أفيدونا رحِمكم الله

منذ 2010-06-16
السؤال:

أعمل في مؤسَّسة تعليميَّة ذات فلسفة إسلاميَّة، تَرى إدارتُها أنَّ فرض فلسفتها على طلبتِها أمرٌ في غاية الخطأ؛ لما له من تأثيرٍ سلبيّ على سمعة وقبول الطلبة عليها وخصوصًا إذا صاحبها سُمعة التَّشدّد؛ لكون ليس كلّ ملتحقيها ملتزمين.
المطلوب شيخي الفاضل: كيف للمؤسسة أن تتعامَلَ مع مُخالفات الطَّالبات تَحديدًا في الالتزام بالزّيّ الشَّرعي؟ وخصوصًا أنَّه أحدُ شروط الالتِحاق بالمؤسسة للدّراسة؟ هل تَمنع منعا باتًّا أم تتعامَل باللّيونة والتَّوجيه والدَّعوة وخلق آليات استقطاب؟
وما هي أفضل الأساليب؟
وما هو المستند الشَّرعيّ للّيونة التي من الممكن أن تتعامَل بِها المؤسَّسة مع الطالبات؟
أرجو أن أكونَ قد أوصلتُ سؤالي، برجاء الإفادة لأنَّ الأمر ضروري ويكادُ يتسبَّب في فتنةٍ بيْن القائمين على المؤسَّسة بين اللّين والشّدَّة وبيْن الاتّهام بالتَّساهُل وبين التَّشدّد في أمور ليس من حقّكم لكون الطالبة المخالفة تَعيش في مُجتمع غير ملتزم فليس من المنطقي أن تُجبرها على فلسفة لم تتربَّ عليها... وبارك الله فيكم.

الإجابة:

الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصَحْبِه ومَن والاه، أمَّا بعدُ:
فمن المعلوم من دين الإسلام بالضَّرورة أنَّ الحجاب من فرائض الإسلام الحتميَّة، وأنَّه كمال الأدب ورمزُ الحياء، وقد بيَّنَّا حكمه مفصَّلا في الفتوى: "حكم خلع الحجاب طاعة للرئيس في العمل" والفتوى "فرضية الحجاب وأهميته" لـسماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز.
فالواجب على كلّ مسلمة أن تنقادَ لأوامر الله ورسوله - صلى الله عليه وسلَّم - مهما كانت صعبةً أو شاقَّة على النفس، فالمؤمنُ الحقّ الصادق في إيمانه هو الذي يَصْدُق في تَحقيق طاعة ربِّه - سُبحانه وتعالى - وامْتِثال أوامره، واجتِناب نواهيه، وليس للمؤمن ولا المؤمنة أن يتلكَّآ أو يتردَّدا في الأمر، بل يَجِبُ السَّمع والطاعة مُباشرة؛ عملاً بقوله جلَّ وعلا: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]،
وهذا هو دأب المؤمنين الذين مدَحَهُم ربُّهم - سبحانه وتعالى - بقوله: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَائِزُونَ} [النور: 51- 52].
ومن ذلك يُعلَم أنه لابدَّ من إلزام الطالبات بالزّيّ الشَّرعيّ، وبيان حُكْمِه لهنَّ، والتناصح إليهنَّ بالرفق واللين والحجة والإقناع، والرَّدّ على شُبَهِهنَّ، فإنِ استجبن لله ورسولِه فبها ونعمت، وإن أبَيْنَ، فيكون إلزامُهنَّ بالزّيّ شرطًا من شروط القبول، سواء كان التزامهن به عن اقتناع ومحبة أو عن إجبار، وهذا أصلحُ لِتِلْك المؤسَّسة من عدَّة وجوه:-
الأول: أنَّ التَّفريطَ في أمر الحجاب والتَّهاوُن فيه يُفْضِي إلى انتِشار الفساد وشُيوع الرَّذيلة والمُنْكرات - والعياذ بالله - كما لا يخفى.
الثاني: أنَّه يضرّ بالمحجَّبات من حيث تأثّرهنَّ بالمتبرّجة؛ فالإنسان مَجبولٌ على التأثّر بزملائه وأصدقائه، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلَّم -: "المَرْءُ على دين خليلِه، فلْيَنْظُرْ أحدُكم مَن يُخالِل"؛ رواه أحْمد وأبو داود والتّرمذيّ. ""عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ" أَيْ على عَادَةِ صَاحِبِهِ وطَرِيقَتِهِ وسِيرَتِهِ "فَلْيُنْظَرْ" أَيْ فلْيَتَأَمَّلْ ولْيَتَدَبَّرْ "مَنْ يُخَالِلْ" مِن المُخَالَّةِ وهي المُصَادَقَةُ والإِخَاءُ, فَمَنْ رَضِيَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ خَالَلَهُ ومَنْ لا تَجَنَّبهُ, فَإِنَّ الطِّبَاعَ سَرَّاقَةٌ وَالصُّحْبَةُ مُؤَثِّرَةٌ في إصْلاحِ الحَالِ وإِفْسَادِه، قال الغَزَالِيُّ: مُجَالَسَةُ الحَرِيصِ وَمُخَالَطَتُهُ تُحَرِّكُ الحِرْصَ وَمُجَالَسَةُ الزَّاهِدِ ومُخَالَلَتُهُ تُزَهِّدُ في الدُّنْيَا; لأَنَّ الطِّبَاعَ مَجْبُولَةٌ على التَّشَبُّهِ والاقْتِدَاءِ بَل الطَّبْعُ يَسْرِقُ مِن الطَّبْعِ مِنْ حَيْثُ لا يَدْرِي" اهـ من "تحفة الأحوذي".
فتجِدُ الطالبات الملتزمات بالزّيّ الشرعي يُزَيّن لهنَّ الشيطان التبرّج وينظُرْنَ لِصَواحِبِهنَّ المتبرِّجات نظرةَ إعجاب - لا سيَّما مع طول الصحبة - فيتبرَّجن مثلهن، ولأنَّ عادة الله جرت بأن المريض يعدي السليم، والفتن أخَّاذة، ومنِ استشرفها استشرفته، وصدق النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ قال:
"مثل الجليس الصالِح والجليس السَّوء، كحامل المِسْك، ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يُحْذِيك، وإمَّا أن تبتاع منه، وإما أن تشمَّ منه ريحًا طيّبة، ونافخ الكير إمَّا أن يُحرِق ثِيابك وإمَّا أن تَجِدَ منه ريحًا خبيثة"؛ رواه البخاري ومسلم.
الثالث: أنَّ القَائِمُ على أمْر هذه المؤسَّسة يَجِبُ أن يأمُرَ بالمعروف وينهى عن المنكر، فإنه مسئولٌ عن ذلك أمامَ الله تعالى يوم القيامة؛ فعن عبدالله بن عُمر يقول: سَمعت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلَّم - يقول: "كلُّكم راعٍ وكلّكم مَسؤولٌ عن رعيَّتِه، الإمام راعٍ ومسؤول عن رعيَّته، والرَّجل راعٍ في أهْلِه وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعيةٌ في بيت زوجِها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راعٍ في مال سيّده ومسؤول عن رعيَّته، قال: وحسبت أن قدْ قال: والرَّجُل راعٍ في مال أبيه ومسؤولٌ عن رعيَّتِه، وكلّكم راعٍ ومسؤولٌ عن رعيَّته"؛ رواه البخاري ومسلم.
وقال: "إنَّ الله سائلٌ كلَّ راعٍ عمَّا استرْعاه: أحفِظ ذلك أم ضيَّع"؛ رواه النسائي.
قال النَّووي: "الرَّاعِي هُوَ الحَافِظ المُؤْتَمَن المُلْتَزِم صَلاح ما قام عليهِ، وما هُوَ تَحْت نَظَره، فَفِيهِ أَنَّ كُلّ مَنْ كانَ تَحْت نَظَره شَيْء فَهُوَ مُطَالَب بِالعَدْلِ فِيهِ، والقِيَام بِمَصَالِحِهِ في دِينه وَدُنْيَاهُ وَمُتَعَلِّقَاته".
وليعلم أنَّ قبول الطَّالبات المتبرّجات وعدَم إلْزامِهِنَّ بالزّيّ الشَّرعيّ إقرارٌ لَهُنَّ على ذلك، ومَن أقرَّ فهو شريكٌ في الإثم، غاشّ لرعيَّته كما قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: "ما من عبدٍ يَسترعيه الله رعيَّة يَموت يوم يَموتُ وهو غاشٌّ لرعيته إلا حرَّم الله عليه الجَنَّة"؛ رواه مسلم.
وروى أيضًا عائذُ بن عمرو - وكان من أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم - دخَلَ على عُبيْدالله بن زياد فقال: أي بني إني سَمِعْتُ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقولُ: " إنَّ شرَّ الرّعاء الحُطَمة فإيَّاك أن تكونَ منهم".
قال النووي : "قال القاضي عياض - رحِمه الله -: معناه بيّن في التَّحذير من غشّ المسلمين لِمن قلَّده الله تعالى شيئًا من أمرهم، واسترعاه عليهم، ونصبه لمصْلَحَتِهم في دِينِهم أو دُنياهم، فإذا خان فيما اؤتُمِنَ عليه فلم ينصحْ فيما قلَّده، إمَّا بتضييعه تعريفَهم ما يلزمهم من دينهم وأخذهم به وإمَّا بالقيام بِما يتعيَّن عليه من حِفْظ شرائعهم والذَّبّ عنها لكل متصدّ لإدخال داخلة فيها أو تحريف لمعانيها أو إهْمال حدودِهم أو تضييع حقوقِهم أو ترك حِماية حوزَتِهم ومُجاهدة عدوّهم أو تَرْك سيرة العدل فيهم فقد غشَّهم. قال القاضي: وقد نبَّه - صلى الله عليه وسلَّم - على أنَّ ذلك من الكبائر المُوبقة المبعدة عن الجنَّة، والله أعلم".
هذا يَعني عِظَمَ المسئولية الملْقاة على عاتق مَن يقوم بإدارة هذا المكان، لاسيَّما في هذا الزَّمَنِ الذي تساهل فيه الكثيرُ من النّساء والرّجال في أمر الحجاب، مِمَّا يُحتّم عليه أن يتَّقي الله في نفسِه وفي رعيَّتِه، وأن يكون حازمًا تِجاهَ هذا الأمر بِلا تَهاون، إبراءً لذمَّته، وحذرًا من الدخول في الوعيدِ المَذْكُور في الحديث السابق.
ووجودُ المرأة في مُجتمع غير ملتزم بتعاليم الإسلام لا يُعْفِيها من أداء هذه الفريضة، ولا يُعْفِي مَن يتولَّى أمْرَها كذلك، فبسبَبِ انتشار الفسق والفُجور قد يتعرَّض لَها في عرضها، والحجاب سببٌ في حِمايتها، وبه تُعْرَف عفَّتها، لذلك قال تعالى في نِهاية الآية السابقة: "ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً" [الأحزاب: 59].
أمَّا كلمتي اللّين والشّدَّة فلهما معانٍ صحيحة، ولكن أيضًا قد يُراد بِهما معانٍ باطلة تعود على الشَّرع بالإلغاء، فالمعنى الصَّحيح للتشدّد هو التَّنطّع ومُجاوزة الحدّ في التَّعسير على النَّاس، كما فعلتِ الخوارج في التَّكفير بالكبائر أو بتَرْكِ أعيان العمل.
أمَّا لو أطلق التّشدّد على التّمسّك بالدَّليل الصَّحيح، فلا شكَّ أنَّه معنى باطل.
وكلمة اللّين إن كانتْ بِمعنى التَّيسير فيما أذِنَ فيه الشَّرْع، فصحيحةٌ؛ ومنه قولُ عائشة - رضي الله عنها -: "ما خُيِّر رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بين أمريْنِ إلا أخذ أيسرَهُما، ما لم يكن إثمًا، فإنْ كان إثمًا كان أبعدَ النَّاس منه".
وأمَّا من أراد التفسّخ من أوامر الشريعة متذرّعًا بأنَّ الشريعة مبنيَّة على التيسير فلا،، والله أعلم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نقلاً عن موقع الآلوكة على شبكة الانترنت.

خالد عبد المنعم الرفاعي

يعمل مفتيًا ومستشارًا شرعيًّا بموقع الألوكة، وموقع طريق الإسلام

  • 0
  • 0
  • 14,705

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً