الوسوسة بالرياء

منذ 2014-05-02
السؤال:

عندما أريد أن أقول مثلاً: جزاك الله خيرًا، تقول نفسي: إنك تقول ذلك رياءً!

كذلك كنتُ مُقتنعًا بأن الإسبال محرمٌ للخُيَلاء، فلم أسبلْ، وبعدها أسبلتُ، وقلتُ: هذا لغير الخيلاء. ثُمَّ تزوج أخي، فجاءتني فكرة الزواج مِن فتاةٍ أبوها ملتزمٌ، فقلتُ: مِن الضروري أن يراني غير مُسبل، وبعدها قلتُ: هذا رياءٌ؛ فلم أسبلْ لأجله.. ثم يأتي التسويف والتأجيل. ما نصحيتكم؟

 

الإجابة:

الحمدُ لله، والصلاةُ والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، أما بعدُ:

فأنتَ تعلم -أيها الأخ الكريم- أنَّ الرِّياء إحدى صُوَر الشِّرْك الأصغر؛ كما في الحديث عن محمود بن لبيدٍ، أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إنَّ أخوف ما أخاف عليكم الشِّرك الأصغر»، قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: «الرياء»؛ (رواه أحمدُ)؛ فالحديثُ صريحٌ في اعتبار الرياء مِن الشرك الأصغر.

والرياءُ هو: أن يعمل العمل مِن قراءةٍ، أو صلاةٍ، أو صدقاتٍ، أو غير ذلك؛ ليراه الناس، فيحمدوه، أو يعظموه، أو ينفعوه، وهو عكس الإخلاص الذي هو تجريد قصد الله بالعبادة؛ يعني: العمل لإرادة وجه الله تعالى والدار الآخرة؛ وفي الحديث القدسيِّ عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «قال الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، مَن عمل عملًا أشرك فيه معي غيري، تركتُه وشركه» (رواه مسلمٌ).

فيجب علينا جميعًا -أخي الكريم- أن يكونَ عمَلُنا لله - جل وعلا - وأن نُكره أنفسنا على الإخلاص، ونُخَلِّصَ أعمالنا مِن الشوائب التي تتوارد عليها بحظوظ النفس، أو إرادات الدنيا التي هي مِن أعظم آفات الأعمال.

ولكن لا ينبغي أن يصلَ الأمرُ لدرجة الوسوسة، أو أن نتركَ العمل الصالح؛ مخافةَ الرياء، فإنَّ العمل لِأَجْلِ الناس شركٌ، وتَرْك العمل لِأَجْل الناس رياءٌ، والإخلاص أن يُعافيك الله منهما؛ كما قال الفُضَيْلُ بن عياض، قال النوويُّ معلقًا على كلام الفضيل: "إنَّ مَن عَزَم على عبادةٍ وتركها مخافةَ أن يراه الناس فهو مُراءٍ؛ لأنه ترَك العمل لأجل الناس".

وقال ابن حَزْمٍ -رحمه الله- في "الأخلاق والسير في مداواة النفوس" (ص: 16): "لإبليس في ذم الرياء حِبالَةٌ؛ وذلك أنه رُبَّ ممتنعٍ مِن فِعل خيرٍ خوفَ أن يُظَنَّ به الرياء". اهـ، ولذلك ينصح مَن طرَقَهُ مثلُ هذا ألا يلتفتَ إليه، وأن يمضيَ في عمله إغاظةً للشيطان.

فسِرْ على بركة الله -أيها الأخ الكريم- وقَصِّر ثيابك؛ خوفًا مِن الوعيد الوارد في الإسبال، والله يوفقك.

أمرٌ أخيرٌ أُحِبُّ أن أنبِّهك إليه، وهو أنَّ أيَّ شيءٍ يقع فيه الإنسان في الحياة الدنيا مما حرَّمه الله يحتاج إلى توبةٍ؛ فالتوبةُ لا بد منها لكلِّ مؤمنٍ، بل لا يكمل أحدٌ، ويحصل له كمال القرب مِن الله ويزول عنه كل ما يكره إلا بها؛ كما قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة.

وأرجو منك أن تتأمل ما كتبه شيخُ الإسلام ابن القيِّم وهو يذكر الوجه التاسع عشر من وجوه الحكمة مِن خَلْق الشَّرِّ، فقال في "شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل" (ص: 222- 223): "أنه - سبحانه - يفرح بتوبة عبده إذا تاب إليه أعظم فرحٍ يقدر، أو يخطر ببالٍ، أو يدور في خلدٍ، وحصول هذا الفرح موقوفٌ على التوبة الموقوفة على وجود ما يُتاب منه، وما يتوقف عليه الشيء لا يوجد بدونه؛ فإنَّ وُجود الملزوم بدون لازمه محالٌ، ولا ريب أنَّ وجود الفرح أكمل مِن عدمه، فمِن تمام الحكمة تقديرُ أسبابه ولَوازمه، وقد نبه أعلم الخلْقِ بالله على هذا المعنى بعينه؛ حيث يقول في الحديث الصحيح: «لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقومٍ يذنبون، فيستغفرون الله، فيغفر لهم»، فلو لم يقدر الذنوب والمعاصي فلِمَنْ يغفِر، وعلى من يتوب؟ وعمن يعفو ويسقط حقه، ويظهر فضله، وجُوده، وحلمه، وكرمه، وهو واسع المغفرة، فكيف يُعَطِّل هذه الصفة؟ أم كيف يتحقق بدون ما يغفر، ومَن يغفر له، ومَن يتوب، وما يتاب عنه، فلو لم يكنْ في تقدير الذنوب والمعاصي والمخالفات إلا هذا وحده لكفى به حكمةً، وغايةً محمودةً، فكيف والحِكَم والمصالح والغايات المحمودة التي في ضمن هذا التقدير فوق ما يخطر بالبال، وكان بعض العباد يدعو في طوافه: اللهم اعصمني مِن المعاصي، ويُكَرِّر ذلك، فقيل له في المنام: أنت سألتني العصمة، وعبادي يسألونني العصمة، فإذا عصمتكم مِن الذنوب، فلِمَنْ أغفر؟ وعلى مَن أتوب؟ وعمن أعفو؟ ولو لم تكن التوبة أحب الأشياء إليه، لما ابتلى بالذنب أكرمَ الخلْقِ عليه".

وتأمَّل -أيضًا- كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (15/ 51): "وليست التوبة نقصًا؛ بل هي مِن أفضل الكمالات، وهي واجبةٌ على جميع الخلْقِ؛ كما قال تعالى: {وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا * لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب: 72، 73]، فغايةُ كل مؤمنٍ هي التوبة، ثم التوبة تتنوع؛ كما يُقال: حسنات الأبرار سيئات المقربين، والله تعالى قد أخبر عن عامة الأنبياء بالتوبة والاستغفار؛ عن آدم، ونوحٍ، وإبراهيم، وموسى، وغيرهم...، فتوبة المؤمنين واستغفارهم هو مِن أعظم حسناتهم، وأكبر طاعاتهم، وأجلُّ عباداتهم التي ينالون بها أجل الثواب، ويندفع بها عنهم ما يدفعه من العقاب.

فإذا قال القائل: أي حاجةٍ بالأنبياء إلى العبادات والطاعات؟ كان جاهلًا؛ لأنهم إنما نالوا ما نالوه بعبادتهم وطاعتهم، فكيف يقال: إنهم لا يحتاجون إليها؟ فهي أفضل عبادتهم وطاعتهم، وإذا قال القائل: فالتوبة لا تكون إلا عن ذنبٍ، والاستغفار كذلك، قيل له: الذنب الذي يَضر صاحبه هو ما لم يحصل منه توبةٌ، فأما ما حصل منه توبةٌ فقد يكون صاحبه بعد التوبة أفضل منه قبل الخطيئة؛ كما قال بعض السلَف: كان داود بعد التوبة أحسن منه حالًا قبل الخطيئة، ولو كانت التوبة من الكفر والكبائر، فإن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار هم خيار الخليقة بعد الأنبياء، وإنما صاروا كذلك بتوبتِهم مما كانوا عليه مِن الكفر والذنوب، ولم يكن ما تقدم قبل التوبة نقصًا ولا عيبًا؛ بل لما تابوا من ذلك وعملوا الصالحات كانوا أعظم إيمانًا وأقوى عبادةً وطاعةً ممن جاء بعدهم؛ فلم يعرف الجاهلية كما عرفوها.

ولهذا قال عمر بن الخطاب: إنما تنقض عرى الإسلام عروةً عروةً، إذا نشأ في الإسلام مَن لَم يعرف الجاهليةَ".

رزقنا الله وإياك الإخلاص في السرِّ والعلَن.

خالد عبد المنعم الرفاعي

يعمل مفتيًا ومستشارًا شرعيًّا بموقع الألوكة، وموقع طريق الإسلام

  • 2
  • 0
  • 13,623

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً