كيف أحقق منزلة القرب من الله؟
أنا فتاة في الخامسة عشرة من عمري، أُحب الله كثيرًا، وأحس أن بيني وبينه رابطًا وثيقًا، لا أعرف ماهيته، أحس بأنه يسمعني عندما أكون بحاجةٍ له، وأتحدث معه بيني وبين نفسي، وغالبًا ما تحدث معي أشياء أحس بأنه قدَّرها لي ليحميني من ارتكاب الأخطاء، ويجعلني أفكر مليًّا فيما أفعله؛ مما يقنعني بالعزوف عنها.
فما تفسير ما أشعر به لأني لم أفهم سبب ذلك في الفترة الأخيرة، ابتعدت عن الله كثيرًا، ولم أعد ألتزم بصلاتي، وأصبحت أعاني من صداعٍ شديدٍ، وفقدان شهية، وعدم تركيز في دراستي التي أنا متفوقة فيها، ذهبتُ إلى الطبيب، ففسَّر ذلك بأن أعصابي متعبة لأني أعاني من مرض فقر الدم، لكني أحس أن هذا مسٌّ أو عينٌ.
كذلك حلمت من فترة أنني كنت أحمل أخي الصغير، ففوجئت بلقاء النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي كان يحول بيني وبينه غبارٌ منعني مِن رؤية وجهه، فأشار بأصبعه لي أنا وأخي، وقال لنا: إننا سندخل الجنة، لكننا يجب أن نُغَير أسماءنا!
فما هذا الحلم؟ وهل هناك علاقة بين هذا الحلم وحالتي النفسية؟
الحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ عَلَى رسولِ اللهِ، وعَلَى آلِهِ وصحبِهِ وَمَن والاهُ، أمَّا بعدُ:
فما كنت تشعرين به -أيتُها الابنةُ الكريمةُ- وتتنعمين به هو منزلة القربِ من الله تعالى، فالله -عَزَّ وجَلَّ- قريبٌ من عباده المؤمنين قربًا حقيقيًا كما يليق بجلاله وعظمته، وقربه منهم -وهو مُسْتَوٍ على عرشه- بائنٌ مِن خلقه، فقُربُ الله من عباده المؤمنين باللطفِ، والنُّصرةِ، والاستجابة، وغيرِ ذلك، وهو خاصٌّ بالمؤمنين؛ لذلك لا يوجدُ القرب في القرآن الكريم ولا في السنة المشرفة إلا خاصًّا، بخلاف المعيَّةِ العامة لجميع الخلق والتي تكون بالعلم، والقدرة، والقهر؛ قال تعالى: {إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56].
فهو -سبحانه- قريبٌ من التائبين، يجيب دعاءهم، ويثبت جنانهم، ويُذيقُهُم من حلاوة القرب منه ما يعوضهم عما فقدوه؛ كما قال تعالى: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} [هود: 61]، كما أنه -سبحانه- قريبٌ من المستغفرين والتائبين إليه، فكما أنه مجيبٌ لمن سأله ودعاه، فكذلك قربه -سبحانه وتعالى- للتائب والمستغفر، وقال -تعالى-: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [الإسراء: 57]، وقال عن كليمه موسى -عليه السلام-: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} [مريم: 52].
وجاء رجلٌ إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، أقريبٌ ربنا فنناجيه أم بعيدٌ فنناديه؟ فسكت النبي -صلى الله عليه وسلم- فأنزل الله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186].
وفي الصحيحين: «
» ، وروى الترمذي: « » الحديث، وقال -عز وجل- في الحديث القدسي: « »؛ (متفقٌ عليه) .في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكنا إذا أشرفنا على وادٍ، هللنا وكبرنا، ارتفعت أصواتنا، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «
»، إلى غير ذلك من الأدلة الكثيرة من الكتاب والسنة التي تدل على قرب الله تعالى من عباده المؤمنين حال تلبثهم بالعبادة.قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "شرح حديث النزول" (ص: 104): "وقربه من العباد بتقربهم إليه مما يقر به جميع من يقول: إنه فوق العرش".
وقال: (ص: 114): "وجميع ما وصف به الرب - عز وجل - نفسه من القرب، فليس فيه ما هو عام لجميع المخلوقات كما في المعية؛ فإن المعية وصف نفسه فيها بعمومٍ وخصوصٍ. وأما قربه مما يقرب منه، فهو خاص لمن يقرب منه؛ كالداعي، والعابد، وكقربه عشية عرفة، ودنوه إلى السماء الدنيا؛ لأجل الحجاج، فهي عامةٌ للخلائق أجمعين".
وقال أيضًا (ص: 138- 139): "فكلما تقرب العبد باختياره قدر شبرٍ، زاده الرب قربًا إليه حتى يكون كالمتقرب بذراعٍ، فكذلك قرب الرب من قلب العابد، وهو ما يحصل في قلب العبد من معرفة الرب والإيمان به، وهو المثل الأعلى، وهذا -أيضًا- لا نزاع فيه، وذلك أن العبد يصير محبًّا لما أحب الرب، مبغضًا لما أبغض، مواليًا لمن يوالي، معاديًا لمن يعادي، فيتحد مراده مع المراد المأمور به الذي يحبه الله ويرضاه.
وهذا مما يدخل في موالاة العبد لربه، وموالاة الرب لعبده، فإن الولاية ضد العداوة، والولاية تتضمن المحبة والمُوافَقة، والعداوة تتضمن البُغض والمخالفة."
وقد ثبت في صحيح البخاري، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: يقول الله تعالى: «
».فأخبر -سبحانه وتعالى- أنه يقرب العبد بالفرائض، ولا يزال يتقرَّب بالنوافل حتى يحبه الله، فيصير العبد محبوبًا لله؛ كما قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31]، وقال تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54]، وقال تعالى: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195]، وقال تعالى: {فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 4]، وقال: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ﴾ [التوبة: 7]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222]، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف: 4]، وقال تعالى: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة: 108]، وقال تعالى: {وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 146]". اهـ.
فبادري -أيها الابنة الكريمة- بالرجوع إلى الله، وإلى ما كنت عليه مِن العمل الصالح، وقفي بباب الله تعالى؛ لتحققي منزلة القرب ثانية بالمحافظة على الفرائض، وأهمها الصلاة لوقتها؛ فقد عرفت طريق الخير، وليس مَن عرَف كمن لم يعرف، فاستمري على الطاعة، والاستقامة على شرع الله، والمواظبة على ذكر الله -تبارك وتعالى، وأكثري من دعاء الله أن يعينك الله على ذكره، وشكره، وحسن عبادته؛ فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «
» (صحيح الجامع 7739).أما ما تشعرين به أو بالأحرى تظنينه مسًّا أو عينًا، فدعكِ من تلك الوساوس، وواظبي على ذكر الله، وقراءة القرآن، تحصني -إن شاء الله- من شياطين الإنس والجن، وارقي نفسك بالفاتحة، والمعوذات وآية الكرسي.
أما رؤية النبي -صلى الله عليه وسلم- فبشارة خيرٍ، ولكن أسرعي الفرار إلى الله؛ حتى ينقشع ذلك الغبار الذي بينكما، وتتمكني من رؤية الحبيب -صلى الله عليه وسلم- وغيري من حالك للأحسن.
وفقك الله لكل خير.
- التصنيف:
- المصدر: