داء التشتت!

منذ 2015-07-13

الإيمان هو جالب السكينة والطمأنينة في النفس، وأن التوكل على الله سبحانه هو الباعث على الثقة في الحركة والأداء، وأن الحكمة يلزم أن تكون ضالة المؤمن دومًا، وأن مشاورة الخبراء واستخارة الخالق سبحانه أساسية في كل خطوة، وأن الدعاء رابط أصيل وحبل متين يربط أحدنا بربه عز وجل.. وأنه سبحانه قريب مجيب.

السؤال:

تمر بي الأيام بغير هدف ظاهر، ولا طريق واضح، ولا أمل مرجو، ولا إنجاز معتبر، مشتت الذهن، متخبط في حياتي، لا أكاد أستطيع أن أجد نفسي؟؟

الإجابة:

هذه الحالة التي يشكو منها هذا الشاب منتشرة بشكل كبير، خصوصًا بين طبقة الشباب، وكذلك بين طبقة المثقفين، وهما طبقتان مهمتان للبناء والرقي، سبب هذه الحالة عادة، هو ضعف الإنجاز لشخص يتسم بنفس طموحة، وطاقة كبيرة، نتيجة سوء التوجيه، وفقدان الناصح، وذوبان الهدف..

إنها ثغرة تربوية واسعة في جدار الأجيال من حولنا، علينا أن نولي الاهتمام نحوها، دراسة وتشخيصًا وعلاجًا، في أحيان كثيرة نكتفي من الشاب بكونه حسن الظاهر، جيد السمت، هادىء الانفعالات، خصوصًا إذا كان سائرًا في دراسته على وجه طبيعي غير متعثر، وربما اعتبرناه بهذه الصفات نموذجًا مناسبًا للشاب الذي نريد!

يخفى علينا من هذا الشاب أمواج هادرة تموج في نفسه، وترددات طاغية تتردد في عقله، وأفكار مشتتة تلف في مخيلته تجعله يفقد توازنه، ويفتقد الحكمة التي يجب أن تقود سلوكه، والبصيرة التي تضىء طريقه، قبل أيام لقيني أحد هؤلاء الشباب، حسن الظاهر، هادىء الطباع، يبدو مثقفًا، عرفت بعد ذلك أنه في نهائي أحد الكليات العليا، كان يبدو عليه التوتر، قال: "إنه يسعى لمقابلتي منذ أيام..".

بعد حديث مسهب يملؤه التلعثم والحكاية، وأنصاف الابتسامات، وأنصاف الجمل الواضحة، عرفت أن قصته تتلخص في إعجابه بفتاة، غير متدينة، من طبقة غنية، الأمر حتى هنا لا يبدو فيه شيء يدعو إلى الحكاية، إلا أن باقي القصة هي وجه الاستدلال فيما أريد، فالشاب يعلم أنها غير مناسبة له على شتى المستويات، ويعترف بذلك، قائلًا: "إنها لا تناسبني أبدًا، لا اجتماعيًا، ولا دينيًا ولا خلقيًا"!

إذن فماذا يجعلك متعلقًا بها؟ وما الذي يدعوك للانشغال بها؟ وما سبب توترك هذا وقلقك الذي أراه؟ لقد كان جوابه على هذا كله: "أنه يحبها، وأن صورتها لا تكاد تفارق مخيلته! وأن هذا منذ سنين وهو يكتمه، حتى فاض به"، فما الذي أهوى بهذا الفتى في تلك الهاوية، ولماذا لم يجد ناصحًا له منذ البداية، وكيف سيطرعليه هوى نفسه حتى خالف ثوابته؟!

شاب آخر لقيني بمثل توتر الأول أو أشد، لكنه زاد عليه لمحة من خجل اعترت وجهه، جعلته يقص شكواه وهو ينظر إلى الأرض، فهو يشكو من إدمانه ما يسمى بالعادة القبيحة، رغم سمته الهادىء، وثقافته ومستواه الاجتماعي المتميز، وما يبدو عليه من صفات حسنة!

مشكلة الشاب لا تقتصر على أزمة العادة القبيحة فحسب، لكنها كادت أن تدمر حياته بما يحيطها من تتبع للإباحية، وضياع للأوقات وسهر، وعدم إنجاز وخمول وشعور بالمرض! فما السبب وراء إدمان هذا الشاب تلك العادة؟ ولماذا لم يمنعه معرفته لضررها من أن يدمنها؟ ولماذا لم يسع لعلاجها منذ سنين؟!

شاب ثالث، شكواه من نوع آخر، فهو ذكي مثقف، محب للعلم، غير أنه مشتت بين أوراق الكتب العلمية، لا يكاد ينتهي من كتاب أبدًا، بل يقرأ ها هنا ثم يتنقل، ثم يمل، ثم يغير، ثم يمل.. وهكذا
وهو في كل ذلك لا يشعر بشيء من الإنجاز فيما يتعلم، ولا يدري مواصفات الطريق الذي يسير فيه وإلى أين ومن أين، وما هي علامات نجاحه وفشله! فما السبب وراء عدم الإنجاز لذلك الشاب، وماذا يجعله مشتتًا بهذا الحال؟!

هذه الأمثلة وغيرها كثير يجمعها داء التشتت، بل إنني قد رأيت هذا الداء في وجه بعض الدعاة، وبعض المربين ولا يستطيع أن يخفيه، بل يطغى على محياه ليل نهار، إننا بحاجة إلى مراقبة ومتابعة تربوية منذ بداية الطريق، يتابعنا فيها الأبوان بعلم وخبرة ودراية، ثم يتابعنا كذلك مربون ناصحون، ومعلمون نابهون، يأخذون بأيدينا نحو الصوابية.

الآباء والأمهات عليهم واجب كبير في اكتشاف مواهب الأبناء، وتوجيههم الوجهة الصالحة من البداية، وتشجيعهم على سد ثغرات شخصياتهم، وبناء شخصية جادة صريحة، تعرف ما تريد وتسعى إليه.

والمربون دورهم الهام يبتدىء بتذليل العقبات النفسية والاجتماعية أمام الشباب، لتستقيم شخصياتهم، ويستطيعون علاج ما يشكون منه من أمراض أو آلام أو عادات سيئة.

المربون يجب أن يفهموا أن دورهم ليس تعليميًا فحسب، بل هو توجيهي نصحي علاجي، وهم في ذلك يعتبرون خط المواجهة المهم أمام المستجدات النفسية والاجتماعية التي تنشأ أمام الشباب.

يجب أن يعلم المربي أن النفس الإنسانية مترامية الأطراف عميقة النوازع، كثيرة الحنايا، فلا يجب أن يكتفي منها بظواهر، ولا يجب أن يطمئن منها بسمات، بل عليه أن يسعى للإبحار في عمقها، للاطمئنان عليها من الأمراض والشكاوى.

تحديد نوعية الشخصية والوقوف على مثاليها، وتوصيف أمراضها، والبحث عن علاجها، ثم بلورة أهداف لها، ثم دعمها في سبيلها لهدفها المحدد هو جوهر العملية التربوية المرجوة، والتهاون أو التغاضي عن أي خطوة من تلك الخطوات قد يورث أخطاء لا حصر لها، ربما تبدو بعد فترة في صور سلبية مؤلمة.

يجب أن نُعلم شبابنا كيف يقولون لا لبعض المواقف والخيارات، وكيف يصرون على اتخاذ بعض الاختيارات التي يجدونها متلائمة مع سبيلهم وطريقهم وقدراتهم.

يجب أن نُعلمهم أن الإيمان يجب أن يمس القلب وينطلق منه وأن كل سلوك لا ينطلق من القلب فهو أجوف، وأن القلب هو قائد حركة الإنسان، وأن القلب يجب أن يكون سليمًا من الشبهات والشهوات، وإذا سقطت به زلة أن يسارع إلى التوبة والأوبة منها.

يجب أن نُعلمهم أن الإيمان هو جالب السكينة والطمأنينة في النفس، وأن التوكل على الله سبحانه هو الباعث على الثقة في الحركة والأداء، وأن الحكمة يلزم أن تكون ضالة المؤمن دومًا، وأن مشاورة الخبراء واستخارة الخالق سبحانه أساسية في كل خطوة، وأن الدعاء رابط أصيل وحبل متين يربط أحدنا بربه عز وجل.. وأنه سبحانه قريب مجيب.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه وجمع له شمله وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه وفرق عليه شمله ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له» (أخرجه الترمذي وابن ماجه).

 

خالد رُوشه

  • 6
  • 0
  • 15,676

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً