رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (76)- يقظتنا ويقظتهم (3)

كان المستشرقون منذ نأنأة الاستشراق وإلى هذا اليوم  يجوبون دار الإسلام من أطرافها إلى قلبها، يلاقون الخاصة من العلماء، ويخالطون عامة المثقفين والدهماء، وفي قلوبهم حمية الحقد المكتم، وفي النفوس العزيمة المصممة، وفي العيون اليقظة، وفي العقول التنبه، وفي الوجوه البشر والبراءة، وفي الألسنة الحلاوة والتملق، ولبسوا لجمهرة المسلمين كل زي، وتوغلوا يستخرجون كل مخبوء، وكانت بلادهم يومئذ قريبة عهد بعصر النهضة وعصر اليقظة وعصر الإحياء، فهم على أتم معرفة بأسرار اليقظة كيف تبدأ وإلى أين تنتهى، فأدركوا إدراكًا واضحًا لا لجاجة فيه أن ما كان يجري في دار الإسلام منذ منتصف القرن الـ 11 الهجري، إلى منتصف القرن الـ 12 الهجري، إنما هو يقظة حقيقية، ونهضة كاملة، وإحياء صحيح، منبثق كله من ينبوع صافٍ عتيقٍ، طمست معالمه كر الدهور والقرون، هو جميعه في حوزة دار الإسلام، وهم في يقظتهم هذه يومئذ عالة عليه، ولا يستقون إلا من ثماده بعد جهد جهيد، فوجفت قلوبهم ورجفت من هول ما هم مقبلون عليه، إذا تمت لدار الإسلام اليقظة، واستوت وبلغت أشدها، واستقامت خطواتها على سنن الطريق!

رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (74)- يقظتنا ويقظتهم!

دوت أسماء هؤلاء الخمسة في أرجاء دار الإسلام، وأشتات غيرهم، مؤذنة بيقظة جديدة، وإحياء لعلم الأمة ولغتها وثقافتها، واستعادة لسيطرة الأمة على أسباب حضارتها الزاهرة القديمة، وإرادة لبعثها بعثًا جديدًا، دون شعور واضح أو علم مستبين، بالذي كان يجري في ديار المسيحية الشمالية من يقظة ونهضة وبعث جديد. ونصيحة وتنبيه، لا تنظر إلى الفرق الهائل الكائن اليوم بين الشمال المسيحي والجنوب الإسلامي، فإنك إن فعلت ضللت عن الحقيقة. والحقيقة يومئذ أن الفرق بيننا وبينهم كان خطوة واحدة تستدرك بالهمة والصبر والدأب والتصميم لا أكثر، بل أكبر من ذلك، فإن اليقظة الأوربية كانت بعد في أول الطريق وتتكئ اتكاءً شديدَا على ما كان عندنا من العلم المسطور في كتبنا برموزه التي تحتاج إلى استبانة وفهم، وعلى العلم الحي الذي عند أهل دار الإسلام. 

رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (75)- يقظتنا ويقظتهم (2)

وكل الفرق بين اليقظتين يومئذ هو أن يقظتنا كانت هادئة سليمة الطوية منبعثة من داخلها، ليس لها هدف إلا استعادة شبابها ونصرتها في حدود الإسلام، وإن كانت يومئذ يقظة متباعدة الديار،غير متماسكة الأوصال، ولكنها كانت قريبة التواصل، وشيكة الالتئام، أم يقظتهم فكانت متفجرة بحقد قديم مكظوم شيمته السطو الخفي، وشملها مجتمع بالضغينة المتقادمة، وهدفها إعداد العدة لاختراق دار الإسلام بالدهاء والخداع والمكر، أي هما يقظتان كانتا في زمن واحد، إحداهما من طبيعتها الرفق المهذب، والأخرى من طبيعتها العدوان الفاجر، فانظر الآن ماذا كان بعد ذلك، لأمر أراد الله أن يكون. ودع عنك ما تقوله اليوم حياتنا هذه الأدبية الفاسدة. 

رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (23)- إصلاح الخلل

ومضى نحو قرن ونصف من الحملات الصليبية، وأصبح الأمر أشد حرجًا، وصار بينا أن الحرب الصليبية توشك أن تؤوب بالإخفاق مرة أخرى. فانبعث منهم رجال يطلبون العلم والمعرفة في أرض الإسلام ما استطاعوا، في المشرق وفي الأندلس، وظهر رجال من طبقة "روجر بيكن" الإنجليزي، ممن شاموا العرب والعربية، وجاهدوا في التعلم جهاد المستميت بصبر ودأب، ليزيحوا عن أنفسهم وأهليهم غوائل الجهل. وهب رجال من الرهبان ذوي الحمية أحسوا بالخلل الواقع في الحياة المسيحية التي لم تحم رعاياهم من التساقط السهل في الإسلام على طول قرون، هبوا   لإصلاح هذا الخلل. فكان من أكبرهم رجل ذكي متوقد، جاهد جهادًا عظيمًا في سبيل دينه، أراد أن يزيل جهالة الرهبان والملوك، ويمكن لهم حجة مقنعة تحول بينهم وبين هذا الانبهار بالإسلام وثقافته وحضارته. ذلك الرجل هو "توما الإكويني" الإيطالي الكاثوليكي، وبذكائه وحميته وإخلاصه، استطاع أن يفهمه ويظفر به من كتاب الإسلام وعلمائه وفلاسفته ومتكلميه، كابن رشد وابن سينا وغيرهم، مريدًا بكل ذلك إصلاح الخلل الواقع في الحياة المسيحية. 

رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (73)- الجبرتي الكبير والإفرنج

يقول ابنه عبد الرحمن الجبرتي المؤرخ: "وحضر إلىه طلاب من الإفرنج، وقرأوا عليه علم الهندسة، وذلك في سنة 59 (1159هـ)، وأهدوا إليه من صنائعهم وآلاتهم أشياء نفسية، وذهبوا إلى بلادهم ونشروا بها العلم من ذلك الوقت وأخرجوه من القوة إلى الفعل، واستخرجوا به الصنائع البديعة مثل طواحين الهواء، وجر الأثقال، واستنباط المياه، وغير ذلك". وهؤلاء الإفرنج هم المستشرقون، والجبرتي الكبير رحمه الله، كان على خلق أهل الإسلام، فلم يضن على أحد من هؤلاء الإفرنج بشيء من علمه، ولا أساء بهم الظن، بل عمل بما أدبه به نبيه صلى الله عليه وسلم «من سئل عن علم فكتمه، ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار» (رواه أحمد في المسند [7561]). ولو علم الجبرتي بخبيئة أنفسهم وهم يتملقونه ويتخشعون بين يديه، فلا أدري ماذا كان يفعل، وهو الفقيه المفتي رحمه الله؟

رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (10)- الأصل الأخلاقي (1)

والحديث عن الأصل الأخلاقي في كل ثقافة يطول ويتشعب، ولكن من المهم أن تعلم أنه ليس قواعد عقلية ينفرد العقل بتقريرها ابتداءً من عند نفسه، لأن القواعد العقلية مهما بلغت من القوة والسيطرة لا تستطيع أن تقوم بهذا العبء، لسبب لا يمكن إغفاله في مثل هذه القضية، وهذا السبب هو أن الأمر كله متعلق بالإنسان نفسه. وكل إنسان صندوق مغلق، فيه من الطبائع والغرائز والأهواء المتنازعة بين الخير والشر، وفيه أيضًا من القوة والضعف، مقادير مختلفة لا تكاد تضبط أحوالها وآثارها، ولا يكاد يضبط تقلبها تقلبًا يفضي إلى حيرة في شأن صاحبها. فالظابط في هذا الموج المتلاطم المتصادم في الصندوق المغلق لا بد أن يكون كامنًا في سريرة الإنسان نفسه. فالقواعد العقلية المجردة لا تكاد تقوم بهذا العبء كله، بل العقائد وحدها هي صاحبة هذا السلطان على الإنسان. ولذلك قلت إن هذا الظابط الرقيب يأتي من قبل الثاقفة ورأس الثقافة الدين. 

رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (72)- خمسة من الأعلام

هبَّ البغدادي في منتصف القرن 11 الهجري، فألف ما ألف ليرد على الأمة قدرتها على التذوق، تذوق اللغة والشعر والأدب وعلوم العربية، وهبَّ ابن عبد الوهاب يكافح البدع والعقائد التي تخالف ما كان عليه سلف الأمة من صفاء عقيدة التوحيد، وهي أركان الإسلام الأكبر، ولم يقنع بتأليف الكتب بل نزل إلى عامة الناس في بلاد جزيرة العرب وأحدث رجة هائلة في قلب دار الإسلام، وهبَّ المرتضى الزبيدي يبعث التراث اللغوي والديني وعلوم العربية وعلوم الإسلام، ويحيي ما كاد يخفى على الناس بمؤلفاته ومجالسه، وهبَّ الشوكاني محييًا عقيدة السلف، وحرم التقليد في الدين، وحطم الفرقة والتنابذ الذي أدى إلى اختلاف الفرق بالعصبية، أما خامسهم، وهو الجبرتي الكبير، فكان فقيهًا حنفيًا كبيرًا، عالمًا باللغة وعلم الكلام، ولكنه في سنة 1144هـ ولى شطر العلوم التي كانت تراثًا مستغلقًا على أهل زمانه، فجمع كتبها من كل مكان، وحرص على لقاء من يعلم سر ألفاظها ورموزها، حتى ملك ناصية كل الرموز.  

رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (70)- ما بعد فتح القسطنطينية (1)

غبر ما غبر، ودخلت دار الإسلام في سنة لذيذة أورثتها نشوة النصر المؤزر، ودخلت أوربة كلها في عزيمة حاسمة لترد عن عرضها العار، وبلغ السيل الزبي، فكانت يقظة محسوسة في جانب، وغفوة لا تحس في جانب، وشال الميزان، وانطلقت الأساطيل الأوربية تطوق دار الإسلام من أطرافها البعيدة، فإذا دار الإسلام محصورة في الجنوب، بعد أن كانت حاصرة المسيحية في الشمال، وشيئًا فشيئًا فقدت دار الخلافة في القسطنطينية هيبتها وسيطرتها، وصارت لأوربة هيبة مرهوبة وسيطرة!

شخصيات قد تهتم بمتابَعتها

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً