تجربة ترك الهاتف الذكي: كيف غيرت حياتي؟
إذا كان الهاتف يأخذ من روحك أكثر مما يعطيك، فإبعاده ليس خسارة، بل خطوة أولى نحو العودة إلى الذات، والعودة إلى الطبيعة والسكينة، والقطيعة مع القلق والتوتر والكآبة إلى الأبد.
الجميع يعرف ما للهاتف من فوائد لا حصر لها في حياتنا المعاصرة، من حيث تسهيل وتبسيط المعارف ومتابعة الأخبار، والتواصل بين الأفراد والجماعات، لكن حالة الإدمان التي يكبل بها الهاتف مستعمليه جعلت البعض يتخذ قرارا بهجره وقطع الصلات به كليا أو جزئيا.
أنا شخصيا لم أكن أتوقع أن قرارا بسيطا -كإبعاد الهاتف عن يدي- سيقودني إلى رحلة عميقة مع نفسي، فقد كنت أظن أن الأمر يتعلق بمجرد جهاز صغير له شاشة مضيئة أهرب بها من صمت اللحظات، ومن توارد الخطرات، لكنني اكتشفت لاحقا أنني كنت أهرب من حياتي نفسها، وأني أضر ذاتي أكثر مما أنفعها، وأني كنت أسقيها السم الزعاف في حين كنت أظن أنه دسم وعسل مصفى.
في الأيام الأولى شعرت بفراغ قاتل، كأنني فقدت امتدادا من جسدي، وكثيرا ما كنت أمد يدي بلا وعي إلى المكان الذي اعتدت أن أضع فيه هاتفي، فأجده خاليا، عندها فهمت أنني لم أكن أستخدم الهاتف، بل كنت أنا المستخدم من خلاله.
لكن شيئا فشيئا بدأ الصمت يستعيد مكانه، وزال صخب المعلومات وتواردها اللامتناهي، وبدأ الزمان يصبح أبطأ، وألطف، وأرحم.
اكتشاف النفس:
بعد مرحلة تيه وضياع، وكما يجد الأهل الطفل التائه، اكتشفت أنني كنت أستيقظ على أصوات الآخرين قبل أن أستيقظ على صوتي الداخلي، أما اليوم فإني أفتح عيني على هدوء جديد، لا إشعارات فيه، ولا لايكات، ولا متابعات لصفحات عددها كعدد الحصى، ولا عواصف رقمية تستهلك الوقت الذي يمضي بسرعة الضوء، فلم تبقَ إلا روحي منفردة في بحاري الهادئة، بشواطئها الساكنة، البعيدة عن كل زخرف.
لست وحدي:
كنت أظن حين أكون ممسكا بهاتفي وعيناي تحملقان في شاشته المضيئة أني وحيد في بيتي، في المقهى، في الشارع، وفي كل مكان.
بيد أن هذا الشعور كان خادعا وغير حقيقي، فعندما تخاصمت مع الهاتف اكتشفت أن حولي زوجة وأبناء وبنات وإخوة وأخوات وجيرانا ومصلين، بدأت للتو أسمعهم، لا عبر الرسائل، بل عبر نبراتهم، وعبر ضحكاتهم التي لم أكن ألتفت إليها سابقا، لأن رأسي كان منحنيا نحو ذلك الكائن المضيء، وفكري كان غارقا في بحار من الأخبار والإعلانات والتعليقات التي لا تنتهي أبدا.
وتذكرت أبياتا لأحد الشعراء وهو يعيش متعة الحياة مع أبنائه بعدما تخطفته الشواغل والصوارف عنهم لبضع ساعات من أجل تحصيل لقمة العيش له ولهم:
وأطيب ساع الحياة لديـــا ** عشية أخلو إلى ولديــــــــا
فأجلس هذا إلى جانبـــــي ** وأجلس ذاك على ركبتيــــا
هنالك أنسى متاعب يومي ** كأني لم ألق في اليوم شيا
فكل طعام أراه لذيـــــــــذا ** وكل شراب أراه شهيـــــــا
وما حاجتي لغذاء ومـــــاء ** بحسبي طفلاي زادا وريــا
فأية نجوى كنجواي طفلي ** يقول أبي، وأقول بنيــــــا
مغانم التخلي وتجليات التحلي:
من مكتسبات ذلك الفصام المبارك أني تفاجأت بأن الوقت الذي كنت أظنه ضيقا كان في الحقيقة واسعا، لكنه كان يتسرب من بين أصابعي في كل مرة أسحب فيها الشاشة للأسفل لأرى ما الجديد، ولا شيءَ جديدا إلا ضياع لحظة أخرى وأخريات.
كما عاد إلي تركيزي، وخف الصراع الداخلي، وهدأت المقارنات، وصرت أرى العالم كما هو، بلا فلاتر أو مساحيق، وبلا تضخيم وبلا مبالغات، إنه فقط الواقع النقي على أصل خلقته.
ومن المغانم أيضا أني عدت للكتب، للورق، للسماء، للمشي، للصمت، للتسوق، ووجدت أن الحياة ليست تلك التي كانت تتراءى لي من خلال شاشة الهاتف، بل في كل ما حولي مما كنت ذاهلا عنه خلال الأيام الخالية.
أيام الغفلات والحسرات:
كم مرت الأيام والشهور كسراب لاح في الأفق، ثم تلاشى فلم يعد يتراءى للناظرين، سرق فيها الهاتف أجمل الأوقات، فلا ورد فيها يذكر، ولا سنن ترام، ولا نهار يصام، ولا ليل يقام، ولا دموع تنهمر من عيون اختلست نظرات إلى الحرام، ولا أخ فيها يزار، أو مريض يعاد، أو صدقات تبذل ابتغاء وجه الله الكريم، أو نوافل تكون ذخرا لصاحبها يوم المعاد، أو قشعريرة تنتاب جسدا عند تلاوة أو سماع آيات الكتاب العزيز، لتغسل روحا أثقلها النأي عن مصدر السكينة والنور، وهجر المصاحف التي علاها الغبار الكثيف.
إنها عودة لذلك النبع الصافي، مفعمة بالمشاعر والأحاسيس الفياضة، تماما كما يعود الابن العاق الذي هجر البيت العائلي في لحظة غياب للعقل، فاصطلى بلهيب التشرد والتيه في شوارع المجهول المرعب، ونأى بنفسه عن المحضن العائلي الدافئ، ليقرر العودة إلى أمه الحنون، المتلهفة إلى لقائه، لتغمره بحنانها الفياض وحبها الغامر.
في واقع الأمر لم يكن التخلي عن الهاتف تخليا عن العالم، بل كانت عودة إليه، كانت عودة إلى النفس، إلى الوقت، إلى الصفاء، إلى الأهل وأولي القربى، وإلى الحياة التي كانت تنتظرنا منذ زمن.
إذا كان الهاتف يأخذ من روحك أكثر مما يعطيك، فإبعاده ليس خسارة، بل خطوة أولى نحو العودة إلى الذات، والعودة إلى الطبيعة والسكينة، والقطيعة مع القلق والتوتر والكآبة إلى الأبد.
________________________________________
الكاتب: عبد القادر بدر
- التصنيف: