضارع في قوله ( يشفين ) لأن الشفاء متجدد له مستمر بغير توقف، فلا الاسباب تستطيع الشفاء ولا الاطباء يستطيعونه، فاختص الله جل في علاه نفسه بالشفاء دون المخلوقات، ويؤكد هذه المعاني قول النبي صلى الله عليه وسلم (اللَّهُمَّ رَبَّ النَّاسِ، مُذْهِبَ البَاسِ ، اشْفِ أنْتَ الشَّافِي، لا شَافِيَ إلَّا أنْتَ، شِفَاءً لا يُغَادِرُ سَقَمًا.) فاجتمع في الحديث نوعان من القصر، قصر بضمير الفصل "أنت" وقصر بالاستثناء بإلا حيث يُسند حكم إلى ما بعد "إلا" وينفى عن كل ما عداه، ثم زاد الأمر بيانا وإيضاحا فقرر أن الداء والدواء والشفاء كلها مخلوقة منزلة من عند الله سبحانه فقال صلى الله عليه وسلم (ما أنزل اللهُ داءً إلا أنزل له شفاءً علمَهُ من علمه وجهلَه من جهِله) ليستقر عند الموحد أن الاسباب أواني فارغة يضع الله عزوجل فيها ما يشاء إن شاء كيف يشاء.
1) فإن قال معترض أو مستشكل فما السبيل إلى حديث «(قالت الأعرابُ يا رسولَ اللهِ ألا نتداوى قال نعم يا عبادِ اللهِ تداوُوا، فإن اللهَ لم يضعْ داءً إلا وضعَ له شِفاء – أو دواء – إلا داءً واحدا، فقالوا : يا رسولَ اللهِ وما هُوَ ؟ قال : الهرمُ ) » (سنن الترمذي 2038) وقد كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يتداوى ، وكان يأمر بالتداوي لمن أصابه مرض مـن أهلـه أو أصحابه ، وكان يقول : ( إنَّ اللهَ أنزل الداءَ والدواءَ ، وجعل لكلِّ داءٍ دواءً ، فتداووا ولا تتداووا بالحرام) فيرد عليه بما يزيل اشكاله ويدحض اعتراضه :
أولا ذهب جمهور العلماء ( الحنفية والمالكية ) إلى أن التداوي مباح . وذهب الشافعية ، والقاضي وابن عقيل وابن الجوزي من الحنابلة إلى استحبابه بدليل « (قَالَ لي ابنُ عَبَّاسٍ: ألَا أُرِيكَ امْرَأَةً مِن أهْلِ الجَنَّةِ؟ قُلتُ: بَلَى، قَالَ: هذِه المَرْأَةُ السَّوْدَاءُ؛ أتَتِ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فَقَالَتْ: إنِّي أُصْرَعُ، وإنِّي أتَكَشَّفُ، فَادْعُ اللَّهَ لِي، قَالَ: إنْ شِئْتِ صَبَرْتِ ولَكِ الجَنَّةُ، وإنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللَّهَ أنْ يُعَافِيَكِ، فَقَالَتْ: أصْبِرُ، فَقَالَتْ: إنِّي أتَكَشَّفُ، فَادْعُ اللَّهَ لي ألَّا أتَكَشَّفَ، فَدَعَا لَهَا)» (صحيح البخاري 5652) وفي الحديث اقرار النبي صلى الله عليه وسلم للمرأة على ترك التداوي القدري الكوني رغم أن الصرع مرض عضال قد يمنعها من تأدية واجبات وفرائض وقد يتسبب في تضييع حقوق، وَلَوْ كَانَ رَفْعُ الْمَرَضِ وَاجِبًا لَمْ يَكُنْ لتَّخْيِيرِالمرأة مَوْضِعٌ، ومن نازع في وجوب التداوي خصمته السنة وخصمه حال الأنبياء والسلف، وخصمه كل من يشفى بغير تداوي ولا أسباب .
وثانيا أنه ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «{يدخل من أمتي الجنة سبعون ألفًا بغير حساب، هم الذين لا يسترقون، ولا يكتوون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون}» والرقية والكي من التداوي، والتداوي من التوكل، والتوكل هو صدق اعتماد القلب على الله في جلب المنافع ودفع المضار مع ملاحظة الاسباب وخلو تعلق القلب بها، وترك التداوي بالاسباب المذكورة لا ينافي التوكل بل هو منه، كما بينه الحديث، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: «إن كثيرًا من المرضى أو أكثر المرضى يشفون بلا تداوي، لا سيما في أهل الوبر، والقرى، والساكنين في نواحي الأرض، يشفيهم اللَّه بما خلق فيهم من القوى المطبوعة في أبدانهم الرافعة للمرض، وفيما ييسره لهم نوع حركة وعمل أو دعوة مستجابة، أو رقية نافعة، أو قوة للقلب وحسن التوكل .. إلى غير ذلك من الأسباب الكثيرة غير الدواء»
وثالثا أن التداوي من الأسباب الظنية، وذلك أَنَّ الدَّوَاءَ لَا يُسْتَيْقَنُ، بَلْ وَفِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَمْرَاضِ لَا يُظَنُّ دَفْعُهُ لِلْمَرَضِ، إذْ لَوْ اطَّرَدَ ذَلِكَ لَمْ يَمُتْ أَحَدٌ.
ورابعا أن الذي أمرنا بالتداوي هو الذي بين لنا من خلال هديه صلى الله عليه وسلم كيف كان يتداوى :
* ومنه ما في «الصحيحين» : من حديث أبي سعيد الخدري، أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إن أخي يشتكي بطنه، وفي رواية: استطلق بطنه، فقال: «اسقه عسلاً» ، فذهب ثم رجع، فقال: قد سقيته، فلم يغن عنه شيئا. وفي لفظ: فلم يزده إلا استطلاقا مرتين أو ثلاثا، كل ذلك يقول له:«اسقه عسلاً» ، فقال له في الثالثة أو الرابعة: «صدق الله، وكذبَ بطنُ أخِيك»
* ومنه ما في صحيح مسلم «( قَدِمَ علَى رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ قَوْمٌ مِن عُكْلٍ، أَوْ عُرَيْنَةَ فَاجْتَوَوْا المَدِينَةَ ، فأمَرَ لهمْ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ بلِقَاحٍ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَشْرَبُوا مِن أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا)» الحديث
* ومنه ما في صحيح مسلم «(جُرِحَ وَجْهُ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ، وَهُشِمَتِ البَيْضَةُ علَى رَأْسِهِ ، فَكَانَتْ فَاطِمَةُ بنْتُ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ تَغْسِلُ الدَّمَ، وَكانَ عَلِيُّ بنُ أَبِي طَالِبٍ يَسْكُبُ عَلَيْهَا بالمِجَنِّ، فَلَمَّا رَأَتْ فَاطِمَةُ أنَّ المَاءَ لا يَزِيدُ الدَّمَ إلَّا كَثْرَةً، أَخَذَتْ قِطْعَةَ حَصِيرٍ فأحْرَقَتْهُ حتَّى صَارَ رَمَادًا، ثُمَّ أَلْصَقَتْهُ بالجُرْحِ، فَاسْتَمْسَكَ الدَّمُ)»
* ومنه ما في صحيح البخاري «(الشِّفاءُ في ثَلاثَةٍ: في شَرْطَةِ مِحْجَمٍ ، أوْ شَرْبَةِ عَسَلٍ، أوْ كَيَّةٍ بنارٍ، وأنا أنْهَى أُمَّتي عَنِ الكَيِّ)»
* ومنه ما عند ابن ماجه وأحمد «(دَواءُ عِرْقِ النَّسا ألْيةُ شاةٍ أعرابيَّةٍ، تُذابُ ثمَّ تُجزَّأُ ثَلاثةَ أجْزاءٍ، ثمَّ يُشرَبُ على الرِّيقِ في كلِّ يَومٍ جُزْءٌ)»
* ومنه ما في صحيح الجامع « (عليكم بالسَّنَا والسَّنُّوتِ، فإنَّ فيهما شِفاءً من كلِّ داءٍ، إلَّا السَّامَ، وهُوَ الموتُ)»
* ومنه ما في الصحيحين «(أنَّ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ كانَ إذا اشتَكى يقرأُ في نفسِهِ بالمعوِّذاتِ وينفُثُ، فلمَّا اشتدَّ وجعُهُ كنتُ أقرَأُ عليْهِ وأمسَحُ عليْهِ بيدِهِ رجاءَ برَكتِها)»
* ومنه ما أخرجه مسلم «(كان إذا اشْتَكَى رَقَاهُ جبريلُ فقال : بسمِ اللهِ يُبْرِيكَ ، من كلِّ دَاءٍ يَشْفيكَ ، من شرِّ حاسِدٍ إذا حَسَدَ، و من شرِّ كلِّ ذِي عينٍ)»
والاحاديث في هذا الباب هي غيض من فيض، وكلها تدل على هدي النبي صلى الله عليه وسلم في التداوي، وأنه صلى الله عليه وسلم أمرنا بالتداوي ولم يتركنا هملا، ولا تركنا سبهللا وبضاعة لتجار الصحة ، وقد كان يأتيه من يشتكي من علل متنوعة ولا يجوز في حقه تأخير البيان عن وقت حاجته بل بين وأرشد وأمر ونهى، وتبين لنا من هديه أن التداوي أيسر وأعم مما يفهمه الطب الكلاسيكي ولوبيات الادوية، فالتداوي عندنا معاشر المسلمين الموحدين اعتقاد وتوكل تصدقه أعمال وأسباب شرعية مليحة أو قدرية صحيحة تتخذ مع خلو القلب من التعلق بها، ومتى تعلق القلب بالسبب نقص التوكل وقدح ذلك في التوحيد ثم يجري الله السبب استدراجا أو ابتلاء، وليكن بصرك وبصيرتك ويقينك مع الشافي ويدك تباشر الاسباب الشرعية والقدرية، ولن يستوي توكلك وينفع حتى يكون اقبال الأسباب عندك كادبارها، ومن تعلق بسبب عذب به، ولتعلم وفقك الله أنه كان الأطباء في عهده صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كما في صحيح سنن أبي داود : «((أَرِنِي هذا الذي بِظَهْرِك؛ فإنِّي رجلٌ طبيبٌ، قال: اللهُ الطَّبِيبُ، بل أنت رجلٌ رفيقٌ، طبيبُها الذي خلَقَها))» وفي رواية « ((لا تقولوا: الطَّبيبَ، ولكِنْ قُولوا الرَّفيقَ؛ فإنَّما الطَّبيبُ هو اللهُ))» لكنهم كانوا يجعلون الطبيب بمنزلة شربة عسل أو كية نار أو شرطة محجم أو صوم يوم ونحوها، بخلاف ما نحن عليه اليوم من تعظيم وتعلق بالطبيب والدواء، بدليل أنك لو نصحت المريض بترك دواء الطبيب وأخذ عسل ونحوه لاتهمك بمحاولة قتله واعتقد أنه هالك أو قريب من الهلاك، لكن الصحابة كانوا يعظمون الوحي وما جاء فيه كما صح عن ابن مسعود موقوفا ((عليكم بالشِّفائين العسلِ والقرآنِ)) ، ولذلك تجد بأخرة عند أهل زماننا استفحال شرك الأسباب، وقد يكون الشرك أكبرا إذا اعتمد القلب على الأسباب اعتمادًا كليًا، أو يكون شركا أصغر إذا جعل سببا ما ليس بسبب أو أنزل السبب فوق منزلته.
2) فإن عقب معترض ثاني مستدلا بقول النبي صلى الله عليه وسلم «(( أنتم أعلم بأمور دنياكم)) » كما صح عنه في قصة تأبير النخل فيجاب عن اعتراضه بما يلي:
أولا الأصل في كلام النبي صلى الله عليه وسلم أنه وحي لقوله تعالى {((وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى)) } حتى يقول لنا الوحي أن كلامه في المسألة كيت وكيت ليس وحيا، فكل ما جاء عنه فهو شرع وتشريع ( وإن تطيعوه تهتدوا ) وإنما كان في قصة تلقيح النخل أن قال لهم : ( ما أظن ذلك يغني شيئا ) فهو لم يأمر ولم ينه ، ولم يخبر عن الله ، ولم يسن في ذلك سنة حتى يتوسع في هذا المعنى إلى ما يهدم به أصل التشريع ، بل ظن ثم اعتذر عن ظنه قال : ( فلا تؤاخذوني بالظن ) إخبار عن ظنه ، وكذلك كان ظنه ، فالخبر صدق قطعا ، وخطأ الظن ليس كذبا ، وفي معناه قوله في حديث رافع : (لعلكم لو لم تفعلوا كان خيرا) وقوله في حديث طلحة : ( فإني لن أكذب على الله ) فيه دليل على امتناع أن يكذب على الله خطئاً ، لأن السياق في احتمال الخطأ ، وامتناعه عمدا معلوم من باب أولى، فهو اقتراح منه صلى الله عليه وسلم ؛ مبني على الظن لا من جهة الوحي ، فقد تراجع عنه ولو كان وحيا لم يتراجع عنه كما في حديث المبطون.
وثانيا أن الرواية الأولى عند مسلم وفيها «{عن موسى بن طلحة عن أبيه ، قال : مررت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوم على رؤوس النخل ، فقال : ( ما يصنع هؤلاء ؟ ) ، فقالوا : يلقحونه ، يجعلون الذكر في الأنثى فيلقح ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما أظن يغني ذلك شيئا) ، قال : فأخبروا بذلك فتركوه ، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال : ( إن كان ينفعهم ذلك ؛ فليصنعوه ، فإني إنما ظننت ظنا ، فلا تؤاخذوني بالظن ، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئا فخذوا به ، فإني لن أكذب على الله عز وجل} » – وهذه الرواية هي المعتمدة وأصح الروايات - لم يرد فيها الإشارة إلى أمور الدنيا، ولا التفرقة بين الأمور الدنيوية والدينية، وإنما غاية ما جاء فيه هو بيان الفرق بين ما كان ظنا وبين ما كان من الوحي ولذلك ابتدأ بها مسلم ، والإمام مسلم إذا أورد أكثر من رواية لحديث واحد ؛ فإنه يبدأ بأصحها.
وثالثا أن الوحي لن تجد فيه تناقض أو تضاد أبدا، كأن يقول في موضع بصيغة الظن [(أنتم أعلم بأمور دنياكم)] وفي مواضع يقول بصيغة الجزم كما في حديث استطلاق البطن وفيه (جَاءَ رَجُلٌ إلى النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ فَقالَ: إنَّ أَخِي اسْتَطْلَقَ بَطْنُهُ فَقالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ اسْقِهِ عَسَلًا فَسَقَاهُ، ثُمَّ جَاءَهُ فَقالَ: إنِّي سَقَيْتُهُ عَسَلًا فَلَمْ يَزِدْهُ إلَّا اسْتِطْلَاقًا، فَقالَ له ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ جَاءَ الرَّابِعَةَ فَقالَ: اسْقِهِ عَسَلًا فَقالَ: لقَدْ سَقَيْتُهُ فَلَمْ يَزِدْهُ إلَّا اسْتِطْلَاقًا، فَقالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: صَدَقَ اللَّهُ، وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيكَ فَسَقَاهُ فَبَرَأَ.) فقوله (أنتم أعلم بأمور دنياكم) لا تفهم إلا بجمع الروايات وجميع الروايات لا تدل على أمر ولا نهي ولا تكليف ، فإذا كانوا قد فهموا الأمر ، فإنه قد حصل الخطأ في فهمهم هم ، حيث ظنوا أنه يأمرهم وهو لم يفعل، بل الثابت عكسه وذلك «(أنَّ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كانَ إذا اشْتَكَى يَقْرَأُ علَى نَفْسِهِ بالمُعَوِّذاتِ ويَنْفُثُ، فَلَمَّا اشْتَدَّ وجَعُهُ كُنْتُ أقْرَأُ عليه وأَمْسَحُ بيَدِهِ رَجاءَ بَرَكَتِها.) » بل و «(كانَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، إذَا اشْتَكَى مِنَّا إنْسَانٌ، مَسَحَهُ بيَمِينِهِ، ثُمَّ قالَ: أَذْهِبِ البَاسَ ، رَبَّ النَّاسِ، وَاشْفِ أَنْتَ الشَّافِي، لا شِفَاءَ إلَّا شِفَاؤُكَ، شِفَاءً لا يُغَادِرُ سَقَمًا)» والقاعدة أنه لا يجوز في حقه صلى الله عليه وسلم تأخير البيان عن وقت حاجته.
ورابعا أن الرواية الثالثة التي تشبث بها الكُتاب ، وفيها قوله : ( أنتم أعلم بأمور دنياكم ) إنما هي من رواية حماد ، وقد بين المعلمي رحمه الله أن حمادا كان يخطئ (انظر : الأنوار الكاشفة ص 29) فضلا عن كونهم انتزعوها انتزاعا من هذه الرواية دون النظر في سياق الحديث والرجوع إلى الروايات الأخرى المعتمدة والمقدّمة، وأنه من الخطأ الكبير والخطر العظيم التشبث بإحدى روايات هذا الحديث بل أضعفها ، وقد قالها في مناسبة معينة ، ومحاولة استغلالها لنسف أمور الدنيا عن كونها من التشريع ، واعتقاد أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نفض يده من الأمور الدنيوية ، وأنه قد أعرض عنها صفحا ، مما يدل على أنه لا مستمسك لهم غير تلك الرواية.
3) فإن اعترض معترض ثالث بكون المسائل الطبية ليست من السنة التشريعية المطلوب اتباعها ندبا أو وجوبا فيخرجون المباح من التشريع، وأنه صلى الله عليه وسلم لم يبعث ليعلمنا الطب ويقولون بأن بعض ما وصفه النبي صلى الله عليه وسلم من العلاج لم ينتفع به من استعمله ، ولو كان وحيا لاستفاد منه المريض، فيجاب على هاتين الشبهتين بما يلي:
أولا تقدم اتفاق أهل العلم على أن التداوي مباح أو مستحب، بل أثبت جمهور الأصوليين دخول المباح والمستحب في التشريع فهي أحكام شرعية بل يقول ابن تيمية: ( فكل ما قاله بعد النبوة وأقرعليه ؛ ولم ينسخ فهو تشريع لكن التشريع يتضمن الإيجاب ، والتحريم ، والإباحة ، ويدخل في ذلك ما دل عليه من المنافع في الطب ، فإنه يتضمن إباحة ذلك الدواء ، والانتفاع به ، فهو شرع لإباحته، وقد يكون شرعا لاستحبابه)(مجموع الفتاوى (18/12) )
وثانيا أن (الحديث النبوي : هو عند الإطلاق ينصرف إلى ما حٌدث به عنه بعد النبوة من قوله ، وفعله ، وإقراره ، فإن سنته ثبتت من هذه الوجوه الثلاثة ، فما قاله إن كان خبرا ؛ وجب تصديقه به ، وإن كان تشريعا إيجابا ، أو تحريما ، أو إباحة ؛ وجب اتباعه فيه ، فإن الآيات الدالة على نبوة الأنبياء ، دلت على أنهم معصومون فيما يخبرون به عن الله عز وجل ، فلا يكون خبرهم إلا حقا ، وهذا معنى النبوة) (مجموع الفتاوى) بل قال ابنُ القيم – رحمه الله تعالى- : (وليس طبه صلى الله عليه وسلم كطب الأطباء ، فإن طبَ النبي صلى الله عليه وسلم متيقنٌ قطعيٌ إلهي صادرٌ عن الوحي ، ومشكاةِ النبوة ، وكمالِ العقل ، وطبَ غيره أكثرُه حدسٌ وظنون وتجارب) .
وثالثا أن مؤدى قولهم أن التداوي هو إرشاد منه صلى الله عليه وسلم وليس تشريعا وانما يؤسسون بذلك إلى ما يؤدي إلى تعطيل الشريعة ، وفصل الدين عن الحياة، فإذا أرادوا أن ينفوا شيئا من السنة ، وأن ينكروا شريعة من شرائع الإسلام في المعاملات وشئون الاجتماع وغيرها يزعمون أن هذه من شئون الدنيا ، يتمسكون برواية أنس رضي الله عنه : ( أنتم أعلم بأمور دنياكم) وقد تقدم الرد على هذه الشبهة.
ورابعا أن التداوي ذكر في السنة والقرآن، قال تعالى {(يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)} ثم إن الطبيب هو الله عزوجل خلق الداء والدواء وهو الذي ينزل الشفاء إن شاء، وقد أمر صلى الله عليه وسلم بتسمية الطبيب رفيقا، ولا يلزم من كون النبي صلى الله عليه وسلم لم يبعث طبيبا أو رفيقا أن لا يؤخذ عنه الطب ولا غيره من العادات والمعارف الأخرى، بل إن طبَ النبي صلى الله عليه وسلم متيقنٌ قطعيٌ إلهي صادرٌ عن الوحي ، ومشكاةِ النبوة ، وكمالِ العقل ، وطبَ غيره أكثرُه حدسٌ وظنون وتجارب.
وخامسا فإن قولهم هناك من يشرب الدواء ولا يشفى هو موضوع هذه الرسالة وهو حقيقة تحقيق التوحيد في باب التداوي، وإنه قد اتفق الأطباء على أن المرض الواحد يختلف علاجه باختلاف السن والعادة والزمان والغذاء المألوف والتدبير وقوة الطبيعة، وأن بقاء الداء ليس لقصور الدواء في نفسه ، ولكن لكثرة المادة الفاسدة أو لسوء التدبير، وهو أن الدواء يجب أن يكون له مقدار، وكمية بحسب حال الداء إن قصر عنه لم يزله بالكلية ، وإن جاوزه أوهن القوى فأحدث ضررا آخر، وهذه نظرة أهل الدنيا ونظرة من يعظم الأسباب ويتعلق بها، وأما نظرة الموحد فلها جانبان:
جانب الأسباب وهو أن يباشر ما صح من الأسباب الشرعية أو القدرية أو هما معا دون أن يلتفت إليها وينتظر نتائجها، بل يحرص أن يخلو قلبه من التعلق بها والركون إليها وربما كان عنده ادبارها مثل اقبالها، وأما الجانب الشرعي والعقدي وهو الأصل وملاك الأمر كله فهو أن يعتقد أن المرض منزل مخلوق والدواء مثله، وأن الشفاء لا يملكه إلا الشافي وحده، وأنه إذا نزل الشفاء انتفع العبد بالدواء لا على أنه المؤثر ولكنه يساعد ولا يضر، لأنه لو ضر لكان داء لا دواء، ويستصحب حسن التوكل على الله ويعتقد أن الداء لم يخلقه ويقدره وينزله الله ليعذب به عباده الموحدين ولكن ليهذبهم ولعلهم يرجعون ويتوبون ويستقيمون، فالله سبحانه يستخرج من عباده بالمرض ما لا يستخرجه منهم بالعافية، وكان السلف الصالح يفرحون بالبلاء والشدائد، ليس لأنهم يحبون الأذى، بل لأنهم يدركون أن الابتلاء يرفع الدرجات ويكفر الذنوب ويُقرّب من الله، ويعدونه فرصة للثواب الجزيل كما يفرحون بالرخاء، مستدلين بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: "إن كان أحدهم ليفرح بالبلاء كما يفرح أحدكم بالرخاء"، وأما يتعلق به الناس اليوم دواء كيماوي فهو إنما يخفي الاعراض ولا يداوي الامراض، فيظن المريض أن المرض قد زال لاختفاء العرض، فصحح يا رعاك الله عقيدتك وعملك واحذر أن تخشى المخلوقات فيما لا يقدر عليه وفيما هو من خصائص الرب جل وعلا، فإذا ابتليت فلا تسخط ربك بأن تشكوه لمخلوقاته التي لا تستطيع لك نفعا ولا ضرا، واحذر لسانك أن تقول فتبتلى إن البلاء موكل بالمنطق، ولكن قابل البلاء بالرضا والصبر والاحتساب، واعلم أصلحك الله أنه لولا البلاء لقدمت على ربك فقيرا من أعمال البر أو مفلسا تعمل لغيرك، فالزم وفقك الله غرز نبيك تكن ممن حقق التوحيد في باب التداوي، والله أسأل أن يعافي ويشفي كل مسلم موحد ؛ يَنكَأُ لكَ عَدُوًّا، أو يَمشي لكَ إلى صَلاةٍ .
كتبه محمد بن عبد الله يسير
- التصنيف: