قراءة سورة الأعراف في صلاة المغرب: دراسة فقهية
الإمامة في الصلاة لها فضل عظيم وبالأخص اذا كان الإمام من اهل الفقه في الدين وحبب المصلين في صلاة الجماعة.
دكتور : أحمد عبد المجيد مكي
الإمامة في الصلاة لها فضل عظيم وبالأخص اذا كان الإمام من اهل الفقه في الدين وحبب المصلين في صلاة الجماعة.
وقد اتفق العلماء على أن القراءة بعد الفاتحة سنة، لا تبطل الصلاة بتركها، ولا يسجد لها المصلي سجود السهو، سواء تركها عمدا أو سهوا, كما اتفقوا على أن التخفيف على المأمومين مطلوب في حق الإمام، لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، أما المنفرد فله أن يطول ما شاء.
إشكالية المقال:
ورد ان النبي صلى الله عليه وسلم قرأ سورة الأعراف كاملة في صلاة المغرب ، ومعلوم أن صلاة المغرب وقتها ضيق ، وسورة الأعراف من أطول سور القران، فهل صح ذلك عن النبي؟، وهل يستحب للإمام فعل ذلك؟، وهل صحيح ان هذا الأمر من السنن المهجورة كما يدعي البعض؟
نحاول الاجابة على هذه التساؤلات في السطور التالية، وقد حاولت الاختصار قدر الإمكان، بما يحقق الغرض و لا يخل بالمضمون.
نص الحديث:
روى البخاري في صحيحه عن عروة بن الزبير، عن مروان بن الحَكَمِ، ، قال: «قال لي زيد بن ثابت: مالكَ تقرأ في المغرب بِقِصَارِ المُفَصَّلِ، وقد سمعتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم- يقرأ بطُولى الطُّوليْين؟»
أي بأطول السورتين الطويلتين وهما الأعراف والأنعام ، واطولهما: الأعراف.
والمُفَصَّلِ : هو -على الراجح- من أول سورة الحجرات إلى آخر القرآن، سمي مفصلًا؛ لكثرة فواصله، ولقصر سوره.. وهو أقسام ثلاثة:
طوال المفصل: من أول ق إلى آخر المرسلات. أوساط المفصل: من أول النبأ إلى آخر الليل. قصار المفصل: من أول الضحى إلى آخر الناس.
أقوال العلماء:
اختلف العلماء في القراءة في المغرب على قولين: فذهبت طائفة من السلف إلى جواز تطويلها، وذهب أكثر العلماء إلى استحباب تقصيرها، أشار إلى ذلك الحافظ ابن رجب الحنبلي في قوله:
فإن قرأ الإمام في المغرب بهذه السور الطوال ففي كراهته قولان:
أحدهما: يكره، وهو قول مالك.
والثاني: لا يكره، بل يستحب، وهو قول الشافعي؛ لصحة الحديث بذلك، حكى ذلك الترمذي في جامعه ، وكذلك نص أحمد على أنه لا بأس به، ولكن أن كان ذلك يشق على المأمومين، فإنه يكره أن يشق عليهم([1]).
أدلة القول الاول- القائلين بالجواز، بشرط ان لا يشق على المصلين :
حجتهم في ذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث السابق.
وجه الدلالة : أن زيد بن ثابت أنكر على مروان المواظبة على القراءة بقصار المفصل، ولو كان مروان يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم واظب على ذلك لاحتج به على زيد.
أجاب المانعون على هذا الحديث بعدة اجوبة، أهمها وأقواها – من وجهة نظري-ما يلي:
الجواب الأول- ان النبي ﷺ قرأها لسبب:
الغالب العام من قراءة النبي صلى الله عليه وسلم هو التخفيف ولعل هذا التطويل كان لسبب ، فقد كان لمرة واحدة فقط ، ولم يرد في شيء من الاحاديث انه تكرر ، فيحتمل انه لم يكن خلف النبي من يشق عليه القيام وعلم ذلك، أو كان منه ذلك في باديء الأمر حتى خفف وأمر الأئمة بالتخفيف.
وقد سئل العلامة ابن باز رحمه الله: هل يجوز للإمام أن يقرأ بسورة الأعراف في المغرب؟
فأجاب: الأوْلى تركها لا شك ؛ لئلا يشق على الناس، ولم يُرْوَ أنه كررها ﷺ، إنما يُروى مرة واحدة. ولعل النبي ﷺ قرأها لسبب؛ لأن الرسول استقرت سنته على التقصير في المغرب ، وإذا قرأ الإمام في بعض الأحيان بالطور أو المرسلات فلا بأس ([2]).
وسئل العلامة ابن عثيمين رحمه الله نفس السؤال فأجاب بمثل ذلك ، وأضاف: من يريد أن يطبق السنة، لا يطبقها في المسجد العام الذي يأتيه كل أحد، والقراءة بسورة الأعراف ليست من السنة راتبة، ولعل الرسول فعلها مرة واحدة([3]).
وأجاب أصحاب القول الأول على ما سبق بأن: ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، وثبتت مواظبته عليه فهو مستحب، وما لم تثبت مواظبته عليه فلا كراهة فيه ... ولم يُرِد زيد بن ثابت من مروان- فيما يظهر- المواظبة على القراءة بالطوال، وإنما أراد منه أن يتعاهد ذلك كما رآه من النبي صلى الله عليه وسلم ([4]).
ويجاب عن هذا الاعتراض بما ذكره بعض الأصوليين من أن الفعل إذا لم يثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم إلا مرة واحدة، وثبت مواظبته بخلافه، فإن الفعل- الذي لم يواظب عليه- ليس بمستحب.
وأود أن انبه الى ان حديثنا هنا عن القراءة بسورة الأعراف ، فلو قرأ الإمام -في الركعتين- بسورة الطور أو المرسلات احيانا جاز، لأنها ليست في الطول مثل الأعراف.
الجواب الثاني-الحديث مُتَكلم فيه من جهة الاسناد:
- قال الحافظ ابن رجب الحنبلي بعد ان ذكر ثلاثة أنواع من الاختلاف في إسناد الحديث: ولعل الإمام مسلم أعرض عن تخريج هذا الحديث لاضطراب إسناده؛ ولأن الصحيح عنده إدخال (مروان) في إسناده، وهو لا يُخِرج لهُ استقلالاً، ولا يحتج بروايته... الى قوله
... وعن هشام بن عروة، أن أباه كانَ يقرأ في المغرب بنحو ما تقرءون {{وَالْعَادِيَاتِ}} ونحوها من السور.وهذا مما يعلل به حديثه عن مروان، عن زيد بن ثابت، كما تقدم([5])
- فتوى الشيخ مصطفى العدوي:
قال الشيخ حفظه الله: الحديث انتُقِد على البخاري بشدة ، وسبب الانتقاد ان السند فيه رجل متكلم فيه بشدة، وهذا الرجل هو مروان ابن الحكم القاتل، الذي قتل أحد العشرة المبشرين بالجنة، وهو الصحابي الجليل طلحة ابن عبيد الله ، قتله ظلما وعدوانا لثأر كان بينهما في الجاهلية، لهذا لم يحمده الناس، وقد انتُقِد الامام البخاري بإخراجه لمروان، في حين اعرض عنه الامام مسلم، وقد اخرج البخاري لمروان، لكنه لم يخرج له منفردا، انما اخرج له مقرونا بغيره، والحديث روي من طرق اخرى كلها معلولة.
الجواب الثالث- الأولى الرجوع إلى أقوال النبي لا إلى أفعاله عند التعارض:
من المعلوم عند الاصوليين انه إذا تعارض دليلان أحدهما من قول النبي صلى الله عليه وسلم والثاني من فعله، وجب ترجيح القول على الفعل، لأن دلالة القول على الحكم أقوى وأبلغ في البيان من الفعل.
ولشيخ الاسلام ابن تيمية كلام دقيق جدا ومهم في هذه النقطة، يقول رحمه الله :
وطاعة الرسول فيما أمرنا به هو الأصل الذي على كل مسلم أن يعتمده، وهو سبب السعادة، كما أن ترك ذلك سبب الشقاوة، وطاعته في أمره أولى بنا من موافقته في فعل لم يأمرنا بموافقته فيه باتفاق المسلمين، ولم يتنازع العلماء أن أمره أوكد من فعله؛ فإن فعله قد يكون مختصا به، وقد يكون مستحبا، وأما أمره لنا فهو من دين الله الذي أمرنا به([6]).
وقال الإمام الصنعاني : قد ثبت أمره بالتخفيف لمن أمَّ الناس. وأنكر على معاذ تطويله. فالأولى الرجوع إلى أقواله - صلى الله عليه وسلم - هنا لا إلى أفعاله، فإن الأئمة مأمورون بالتخفيف في كل الصلوات، ... فالواجب على الأئمة ملاحظة أحوال من يصلون بهم، فإن كانت في الجوامع العامة فالأولى التخفيف؛ لوجود الضعيف فيهم والمريض، وذي الحاجة ([7]).
القول الثاني : ذهب اكثر العلماء الى المنع ، روي ذلك عن عدد من الصحابة، وهو مذهب أبي حنيفة، وصاحبيه، ومالك، ورواية عن أحمد، وإسحاق ابن راهويه، ومن المعاصرين الشيخ ابن باز وابن عثيمين، وأدلتهم في ذلك:
الدليل الاول-عموم احاديث النهي عن التطويل وهي اصل في الباب:
وردت طائفة من الأحاديث في أمر الأئمة بتخفيف الصلاة دون إخلال بواجباتها وأركانها، والملاحظ ان اقوال النبي جاءت على نحوين، الأول: أمره بالتخفيف، وكذا وصيته لمن تولى الإمامة بالناس. والثاني: غضبه الشديد على من أطال بالناس الصلاة وشق عليهم فيها.
من هذه الأحاديث :
- حديث معاذ ابن جبل المشهور في الصحيح، وفيه: «أتريد أن تكون فتانا يا معاذ؟ إذا أممت الناس فاقرأ بالشمس وضحاها، وسبح اسم ربك الأعلى، واقرأ باسم ربك، والليل إذا يغشى».
قال الإمام الطحاوي: فقد أنكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على معاذ بن جبل - رضي الله عنه - قراءته بهم سورة البقرة، ونسبه إلى الفتنة وتنفير الناس عن الجماعة، وأمره بأن يقرأ بالسور القصيرة من سور المفصل .... فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقرأ في صلاة العشاء بسورة البقرة مع سعة وقتها , فصلاة المغرب، مع ضيق وقتها، أحرى أن يكون تلك القراءة فيها مكروهة.([8])
- وفي صحيح مسلم عن عثمان بن أبي العاص، قال: «آخر ما عهد إليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أَمَمْتَ قوما، فَأَخِفَّ بهم الصلاة»
وعثمان بن أبي العاص الثقفي هذا صحابي جليل، قدم مع وفد ثقيف بعد فتح مكة، وذلك في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم.
الدليل الثاني-وقت انصراف النبي صلى الله عليه وسلم من صلاة المغرب:
الحكمة في تقصير القراءة في صلاة المغرب لضيق الوقت؛ فاحتيج إلى زيادة تخفيفها، ولحاجة الناس إلى عشاء صائمهم وضيفهم، ويشهد لذلك حديث رافع بن خَدِيجٍ في الصحيحين، قال: «كنا نصلي المغرب مع النبي صلى الله عليه وسلم فينصرف أحدنا وإنه ليبصر مواقع نَبْلِهِ»، والمعنى : حتى ننصرف وإن أحدنا ليرمي النبل ويبصر موقعه، لبقاء الضوء منتشرا.
وجه الدلالة: لما كان هذا وقت انصراف النبي صلى الله عليه وسلم من صلاة المغرب، استحال أن يكون قرأ فيها الأعراف، ولا نصفها([9]).
الدليل الثالث-عمل الصحابة والتابعين مما يُشعر بحكاية الإجماع:
- عن سليمان بن يسار، عن أبي هريرة، أنه قال: ما صليت وراء أحد أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم من فلان. قال سليمان: فصليت وراء ذلك الرجل فرأيته يقرأ في المغرب بقصار المفصل، ويقرأ في العشاء بالشمس وضحاها وأشباهها ([10]).
راوي الحديث هو سليمان بن يسار المدني، أخو عطاء بن يسار، من أهل المدينة، وكبار التابعين؛ كان فقيها فاضلا ثقة عابدا ورعا حجة، وهو أحد الفقهاء السبعة.
والرجل المشار اليه في الحديث، اسمه عمر بن سلمة أحد أئمة المسجد النبوي.
- وذكر الترمذي: أن العمل عند أهل العلم على القراءة في المغرب بقصار المفصل. وهذا يُشعِر بحكاية الإجماع عليه ([11]).
الدليل الرابع –عمل أهل المدينة وما استقر عليه الأمر:
- قال أبو العباس القرطبي : وما ورد من الإطالة فيما استقر فيه التقصير أو من التقصير فيما استقرت فيه الإطالة، كقراءته في الفجر بالمعوذتين - وكقراءة الأعراف والمرسلات في المغرب- فمتروك ... وقد استقر عمل أهل المدينة على إطالة القراءة في الصبح قدرًا لا يضر من خلفه بقراءتها بطوال المفصّل...، وتخفيف القراءة في المغرب، وتوسيطها في العصر والعشاء. وقد قيل في العصر: إنها تُخفّف كالمغرب([12]).
- وقال الحافظ ابن حجر: ذُكِرَ عن مالك أنه كره أن يُقْرأ في المغرب بالسور الطوال نحو الطور والمرسلات، وقال الشافعي: لا أكره ذلك بل أستحبه ، والمعروف عند الشافعية أنه لا كراهية في ذلك ولا استحباب ، وأما مالك فاعتمد العمل بالمدينة بل وبغيرها ، قال بن دقيق العيد: استمر العمل على تطويل القراءة في الصبح وتقصيرها في المغرب ([13]).
الخلاصة والترجيح:
- عند التأمل والنظر في هذين القولين يظهر أن القول الراجح هو الثاني، القائل بعدم استحباب قراءة الإمام بسورة الأعراف في صلاة المغرب، و استحباب تخفيف القراءة فيها، وكراهية تطويلها, ولا سيما في حق الإِمام الذي يصلي وراءه قوم ضعفاء أو كسالى، أو يكون إمام مسجد عام يرتاده الغريب والبعيد.
- حديث قراءة سورة الأعراف في صلاة المغرب متكلم فيه من جهة الاسناد، وانتُقِدَ الإمام البخاري في تخريجه، في حين أن أحاديث الأمر بالتخفيف والنهي عن الإطالة كثيرة، وكثير منها متفق عليه وفي أعلى درجات الصحة ، وبعضها قاله النبي في آخر حياته.
- موافقة القول الراجح للمقاصد الشرعية من النهي عن المشقة ومراعاة احوال الناس.
-القول بأن - قراءة الإمام سورة الأعراف في صلاة المغرب من السنن المهجورة- كلام غير دقيق، إذ كيف تكون من السنن المهجورة ولم ينقل عن السلف - في القرون الأولى ومن بعدها- فعلهم لذلك.
والله تعالى أعلى واعلم.
([1]) فتح الباري لابن رجب (7/ 32).
([2]) الموقع الرسمي للعلامة ابن باز.
([3]) الشرح الصوتي لزاد المستقنع - ابن عثيمين (1/ 1177).
([4]) فتح الباري لابن حجر (2/ 248).
([5]) فتح الباري لابن رجب (7/ 25).
([6]) الفتاوى الكبرى لابن تيمية (2/ 154) ، مجموع الفتاوى (22/ 321).
([7]) التحبير لإيضاح معاني التيسير (5/ 306).
([8])شرح معاني الآثار (1/ 214).
([9]) شرح معاني الآثار (1/ 213).
([10]) رواه احمد قي مسنده برقم (10882) وقال المحقق: إسناده قوي على شرط مسلم، ورواه النسائي (2/167 ).
([11]) فتح الباري لابن رجب (7/ 25).
([12]) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (2/ 72)
([13]) فتح الباري لابن حجر (2/ 248)
- التصنيف: