أيتام .. وأبي على قيد الحياة!
مشكلتنا هي أبي، ومعاملته القاسية لنا، وإنكاره لنا ولأمنا؛ أبي مُتَزَوِّج من 3 زوجات، وأمي هي الزوجةُ الأولى، عاشتْ جميعَ أنواع العذاب النفسي، وأدى هذا الألمُ النفسي إلى مرَضِها جسديًّا، وليست هي وحدها، بل جميعنا أُصيب بالأمراض النفسية، والتي تحولَتْ إلى عضوية؛ مِن اكتئاب إلى قولون، إلى خلل في الأعصاب.
أبي لا يعترف بحُقوقنا عليه، لكنه يعترف بحقوقه علينا؛ يأمُر وينهى، وجميع طلباته لا تعرف كلمة (لا)، ونحن نعمل جاهدين على إرضائه.
يُرضي زوجتَه الثالثة على حسابنا؛ فهي مَن تمرض، وهي صاحبةُ القلب الأبيض، وهي أفضلُ امرأة، وقد نَسِيَ أمي؛ تعبها، وسهرها معه، أهدتْهُ عمرها، وهو ينكر ذلك بكل بساطة، وكل ما يُردِّده أنه نادمٌ على الزواج بها، وأنه نادمٌ على إنجابنا، وأننا عارٌ عليه، ويسبنا ويسبُّ أمَّنا، ويتهمها بأنها تُحَرِّضنا عليه!
أما هي فتقول لنا: هو أبوكم مهما فعل، لا تعصوا له أمرًا.
أبي لا يُنْفِق علينا، ويأمرنا بدَفْعِ الإيجار والإنفاق على المنزل، نحْرِمُ أنفسنا مِن جميع مُتَعِ الدنيا، وهو يُنكرنا، ذَهَب عمرنا سدًى، ولا نعلم لِمَ هذه المعاملة القاسية، فأفواهنا جائعة لحنانه، ونحلم باحتضانه لنا.
أبي لا يعلم عنا أي شيء، وجميع مَن يعرف حالنا يشير على أمي بالطلاق، لكن أمي صابرة مِن أجلنا، فما الحل مع أبي.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعدُ:
فبدايةً -أيتها الابنة الكريمة- أُحَيِّي أمك الفاضلة على صبرها، واحتسابها، وبذل التضحيات تترَى، وإيثار مصالح أبنائها على حساب نفسها، وهذا مِن الوفاء النادرِ، الذي يَدُلُّ على كمال عقْلِها، وحُسْنِ توجيهها لكم، وإني لأعْجَبُ مِن حِرْصِها على بِرِّ والدكم بالرغم مِن كلِّ ما تذكرينه، وغالب الظن أنَّ مِن وراء ذلك إيمانًا صلبًا يُهَوِّن عليها الصعابَ، ويُرَغِّبها في جزيل الثواب، وأن الله تعالى سيُعَوِّضها خيرًا.
الابنة الكريمة، أتَفَهَّمُ أنَّ ظُلْمَ الوالد وتقصيرَه شديدُ الوقْعِ على النفس، وشديدُ الحرقة؛ كما قال الشاعر:
وَظُلْمُ ذَوِي القُرْبَى أَشَدُّ مَضَاضَةً *** على المَرْءِ مِنْ وَقْعِ الحُسَامِ المُهَنَّدِ
وللتغلُّب على تلك الحُرقة أذكُر لك نقاطًا؛ عسى الله أن يجعلَها سببًا في جلاء الهَمِّ، وتبصرك بالطريق القويم:
- ذَكِّري نفسَك دائمًا بأنَّ المُقَصِّر في البر -من ابنٍ أو أبٍ- سيُحاسِبُه اللهُ على تقصيره في القيام بواجباته الشرعية، وكذلك المُحْسِن سيُجازيه الله على بِرِّه، وإحسانه، وصبره، واحتسابه.
- مِن عظمة هذه الشريعة وكمالها أنها تدعو إلى الإحسان إلى الوالدين، ومصاحبتهما بالمعروف، وإن كانا كافِرَيْنِ بالله، شريطةَ ألا نُطيع في المعصية؛ فلا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق؛ {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [لقمان: 15].
- الإيمان بالقدَر؛ خيره وشره، حُلوِه ومُرِّه؛ فالمسلمُ مأمورٌ بأن ينظرَ إلى القدَر عند المصائب، ولا يتحسَّر، ويعلم أنَّ ما أصابه لم يكن ليُخطئه، وأنَّ ما أخطأه لم يكن ليُصيبه؛ فالنظَرُ إلى القدَر عند المصائب، والاستغفار عند المعايب - فِعْلُ أفضل الخَلْقِ؛ كما قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد: 22، 23]، وقال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ}[التغابن: 11]؛ قال عَلْقَمَةُ وغيرُه: هو الرجلُ تُصيبه المصيبة، فيعلم أنها مِن عند الله، فيرضى ويُسَلِّم، وقال تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [غافر: 55].
- أوصيك بالإحسان إليه، والصبرِ عليه؛ كما تفعل الوالدةُ الكريمةُ، وهذا مِن مصلحة الجميع؛ أن تظلَّ حِبالُ الوصال موجودةً، وإن كانتْ ضعيفةً؛ حتى لا يتسعَ الخَرْقُ على الراقع، واجتهدي في التخفيف عن والدتك.
- اجتهدي في اختيار الوقتِ المناسِبِ لبَذْلِ النُّصْح للوالدِ، وإخباره ببعضِ ما تشتكون منه، وليكنْ ذلك برِفْقٍ ولينٍ وحُسْنِ خُلُقٍ جَمٍّ وبَشاشة وَجْهٍ؛ فذلك أدْعى للقَبول.
وفَّقك الله لكلِّ خيرٍ.
- التصنيف:
- المصدر: