صحة الأقوال في اللحية وتقصيرها

منذ 2012-05-06
السؤال:

انتشر في الإنترنت والمنتديات هذه الأيام الأقوال التالية في اللحية وهي:
1- عن جابر بن عبد الله قال: (كنا نعفي السِبَال، إلا في حج أو عمرة)؛ أخرجه أبو داود.
قال ابن حجر في الفتح (10/350): "وأخرج أبو داود من حديث جابر بسند حسن قال: كنا نعفي السِبَال إلا في حج أو عمرة ..." ثم قال: "السِبَال بكسر المهملة وتخفيف الموحدة جمع سبله بفتحتين، وهي ما طال من شعر اللحية، فأشار جابر إلى أنهم يقصرون منها في النسك".

2- قال الإمام الطبري (9/134): "حدثنا هشيم قال: أخبرنا عبد الملك عن عطاء عن ابن عباس: أنه قال - في قوله تعالى: {ثم لْيقضوا تفثهم} - التفثُ: حلق الرأس، وأخذٌ من الشاربين، ونتف الإبط، وحلق العانة، وقص الأظفار، والأخذ من العارضين، ورمي الجمار، والموقف بعرفة والمزدلفة" انتهى.

3- أخرج ابن أبي شيبة (5/226) قال: "حدثنا وكيع عن أبي هلال؛ قال: سألت الحسن وابن سيرين فقالا: لا بأس به أن تأخذ من طول لحيتك".

4- وقال أيضاً في (5/225): "حدثنا أبو خالد عن بن جريج عن بن طاووس عن أبيه، أنه كان يأخذ من لحيته، ولا يوجبه".

5- وأخرج في (5/225) أيضاً قال: "حدثنا أبو عامر العقدي عن أفلح قال: كان القاسم (يعني بن محمد) إذا حلق رأسه، أخذ من لحيته وشاربه".
نرجو التوجيه حول صحة المذكور، وهل هي فعلاً تدل على جواز الأخذ من اللحية ولا شيء في ذلك؟

الإجابة:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

فحديث جابر المذكور في السؤال والآثار المذكورة معه، لا تدل على جواز أخذ ما زاد على القبضة من اللحية من جهة الرواية ومن جهة الدراية:

أما من جهة الرواية:
فالحديث أخرجه أبو داود في "سننه" (4201)- ومن طريقه الرامَهُرمُزِي في "المحدث الفاصل" (ص433) – وابن عَدي في "الكامل" (5/302)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (54/92)، من طريق أبي جَعْفَرٍ النُّفَيْلِيّ، والخطيب في "الكِفَاية" (ص265) من طريق أحمد بن عبد المَلِك؛ كلاهما عن زُهَيْر بن معاوية، عن عبد الملك بن أبي سُلَيْمان، عن أبي الزُّبير، عن جابِر، به. [ولفظ الكفاية: "ما كُنَّا نعفى السِبَال إلا في حج أو عمرة"]
والحديث حسَّنه الحافظ ابن حجر في "فتح الباري"، وضَعَّفَهُ الألباني في "ضعيف أبي داود"؛ وغالب الظن أنه ضعفه لأنه من رواية أبي الزُّبَيْر، عن جابر، وأبو الزبير مُدَلِّس وقد عَنْعَنَه.
وأخرجه ابن أبي شَيْبَة في "مصنفه" (25895) عن عَائِذ بن حَبِيب، والبَيْهَقِي في "سننه" (5/33) من طريق عبد الرحمن بن محمد المُحَارِبِي؛ كلاهما عن أشْعَث بنِ سَوَّارٍ، عن أبي الزُّبَير، عن جابر، قال: "كنا نؤمر أن نُوَفَّرَ السِّبَالَ في الحج والعمرة"، قال المُحَارِبي: "يعني يوم النَّحْر عِنْدَ الحَلْق". [وليس عند ابن أبي شيبة: "في الحج والعمرة"].
وأخرجه الطبراني في "الأوسط" (8908)عن مقدام بن داود،عن أبي الأسود، عن ابن لَهِيْعَة، عن أبي الزُّبَيْر، عن جابر: "أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ نهى عن جز السِبَال".
قال الطبراني:لم يروِ هذا الحديث عن أبي الزُّبير إلا ابن لَهِيعَة؛ تَفَرَّد به أبو الأسوَد.
قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(5/167): رواه الطبراني في الأوسط عن المقدام بن داود، وهو ضعيف.

أما من جهة الدِّرَاية: فالحديث لا يدل على جواز الأخذ من اللحية – على فرض صحته – ولا حُجَّة فيه؛ لأمور منها:
أولاً: أنه ليس في محل النزاع أصلاً؛ فالسِبَال لغةً: جمع السَّبلة بالتحريك، والسّبلة: الشّارب؛ كما في "النهاية"، وفسرها الفقهاء من الشافعية والحنابلة وقول عند الحنفية والمالكية بطرف الشّارب، إلا أنه لا بأس عند الشافعية بترك السِبَالتين؛ لفعل عمر - رضي الله عنه - وقيل: السبال من اللّحية، وهو القول الثاني عند الحنفية والمالكية؛ قال ابن عابدين – الحنفي -: " أمّا طرفا الشّارب وهما السّبالان, فقيل : هما من الشّارب وقيل : من اللّحية, وعليه فقد قيل : لا بأس بتركهما, وقيل: يكره لما فيه من التّشبه بالأعاجم وأهل الكتاب, قال : وهذا أولى بالصّواب" .
والراجح أن السِبَال من الشارب؛ لحديث ابن عمر وأبي أمامة الآتيين، وعلى أي الحالين فالحديث لا يدلُّ على أخذ مازاد عن القبضة.

ثانيًا: أن معنى الحديث، الأمر بمخالفة أهل الكتاب والأعاجم والمجوس، كما رجحه الحافظ ابن حجر في الفتح، وابن عابدين في الحاشية، وغيرهما؛ لما رواه أحمد في "مسنده"، والطبراني في "الكبير" عن أبي أمامة، قال: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على مشيخة من الأنصار بيض لحاهم؛ فقال: "يا معشر الأنصار حَمِّرُوا وصَفِّرُوا وخالفوا أهل الكتاب... إن أهل الكتاب يَقُصُّون عثانينهم، ويوفرون سِبَالهم"، قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "قصوا سِبَالكم، ووفروا عثانينكم، وخالفوا أهل الكتاب"، قال الهيثمي في "المجمع": "رجال: أحمد رجال الصحيح، خلا القاسم، وهو ثقة"، وحسنه الألباني في "السلسلة الصحيحة"، والعَثَانِين جمع عُثْنون وهي اللحية.

وأخرج ابن حبان في "صحيحه" ، والطبراني في "الأوسط"، وابن عدي في "الكامل"، والبيهقي في "سننه"، وفي "شعب الإيمان" جميعهم من طريق مَعْقِل بن عبيد الله، عن ميمون بن مهران، عن ابن عمر قال: "ذُكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم المجوس فقال: "إنهم يوفرون سِبَالهم ويحلقون لحاهم فخالفوهم"، فكان ابن عمر يَجز سِبَاله كما تُجز الشاة أو البعير".

قال الحافظ العراقي في "طرح التثريب": "وكره بعضهم بقاء السِبَال؛ لما فيه من التشبه".

أما الآثار الواردة في السؤال: فالأثر الأول الذي أخرجه الإمام الطبري (9/134): "حدثنا هشيم قال: أخبرنا عبد الملك عن عطاء عن ابن عباس: أنه قال - في قوله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُم}- التَّفَثُ: حَلْقُ الرأس، وأخذٌ من الشاربين، ونتف الإبط، وحلق العانَة، وقصُّ الأظفار، والأخذ من العارضين، ورمي الجِمَار، والموقف بعرفة والمزدلفة" انتهى.

فهذ الأثر إسناده صحيح، وقد صححه الشيخ الألباني في الضعيفة (13/441). وعبد الملك هو ابن أبي سليمان العرزمي، وعطاء هو ابن أبي رباح.
وأخرجه المحاملي في أماليه (135) : ثنا محمود بن خداش، قال: حدثنا هشيم به.
وقد تابع هشيمًا على روايته عن عبد الملك: عيسى بن يونس، وابن نمير.
فأما متابعة عيسى: فأخرجها أبو جعفر النحاس في معاني القرآن (4/402) بلفظ " التفث: الحلق، والتقصير، والرمي، والذبح، والأخذ من الشارب، واللحية، ونتف الإبط، وقص الأظفار".
وأما متابعة ابن نمير: فأخرجها ابن أبي شيبة في المصنف (3/429) نا ابن نمير، عن عبد الملك ... فذكره بلفظ "التفث: الرمي، والذبح، والحلق، والتقصير، والأخذ من الشارب، والأظفار، واللحية".

والأثر الثالث: الذي أخرجه ابن أبي شيبة (5/226) فقال: "حدثنا وكيع عن أبي هلال؛ قال: سألت الحسن وابن سيرين فقالا: لابأس به أن تأخذ من طول لحيتك".

فهذا الأثر مدار الحكم عليه على حال أبي هلال الراسبي، وهو صدوق اختلف أهل الحديث في توثيقه وتضعيفه، والظاهر أنه ممن لا يُحتمل تفرده، لكنه هو السائل، ومنتهى الأثر هما الحسن وابن سيرين شيخاه اللذان أجاباه، فالظاهر أن الوهم في هذا من مثله بعيد، والله أعلم.

وقد رُوي عن الحسن أنه قال: "كانوا يرخصون فيما زاد على القبضة من اللحية أن يؤخذ منها"؛ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (5/225) حدثنا عائذ بن حبيب، عن أشعث، عن الحسن، وأشعث المذكور هو ابن سوار، وهو صدوق ضعيف الحديث.
وقد قال الحافظ ابن عبد البر في التمهيد (14/146): "وكان الحسن يأخذ من طول لحيته، وكان ابن سيرين لا يرى بذلك بأسًا". فلعله يُصحح الأثر الأول عنه.

والأثر الرابع: الذي أخرجه ابن أبي شيبة أيضًا (5/225) فقال: "حدثنا أبو خالد عن بن جريج عن بن طاووس عن أبيه، أنه كان يأخذ من لحيته، ولا يوجبه".

فهذا الأثر إسناده ضعيف؛ لكون ابن جريج لم يصرح بسماعه من ابن طاوس، وقد كان رحمه الله تعالى مدلسًا، وحذر الأئمة من مروياته التي لم يصرح فيها بالتحديث، حتى قال الدارقطني: تجنب تدليس ابن جريج؛ فإنه قبيح التدليس، لا يدلس إلا فيما سمعه من مجروح، مثل إبراهيم بن أبي يحيى، وموسى بن عبيدة، وغيرهما.
كما أن أبا خالد الأحمر شيخ ابن أبي شيبة في الأثر كانت له أوهام وأغلاط، ولم يكن بالحافظ.

والأثر الخامس: الذي أخرجه ابن أبي شيبة أيضًا (5/225) فقال: "حدثنا أبو عامر العقدي عن أفلح قال: كان القاسم (يعني بن محمد) إذا حلق رأسه، أخذ من لحيته وشاربه".

إسناده صحيح، وأفلح هو ابن حميد، وقد سمع من عبد الرحمن ابن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، ومن أبيه.
وأيضا قد صح عن ابن عمر "أنه كان إذا حج أو اعتمر قَبَضَ على لحيته فَمَا فَضَلَ أَخَذَهُ"؛ رواه البخاري، وصح نحوه عن أبي هريرة.

ولا حجة في تلك الآثار على جواز الأخذ من اللحية؛ لمعارضتها للأحاديث المتواترة القاضية بوجوب إعفاء اللّحية، ولمعارضتها –أيضا- للثابت من فعل النبي صلى الله عليه وسلم قال الإمام النووي: "... فحصل خمس روايات "أَعْفُوا وَأَوْفُوا وَأَرْخُوا وَأَرْجُوا وَوَفِّرُوا" وَمَعْنَاهَا كُلّهَا : تَرْكُهَا عَلَى حَالهَا، هذا هو الظاهر من الحديث الذي تقتضيه ألفاظه، وهو الذي قاله جماعة من أصحابنا وغيرهم من العلماء". اهـ.

وقال الحافظ ابن حجرٍ في "الفتح" في معنى "أعفوا": "ذهب الأكثر إلى أنه بمعنى وفّروا أو كثّروا ، وهو الصواب". ونقل عن ابن دقيق العيد قوله: "تفسير الإعفاء بالتّكثير، من إقامة السّبب مقام المسبّب لأنّ حقيقة الإعفاء التّرك, وترك التّعرض للّحية يستلزم تكثيرها".

وقال في "تحفة الأحوذي": "وأما قول من قال إنه إذا زاد على القبضة يؤخذ الزائد واستدل بآثار ابن عمر وعمر وأبي هريرة رضي الله عنهم فهو ضعيف؛ لأن أحاديث الإعفاء المرفوعة الصحيحة تنفي هذه الآثار، فهذه الآثار لا تَصْلُح للاستدلال بها مع وجود هذه الأحاديث المرفوعة الصحيحة، فأسلم الأقوال هو قول من قال بظاهر أحاديث الإعفاء، وكره أن يؤخذ شيء من طول اللحية وعرضِهَا". اهـ.

ولأن الله تعالى افترض على المسلمين طاعة رسوله، وأمر عباده عند التنازع بالرجوع إلى الكتاب والسنة؛ فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}، وقال: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء: 59] وقال تعالى:{وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [الشورى:10]، وقال صلى الله عليه وسلم: "فإنه من يَعش منكم بعدي يرى اختلافًا كثيرًا؛ فعليكم بسُنَّتِي وَسُنَّة الخلفاء الراشدين المهديين بعدي، عَضُّوا عليها بالنَّوَاجِذ" (أخرجه أحمد وابن ماجه),, والله أعلم.

خالد عبد المنعم الرفاعي

يعمل مفتيًا ومستشارًا شرعيًّا بموقع الألوكة، وموقع طريق الإسلام

  • 4
  • 2
  • 26,162

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً